المصدر: Getty

هزيمة الجيش اللبناني للسلفيين مجرّد تأجيل للمواجهة

قد تكون المعركة الأخيرة التي وقعت بين الجيش ومجموعة سلفية في لبنان أحد آخر الإنذارات قبل أن يندلع اقتتال طائفي شامل في البلاد.

نشرت في ٤ يوليو ٢٠١٣

أنهى الجيش اللبناني مؤخّراً التحدّي الذي تعرّض له من مجموعة سلفية متشدّدة يقودها الشيخ السنّي أحمد الأسير، قرب مدينة صيدا الجنوبية. والواقع أن هذا الصدام كان أحد عوارض حالة الغليان التي تضرب بأنوائها لبنان، والتي تتمثّل بالاستقطاب الخطير بين الطائفتَين الشيعية والسنّية. فالمجموعات السلفية تزداد قوة فيما حزب الله يزداد نفوذاً، في حين أن النظام السياسي اللبناني مشلول. هذا فضلاً عن أن مضاعفات الحرب السورية تزيد الأمور تعقيداً.

برزت أهمية الجيش مجدداً في خضمّ حالة الاضطراب هذه، إذ أن الحادثة تلقي الضوء على الدور المركزي التي يضطلع به الجيش بصفته مؤسسة تحظى بالشرعية الوطنية على نطاق واسع إلى حدّ ما. فالجيش يتولّى إخماد الحرائق الأمنية، ويحافظ على الاستقرار والأمن الهشَّين في البلاد، ودورُه هذا سيتّسم بأهمية أكبر في ظلّ تفاقم الأزمة السورية. وحسناً تفعل الأطراف الخارجية إذا ماحافظت على دعمها للجيش وعزّزت هذا الدعم.
 
القتال اندلع صباح يوم الأحد في 23 حزيران/يونيو، بعدما فتح أنصار الأسير النار على حاجز للجيش، ثم سرعان ماتصاعدت وتيرة الاشتباكات. وقد باءت بالفشل المساعي التي بذلها رجال دين سنّة آخرون للتوصّل إلى حلّ تفاوضي، وعندئذ قرّر قائد الجيش حلّ النزاع بالقوة.
 
بحلول مساء الاثنين، كان الجيش قد بسط سيطرته على المربّع الأمني التابع للمجموعة السلفية، وذلك بعد مقتل 18 جندياً وجرح أكثر من 100 في الاشتباكات. ومُني أتباع الأسير بخسائر أكبر، في حين سلّم بعضهم نفسه إلى الجيش، إلا أن قائد المجموعة لم يُلقَ القبض عليه وفرّ إلى جهة مجهولة.
 
كان الأسير قد برز إلى الواجهة في السنتَين الماضيتَين من خلال تحدّيه حزب الله ودعوته إلى الجهاد دعماً لثوار سورية في قتالهم ضدّ نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وهو اكتسب شعبيةً بفضل إفصاحه علناً عمّا كان كثرٌ في الطائفة السنّية يفكّرون فيه سرّاً، وعمّا كان سياسيّون سنّة تقليديون آخرون يتجنّبون التطرّق إليه. بيد أن شعبيّته، التي ضخّمها الإعلام المحلي، لم تُترجَم إلى مجموعة كبيرة منظَّمة من الأتباع.
 
يبدو أن الأسير كان يعزّز مجمّعه المدجّج بالسلاح في بلدة عبرا الواقعة شرق صيدا، بعددٍ من المقاتلين اللبنانيين والسوريين والفلسطيين وغيرهم ممَّن يناصرون عقيدة سنّية متشدّدة وجهادية. وكان الجيش يراقب عن كثب تطوّر المجموعة، وقد أقام حواجز قرب المجمّع تسبّبَ الاعتداء على أحدها بإشعال شرارة الاشتباكات. 
 
على أثر ذلك، نزل عدد من المجموعات السلفية ومن المتضامنين إلى شوارع بعض الأحياء في طرابلس وبيروت تعبيراً عن دعمهم للأسير وشجبهم للجيش اللبناني. وأخذوا على الجيش خصوصاً ردَّه على المجموعات المسلحة السنّية فقط وغضَّه الطرف عن المجموعة المسلحة الشيعية الرئيسة في البلاد، حزب الله، والميليشيا الكبيرة التي يمتلكها والدولة التي يقيمها داخل الدولة. فزعم الأسير وأنصاره أن أحد الأسباب التي دفعتهم إلى التسلّح يعود إلى تعزيز حزب الله وجوده في مدينة صيدا ذات الغالبية السنّية. كما أن تغاضي الجيش عن استيلاء حزب الله على بيروت في أيار/مايو 2008، وإرساله وحدات للقتال إلى جانب نظام الأسد، أجّجا سخط أنصار الأسير. ومازاد الأمور سوءاً التقاريرُ غير المؤكّدة التي ذكرت أن مقاتلين للحزب شاركوا في محاربة المجموعة السنّية إلى جانب الجيش اللبناني.
 
أبدى كثرٌ في الطائفة السنّية تعاطفاً مع العديد من مواقف الأسير ضدّ كلٍّ من حزب الله ونفوذ النظام الشيعي في إيران وحكومة الأسد، إلا أن الاعتداء السلفي على الجيش قذف الأسير خارج التيار السنّي العام. في مقابل ذلك، تتعاطف الغالبية في الطائفة السّنية، مثلها مثل معظم الأطراف الأخرى في لبنان، تعاطفاً كبيراً مع الجيش، وتدرك أنه يشكّل الحدّ الفاصل بين الاستقرار وبين الانزلاق إلى الدولة الفاشلة والحرب الأهلية الكارثية.
 
أما الطرف السنّي الرئيس في لبنان، تيار المستقبل، الذي يعارض حزب الله، فيشارك الأسيرَ بعض انتقاداته الموجّهة إلى الجيش، إلا أن زعماء هذا التيار وغيرهم من السياسيين السنّة التقليديين عبّروا عن دعمهم الجيشَ في هذه الاشتباكات. وأنحى العديد منهم باللائمة على حزب الله لأنه كان سبّاقاً إلى التسلّح ضمن تنظيم غير رسمي يتحدّى الحكومة الوطنية، وحذّروا من أن استنساخ النموذج نفسه في طائفتهم سيؤدّي حتماً إلى الهلاك. كما قالوا إن الهدف كان أن يدفعوا حزب الله إلى التخلّي أخيراً عن سلاحه والقبول بسلطة الدولة، لا أن يشكّلوا مجموعات مسلحة جديدة ويقوّضوا سلطة الدولة أكثر.
 
إن الحادثة الأخيرة، وإن شكّلت هزيمةً للأسير ومجموعته، تعكس الاستياء الكبير المتزايد لدى الطائفة السنّية، وعجز الحركات السنّية التقليدية عن احتوائه، والصعود التدريجي للمجموعات السلفية المتطرّفة. ومع أن هذه المجموعات لاتزال أقليةً ضمن الطائفة، إلا أنها تتمتّع بموطئ قدم مهمّ في المناطق السنّية الرئيسة كافة في لبنان، بما فيها مدن طرابلس وبيروت وصيدا. وهي تتلقّى التمويل من شبكات متعاطفة معها في الخليج، كما يساندها السوريون المتطرّفون وغيرهم ممَّن ينخرطون في القتال ضدّ نظام الأسد وحزب الله. وقد عُثِر في مجمّع الأسير على أعلام جبهة النصرة، وهي المجموعة الجهادية البارزة في سورية والمرتبطة بالقاعدة، ناهيك عن أن العديد من المقاتلين كانوا سوريي الجنسية، وينتمون على الأرجح إلى اللاجئين السوريين ذوي الأعداد المتزايدة في لبنان.
 
تُذَكِّر اشتباكات عبرا بالمواجهة الأكبر التي حصلت في العام 2007 بين الجيش وبين مجموعة فتح الإسلام الجهادية، في مخيّم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة طرابلس الشمالية. استمرّت تلك المعركة أشهراً، وانتصر الجيش فيها أيضاً مع أنه تكبّد خسائر أكبر آنذاك. 
 
لكن حشد القوى الخطير في لبنان كان يمكن هذه المرة أن يؤدّي بسهولة إلى انهيار كبير في الأمن واندلاع اقتتال طائفي في صيدا وبيروت وطرابلس. فقد يدلّ كلٌّ من الاستقطاب الطائفي في سورية، ومشاركة حزب الله الواضحة في القتال إلى جانب نظام الأسد، والتطرّف السنّي المتنامي في لبنان، على أن انتصار الجيش أَجَّلَ فقط مواجهةً خطيرةً ستحصل.
 
أكثر مايحتاج إليه لبنان لتفادي مثل هذا المستقبل هو أن يجري سريعاً التخفيف من حدّة الأزمة في سورية. صحيح أن مؤتمر السلام المُقترَح، جنيف 2، لايَعِد كثيراً بالتوصلّ إلى حلٍّ للنزاع السوري، إلا أنه قد يساهم في التخفيف من حدّة الأزمة على المدى القصير، إذ قد يحثّ كلا الطرفَين على العمل على وقفٍ لإطلاق النار وتقليص القتال. لذلك، لابد أن تتّفق الأطراف الخارجية على زيادة المساعدات الإنسانية وتلك الموجّهة إلى اللاجئين بشكل كبير. يجب أن تساهم العملية أيضاً في إقناع روسيا وإيران بضرورة تشجيع حزب الله على تقليص انخراطه الخطير في سورية، وفي الضغط على دول الخليج لاتخاذ إجراءات ضدّ الشبكات التي يمكن أن تكون مسوؤلةً عن تقديم الدعم للمجموعات الجهادية الخطيرة داخل لبنان.
 
وبصريح العبارة، ينبغي أن تكون الأزمة إثباتاً واضحاً للمجتمعَين الإقليمي والدولي على ضرورة أن يواصلا تقديم الدعم المالي والمادي للجيش اللبناني، وحتى أن يزيداه.
 
لكن من الواضح أيضاً أن لبنان لايمكن أن يواصل المراوحة في التردّد في تشكيل حكومة وحدة وطنية تضمّ الأحزاب السياسية الرئيسة من الطوائف كافة، تتولّى مسؤولية الحفاظ على استقرار البلاد في هذه الظروف الصعبة. لقد راهن حزب الله على أنه قادر على إسقاط حكومة نجيب ميقاتي اللبنانية السابقة ومساعدة نظام الأسد في القضاء على خصومه في مدة قصيرة. في المقابل، كان تيار المستقبل متأكّداً من أن تدخّل الحزب في سورية سيعزله إقليمياً ودولياً، وقد يؤدّي إلى تشكيل حكومة تُستَبعَد عنها المجموعة الشيعية. لكن أياً من المقاربتَين لم ينجح.
 
يحتاج لبنان إلى أن يُحكَم بالتعاون والتوافق الشامل، ولاسيما في ظلّ توتر طائفي حادّ. والأفضل أن تكون الأحزاب المتخاصمة داخل الحكومة ومسؤولةً رسمياً عن استقرار البلاد، على أن تكون خارجها فتسعى إلى تحقيق أجنداتها الخاصة من دون أي مساءلة.
 
ولا بد أن يدرك المجتمعان الإقليمي والدولي، كما قادة لبنان، أن المعركة الأخيرة في شرق صيدا قد تكون أحد الإنذارات الأخيرة قبل أن يندلع اقتتال طائفي شامل في لبنان. فالشرارات الفعلية الأولى للحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، بين العامين 1975 و1990، انطلقت من صيدا. لابد من التحرّك فوراً.
 
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.