المصدر: Getty
مقال

حذار من نداءات واشنطن المغرية

قد تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا من أجل فرض نزع سلاح حزب الله بالقوة العسكرية، لكن هذا الخيار هو الأسوأ على الإطلاق.

نشرت في ٨ سبتمبر ٢٠٢٥

كيف لنا أن نقرأ زيارة المبعوث الأميركي توم برّاك الأخيرة إلى بيروت، برفقة المبعوثة السابقة مورغان أورتاغوس التي تبدو أنها لا تزال مبعوثة، والسيناتورَين ليندسي غراهام وجين شاهين، والنائب جو ويلسون؟

من حيث الشكل، أحدث هذا الوفد جلبةً في لبنان. فقد انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو تظهر فيه أورتاغوس بتسريحة شعر نفّذها مصفّف معروف محليًا. واستخدم برّاك عبارة "حيواني" لوصف سلوك الصحافيين اللبنانيين، ما أثار موجة غضب. أما غراهام، فبعد أن خاطب اللبنانيين بنبرة استعلائية بلا ضوابط، أضاف قائلًا: "لا تسألوني أي أسئلة عمّا ستفعله إسرائيل قبل أن تنزعوا سلاح حزب الله. إذا نزعتم سلاح حزب الله، سنجري حوارًا جيدًا. وإذا لم تحقّقوا ذلك، فلا معنى للمحادثات".

ماذا يمكن للمرء أن يستخلص من هذه الزيارة الكارثية؟ أنّ مسؤولي إدارة ترامب، إلى جانب استمتاعهم بالأنشطة الترفيهية عند سفرهم إلى لبنان، يميلون أيضًا إلى تجاهل تعقيدات البلاد، مفضِّلين فرض الإملاءات بدلًا من الإنصات. لكن في ما يتعلّق بالقضايا الحقيقية، لم يقدّم الأميركيون شيئًا يُذكر. كان من المفترض أن يعود برّاك من إسرائيل وقد ضمن موافقة الإسرائيليين على تسهيل خطته الرامية إلى نزع سلاح حزب الله، لكنهم أبلغوه بدلًا من ذلك أنهم لن يقوموا بخفض وتيرة اعتداءاتهم على الأراضي اللبنانية ولن ينسحبوا من المناطق التي احتلّوها في الجنوب. وأكّدت تعليقات غراهام بشكل أكبر عدم الالتزام بتلازم الخطوات بين الجانبَين اللبناني والإسرائيلي، على عكس ما أشار إليه برّاك سابقًا: فعلى لبنان نزع سلاح حزب الله أولًا، وعندئذٍ فقط قد تقدّم إسرائيل تنازلات.

ما هي الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها؟ أولًا، أُجهضت الزيارة إلى لبنان قبل أن تبدأ حتى. لذا، ليس مفاجئًا أن الحكومة اللبنانية أصبحت تنظر إلى خطة برّاك، بما تتضمّنه من جدولٍ زمني لنزع سلاح حزب الله بحلول نهاية العام، على أنها "بلا قيمة"، حتى إن لم تتغيّر أولوية الحكومة الهادفة إلى حصر السلاح بيد الدولة. ثانيًا، لم يعد برّاك محاورًا صالحًا، إذ لم يحظَ بدعمٍ من الإدارة الأميركية كفيلٍ بالضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات بشأن خطته. لا تتفاجأوا إذا تنحّى قريبًا عن منصبه كمبعوث مؤقّت إلى لبنان، فيما توحي عودة أورتاغوس إلى بيروت هذا الأسبوع من دون برّاك، ولكن برفقة رئيس القيادة المركزية الأميركية المُعيَّن حديثًا، إلى أنها عادت ربما لتتولّى زمام الأمور، بمباركةٍ إسرائيلية كاملة. ومن غير المستغرب أن تتركّز مهمّتها هذه المرة على القضايا الأمنية.

هل يشكّل هذا الأمر مفاجأة؟ في الواقع، وجّه غراهام الجميع نحو هذا الخيار أثناء وجوده في إسرائيل بعد زيارته إلى بيروت، من خلال تصريحه: "إذا تعذّر نزع سلاح حزب الله بالوسائل السلمية، فعلينا النظر في الخطة ب، وهي نزع سلاح حزب الله بالقوة العسكرية. إن نزع سلاح الحزب أمرٌ غير قابل للتفاوض بالنسبة إليّ. أفضّل أن يتحقّق ذلك من خلال العملية السياسية... لكن السماح لحزب الله بحيازة أسلحة ثقيلة أمرٌ غير وارد، ويقضي على مستقبل للبنان، والتهديدات كبيرة جدًّا إلى درجةٍ لا تسمح بحدوث ذلك".

تتّجه الولايات المتحدة بخطى متسارعة نحو تفضيل الخيار العسكري ضدّ حزب الله. وقد لمس قائد الجيش رودولف هيكل هذا الميل عندما هدّد مؤخرًا بالاستقالة من منصبه بدلًا من أن يُرغَم على اتّخاذ مثل هذه الخطوة. ونظرًا إلى قربه من الرئيس جوزاف عون، من المستبعد أن تكون له وللرئيس رؤية مختلفة تجاه هذه المسألة. وإذا كان القائد الحالي للجيش وسلفه متّفقَين على أن الحلّ العسكري أمرٌ كارثي، فلا بدّ أنهما يعرفان أمرًا يجهله الأميركيون. لكن يبدو أن إدارة ترامب لن يثنيها شيءٌ عن مبتغاها، ولا يُتوقَّع منها الاعتراف بأن رفض إسرائيل الالتزام بخطة برّاك قد يكون هدفه دفع الجيش إلى خوض مواجهةٍ عنيفة مع حزب الله، من شأنها أن تصبّ في مصلحة إسرائيل.

من المؤكّد أن حزب الله سيتصدّى لأي محاولةٍ لفرض نزع سلاحه بالقوة، وسيحظى في ذلك بدعم غالبية الطائفة الشيعية. تشير جميع الدلائل المستقاة من الماضي إلى أن أي عملية عسكرية ستتعثّر سريعًا. فهذه كانت العبرة من مسعيَين سابقَين بذلهما الجيش اللبناني لإلحاق الهزيمة بالميليشيات، في فترة 1983-1984، عندما حاول نزع سلاح الميليشيات الموالية لسورية بدعمٍ أميركي؛ ومرة ​​أخرى في العام 1990، حين سعى إلى إلحاق الهزيمة بالقوات اللبنانية المسيحية. كانت النتائج مُتوقَّعة في الحالتَين. فقد شنّ الجيش هجومًا انتهى إلى طريق مسدود، ثم حاصر مناطق مدنية في الغالب وكثّف استخدام قوته النارية لكسر الجمود. وكانت الحصيلة أن قصَف أبناء وطنه ودمّر البنية التحتية المدنية، ما ولّد نقمةً عارمة، من دون أن يحقّق تقدّمًا يُذكَر. وقد أتت النتائج كارثيةً، وخرج الجيش من تلك المعارك وهو في حالة ضعفٍ شديد.

كان أعضاء القيادة العليا الحالية للجيش اللبناني، وحتى جوزاف عون نفسه، ضباطًا شبابًا آنذاك، لذا يدركون مدى حماقة تكرار أخطاء الماضي. وتُشكّل معركة نهر البارد الطاحنة في العام 2007 تحذيرًا أحدث عهدًا لما قد يحصل. ويعي الجيش أيضًا أن لا شيء يضمن بقاءه موحَّدًا في مواجهة ضغوطٍ كهذه، ولن يكون قادرًا على إدارة الغضب الذي سينجم عن ذلك في أوساط المجتمع الشيعي، والذي قد ينزلق إلى حالةٍ من التمرّد المتمادي.

والأسوأ، إذا تدخّلت إسرائيل ضدّ حزب الله، فماذا سيفعل الجيش؟ هل سينحاز إلى عدوٍّ في وجه أبناء وطنه؟ من الصعب جدًّا تخيّل ذلك، حتى لو حلم الأميركيون بمثل هذا السيناريو. ومثل هذا التطوّر لن يؤدّي سوى إلى تعزيز سردية حزب الله بضرورة أن يقف الجيش والحزب موقفًا واحدًا ضدّ إسرائيل.

سيكون اللجوء إلى القوّة بكلّ أبعاده الخيارَ الأسوأ على الإطلاق للبنان. فهو لن ينجح، وسيُزهق الكثير من الأرواح في أوساط المدنيين خصوصًا، وسيعيد إشعال العداوات الطائفية. والأكيد، بمجرّد أن تبدأ هذه العملية بفقدان زخمها، سيتخلّى الأميركيون عن اللبنانيين، كما فعلوا في العام 1984، وكما يفعلون على الدوام بعد إقحام الدول في حروبٍ غير حاسمة.

ليس غراهام وحده من لديه هذا الحماس الحربي، إذ يعبّر خبراء مؤثّرون في مراكز الأبحاث عن مشاعر مماثلة. فمؤخرًا، كتب ديفيد شينكر من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، والذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى خلال ولاية ترامب الأولى، "في النهاية، قد يفوّت لبنان فرصة نادرة أخرى لبسط سيادة الدولة، سواء بالتراجع عن المواجهة المسلحة أو بإثبات عدم فكاءته في المهمة العسكرية على الرغم من حصوله على التدريب والتمويل الأميركي لسنوات. مع ذلك، على إدارة ترامب المثابرة على الضغط باستخدام التمويل الأميركي ]للجيش اللبناني[، والتهديد بفرض عقوبات على السياسيين المُعرقلين، وربط إعادة الإعمار بتنفيذ خطة نزع السلاح".

شينكر ليس مخطئًا بالقول إن لبنان قد يفوّت فرصةً، لكنه مخطئٌ في افتراضه أن هذا سيكون النتيجة الأسوأ. فاندلاع حربٍ أهلية بتحريض أميركي ضدّ حزب الله توقع لبنان في مأزقٍ دموي، هو سيناريو أخطر بكثير من التقدّم ببطء للوصول في نهاية المطاف إلى ترتيبٍ للتعايش مع الحزب بشكلٍ يُجنّب نشوب صراعٍ داخلي. ثمة من يتوق إلى الحلول السريعة، وهو أمرٌ مُبرَّر إذ إن الحزب كان مصدر بلاء في لبنان لسنوات طويلة. مع ذلك، ثبُت مرارًا وتكراراً أن التوقّعات المتفائلة لدعاة الحرب في الولايات المتحدة كانت خاطئة على نحو فادح، وما من لبناني اليوم يريد أن يدفع ثمن هذه المغامرات غير المسؤولة.

من المجدي أيضًا أن يعي الأميركيون حقيقةً أخرى واضحة للعيان في لبنان، وهي أن الطائفة الشيعية اليوم قلقة بشأن سورية أكثر من قلقها تجاه إسرائيل. فقد تولّى الحكم في دمشق نظامٌ سنّي سلفي يضمّ عددًا غير قليلٍ من الجهاديين، ما ساعد على توحيد الشيعة حول شعور بالقلق الطائفي. فالأميركيون متمسّكون جدًّا بالموقف الإسرائيلي إلى درجةٍ تمنعهم من التفكير مليًّا في هذه المخاوف، ولكن من الأفضل أن يولوها اهتمامًا. فهواجس الأقليّات لطالما شكّلت محرّكًا أساسيًا للديناميّات في لبنان، ولا يمكن للطائفة الشيعية، شأنها شأن أي طائفةٍ أخرى في لبنان، ألّا تراعي هذا الأمر عند اتّخاذ أي قرارٍ يتعلّق بسلاحها.

قد يكون لبنان بالفعل في مأزق صعب، لكن الضرر الذي سيُلحق به سيكون أكبر بكثير إذا أنصت قادته إلى الأصوات المغرية الصادرة عن واشنطن. فكيف يمكن لأيّ أحدٍ في لبنان أن يثق بالولايات المتحدة إذا كانت إدارة ترامب عاجزةً حتى عن دفع إسرائيل إلى الانسحاب من تلّة أو تلّتَين في جنوب لبنان من أجل إحراز تقدّم في خطة نزع السلاح التي اقترحها المبعوث الأميركي، ناهيك عن احترام اتفاق وقف إطلاق النار الذي تفاوض عليه المسؤولون الأميركيون أنفسهم. يُعامَل لبنان كبلدٍ خسر حربًا، وهو أمرٌ قد يكون ربما مبرَّرًا. لكن الانجرار إلى صراعٍ أهلي من أجل إرضاء أصواتٍ معيّنة في واشنطن وتل أبيب هو انتحارٌ سياسي. فما من سببٍ على الإطلاق يدعو اللبنانيين إلى تدمير أنفسهم بذريعة إنقاذ أنفسهم.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.