المصدر: Getty
مقال

جاذبية التقسيم

يبدو أن ما تفعله إسرائيل في سورية يصبّ في إطار تفكيك البلاد إلى كيانات طائفية وإثنية.

نشرت في ١٣ مارس ٢٠٢٥

فيما يسعى النظام السوري على ما يبدو إلى فرض نظامٍ ذي طابعٍ سلفي على مجتمع تعدّدي، اغتنمت إسرائيل الفرصة لتعزيز مصالحها الجيو-استراتيجية في سورية وإرساء وضعٍ يؤدّي إلى تقسيم البلاد. ولم تُبدِ الولايات المتحدة معارضةً تُذكر في هذا الصدد، وذلك على الأرجح لأنها تعتبر إسرائيل امتدادًا لنفوذها في الشرق الأوسط. مع ذلك، إذا كانت إدارة ترامب تريد تحقيق الاستقرار الإقليمي، فإن العمليات الإسرائيلية، إذا نجحت، قد تفضي إلى عكس ذلك تمامًا.

أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي، بعد الاشتباكات التي شهدتها مدينة جرمانا الواقعة في ريف دمشق، والتي يُعدّ معظم سكانها من المسيحيين والدروز، أن إسرائيل ستتدخّل لحماية الدروز إذا ما أقدمت قوات النظام على المساس بهم. كذلك، أكّد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس على أن الحكومة "ملتزمة تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل ببذل كل ما في وسعها لمنع تعرّض إخوانهم الدروز في سورية للأذى".

أتى ذلك بعد فترة وجيزة من إلقاء نتنياهو كلمةً أمام دفعة جديدة من الضباط في الجيش الإسرائيلي في 23 شباط/فبراير، أعلن فيها أن الجنوب السوري يجب أن يصبح منطقةً منزوعة السلاح بالكامل. فقد قال: "نطالب بالنزع التام للسلاح من جنوب سورية، في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء من قوات النظام الجديد. كذلك، لن نتسامح مع أي تهديد تتعرّض له الطائفة الدرزية في جنوب سورية". وفي 9 آذار/مارس، خطت إسرائيل خطوةً إضافية في مساعيها الرامية إلى ربط دروز سورية بإسرائيل. فقد صرّح كاتس بأن الحكومة الإسرائيلية ستسمح لهم بالدخول إلى مستوطنات مرتفعات الجولان المحتلة للعمل.

بموازاة ذلك، واصل المسؤولون الإسرائيليون إبداء دعمهم لأكراد سورية. ففي كانون الأول/ديسمبر الماضي، لفت وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إلى أن على المجتمع الدولي ضمان حماية الأكراد في وجه الهجمات التركية، معتبرًا ذلك "التزامًا من المجتمع الدولي تجاه أولئك الذين حاربوا بشجاعةٍ ضدّ [تنظيم الدولة الإسلامية]. إنه أيضًا التزامٌ تجاه مستقبل سورية، لأن الأكراد قوةٌ تسهم في الحفاظ على استقرار البلاد". وقد سمع الأكراد هذه الرسالة بوضوح. ففي وقت سابق من هذا الشهر، صرّحت إلهام أحمد، الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، وهي منطقة حكم ذاتي خاضعة لسيطرة الأكراد في سورية، لوسائل إعلام إسرائيلية بأن "أمن المناطق الحدودية في سورية يتطلّب من الجميع أن يشاركوا في الحلّ، وإسرائيل هي أحد الأطراف، وسيكون دورها مهمًا للغاية، لذلك فإن التحاور مع إسرائيل في هذا الوقت أمرٌ مهمٌ للغاية".

وتزامن كلّ ذلك مع تصاعد حدّة التوترات بين الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع وأقلّيات البلاد. ووردت أنباءٌ الأسبوع الفائت عن أن مجموعاتٍ تابعة لنظام الأسد السابق نفّذت هجمات ضدّ قوات الأمن السورية، لكن سرعان ما طغت عليها تقارير عن أن مسلحين مرتبطين بنظام الشرع ارتكبوا مجازر راح ضحيتها أكثر من 700 شخص، معظمهم من الطائفة العلوية. وصرّح مسؤولٌ دبلوماسي للصحافي الفرنسي جورج مالبرونو ما مفاده، "بدأت الرياح تجري بما لا يشتهي الشرع، فهو أخطأ باستبعاد الأقلّيات بسرعة بعد إسقاط الأسد، بدلًا من التعامل معهم كشركاء. لكن الآن، ربما يكون الأوان قد فات".

يرى الإسرائيليون في تقسيم سورية والدول العربية المحيطة بها، نعمةً. فمثل هذه النتيجة لن تضمن بقاء الدول المجاورة لإسرائيل ضعيفة فحسب، بل أيضًا، في حالة سورية، عدم وجود حكومة موثوقة قادرة على تحدّي ضمّ إسرائيل غير القانوني لمرتفعات الجولان. ومن شأن إضعاف الدول العربية أن يفتح أيضًا أبوابًا أخرى، مثل انخراط إسرائيل في عملية تطهير عرقي ضدّ الشعب الفلسطيني من خلال تهجيرهم إلى الدول المجاورة من دون مقاومة تُذكر. هذه هي المكاسب التي يمكن أن يحقّقها مخطّط الإسرائيليين بشأن سورية، أي رؤية البلاد مقسّمة على أُسس إثنية وطائفية، ما يسمح لإسرائيل بإنشاء مناطق عازلة بالقرب من حدودها أو مناطق نفوذ لها في أماكن أخرى.

وهذا الأمر ليس بجديدٍ على وجه الخصوص. فبريطانيا وفرنسا تلاعبتا بعد الحرب العالمية الأولى بسياسة الأقلّيات لتقسيم المجتمعات العربية وتعزيز سيطرتهما. ولفترةٍ من الزمن، قسّم الفرنسيون سورية إلى كيانات طائفية يُفترض أنها كانت تتمتّع بالحكم الذاتي، وأنشأوا دُويلة درزية ودُويلة علوية، ما أتاح لهم تقويض الدوافع القومية السورية. وعلى نحو مماثل، تحالفت فرنسا، لتعزيز نفوذها، مع الموارنة في لبنان وأقامت دولة لبنان الكبير، حيث التعاطف مع الفرنسيين كان أكثر بروزًا. لهذا السبب، يتناغم التفكير الإسرائيلي إلى حدٍّ كبير مع تفكير القوى الاستعمارية الأوروبية.

وللمقاربة التي تنتهجها إسرائيل حاليًا بُعدٌ ثانٍ. ففيما حاول الإسرائيليون التسبّب بتفكيك سورية، فرضوا من جانبٍ واحد نظامًا أمنيًا خاصًا بهم، يتيح لهم التدخّل متى شاؤوا من أجل التصدّي للتهديدات المحتملة. وهذا الأمر يتجلّى كل يوم تقريبًا في سورية ولبنان، حتى إن الولايات المتحدة أضفَت عليه الشرعية في الحالة اللبنانية، على شكل وثيقة جانبية إلى الإسرائيليين رافقت مفاوضات وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.

لقد كان دور الولايات المتحدة أساسيًا في هذه الأوضاع المتطوّرة. فخلال الصراع الذي أعقب هجوم حماس ضدّ البلدات الإسرائيلية في 7 تشرين الأول/أكتوبر، أيّد الأميركيون إلى حدٍّ كبير أهداف الحرب الإسرائيلية وسلّحوا إسرائيل، على الرغم من الخسائر الفادحة في أرواح المدنيين في غزة. وحينما تصاعد الصراع مع لبنان في أيلول/سبتمبر 2024، واصل الأميركيون دعم الإسرائيليين، وفرضوا اتفاق استسلامٍ مُرِّر بطريقة مُلطَّفة على أنه اتفاقٌ لوقف إطلاق النار، ووسّعوا من خلال الوثيقة الجانبية هامشَ الحرية لإسرائيل للمضيّ في عملياتها العسكرية من دون قيود. لقد تواطأت إذًا إدارة بايدن، والآن إدارة ترامب، بكل المقاييس في أفعال إسرائيل.

إذا ما افترضنا أن الأميركيين ينظرون إلى إسرائيل على أنها شرطي إقليمي مفيدٌ لهم في وقتٍ تُعيد الولايات المتحدة تركيز اهتمامها على التنافس مع الصين، فذلك يدعونا إلى طرح سؤالٍ محيّر. هل يمكن أن يؤدّي تشجيعُ إسرائيل مخطّطات التقسيم إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، أي إلى سلامٍ إسرائيلي يرسي الأساس لنظامٍ إقليميّ سلميّ؟

إن كان هذا هو المُتوقَّع، فقد يتعيّن على الأميركيين والإسرائيليين أن يستعدّوا لصحوةٍ قاسية. فالهيمنة الإسرائيلية لا يمكن أن تحقّق الاستقرار الإقليمي، لأنها تعتمد بشدّة على انعدام الاستقرار العربي. ولكي تهيمن إسرائيل على سورية، عليها أن تحرص دومًا على بقاء المجتمعات المحلية منقسمة، ذلك أنها بمجرّد أن توحّد جهودها ستكون قادرةً على تحدّي قوة إسرائيل. ثمّ كم مرّةً أدّى التقسيم الديني أو العرقي إلى أيّ محصّلة غير العنف؟ إن فلسطين، والهند، وقبرص، والبوسنة والهرسك، كلّها أمثلةٌ على حالاتٍ أسفر فيها التقسيم عن معاناةٍ لا توصَف، بحيث سَعَت المجتمعات إلى توسيع أراضيها، وتعرّضت الأقلّيات للتطهير العرقي. كتب الراحل كريستوفر هيتشنز مقالًا عن مخاطر التقسيم، خَلُص فيه بأسلوب لاذع إلى أن "الصورة الحقيقية هي على الأرجح سلسلةٌ من التفويضات غير المُتَّفَق عليها، الممنوحة لدول فاشلة أو أنظمة كانت سابقًا مسالخ بشرية".

وللأمر أيضًا تداعياتٌ إقليمية. فالسلام الإسرائيلي قد يثير الحماسة في واشنطن، ولكنه في الشرق الأوسط سيسبّب بلا شكّ قدرًا كبيرًا من الاستياء وردود الفعل السلبية، إذ يحاول خصوم إسرائيل الأساسيون تقويض تطلّعاتها الاستعمارية، ثمّ التفرّغ لتحقيق أهدافهم الاستعمارية الخاصة. تركيا وإيران هما أبرز المرشّحين لفعل ذلك، ولن تكونا الوحيدتَين على الأرجح. ومع تدخّل الأطراف الفاعلة الإقليمية في شؤون الأقلّيات لضرب الوضع القائم الذي تنتفع منه إسرائيل، يُرجَّح أن تأتي العواقب على حساب الأقلّيات نفسها، التي ستُحوَّل إلى بيادق يمكن الاستغناء عنها في حروبٍ بالوكالة.

يمكن للمرء القول إن الأميركيين لا يكترثون كثيرًا بهذه المشاكل، وليسوا معنيّين للغاية باستقرار الشرق الأوسط. ولكن في المقابل، سيؤدّي ارتباطهم العضوي بإسرائيل، وتفويضهم النظامَ الإقليمي بشكل مُطلَق إلى الإسرائيليين، إلى جرّهم مجدّدًا نحو مستنقعات المنطقة من دون شكّ، في حال رأوا أن هيمنة حليفتهم إسرائيل باتت مُعرَّضةً للخطر. ومع ذلك، لا يوجد اليوم ما يشير على الإطلاق إلى أن للولايات المتحدة أيّ مصلحة في التورّط من جديد في الشرق الأوسط.

أحبّت الولايات المتحدة، لفترة طويلة، تصوير نفسها على أنها جمهورية ديمقراطية تعارض الأساليب الإمبريالية للقوى الأوروبية. ولكن المفارقة العجيبة أن عاداتها في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب الباردة تعكس بشدّة الطريقة التي أدارت بها تلك القوى شؤون العرب في السابق. ففي العراق، حاول الأميركيون على نحوٍ أخرق إحياء أسلوب إمبريالي جديد، تحت إشراف ما سُمّي بسلطة الائتلاف المؤقّتة ولويس بول بريمر. وفي فلسطين، تضغط إدارة ترامب الآن باتّجاه نسخة شاطئية من الهندسة السكانية، على غرار ما كان مُحبَّبًا جدًّا لدى البريطانيين في عصر إمبراطوريتهم. ولا يبدو قبول الولايات المتحدة الضمنيّ لخطط التقسيم الإسرائيلية في سورية مختلفًا كثيرًا عن وجهة نظرٍ، لو كانت قائمةً قبل 109 سنوات، كانت ربما أيّدت قرار بريطانيا وفرنسا بتقسيم العالم العربي في اتفاقية سايكس-بيكو في العام 1916.

لكن ما يبعث على التفاؤل أن السوريين أنفسهم يتّخذون على ما يبدو إجراءاتٍ لتجنّب ديناميّات التقسيم. فقد اتفقت يوم الاثنين قوات سورية الديمقراطية، التي يطغى عليها الأكراد، مع حكومة الشرع على الاندماج في الحكومة الجديدة للبلاد، ما ساهم في تحييد صراعٍ كبير محتمل بين دمشق والأقلّية الكردية. وفي اليوم التالي، توصّلت الحكومة إلى اتفاق مماثل مع الطائفة الدرزية في السويداء، يفضي، من جملة أمور أخرى، إلى وضع الميليشيات الدرزية تحت سلطة وزارة الداخلية. صحيحٌ أن هذه الأخبار سارّةً، إلا أن أمورًا كثيرةً ستتوقّف في المدى المتوسط ​​على قدرة الحكومة السورية على ترسيخ نظامٍ أكثر شمولًا للجميع. وحتى ذلك الحين، سيظلّ شبح التقسيم يلوح في الأفق، بينما ستكون إسرائيل في الانتظار لتحيُّن الفرصة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.