منذ خمسين عامًا، وتحديدًا يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، شنّت مصر وسورية هجومًا جريئًا ضدّ إسرائيل على جبهتَين بالتزامن، سعيًا إلى استعادة أراضٍ خسرتاها خلال حرب حزيران/يونيو 1967. وشكّل ذلك الهجوم منعطفًا مفصليًا في تاريخ الشرق الأوسط الحديث نظرًا إلى أن إسرائيل أُخذت فيه على حين غرّة.
تزامن بدء الهجوم مع عيد الغفران (يوم كِبّور) في إسرائيل واليوم العاشر من رمضان في كلٍّ من مصر وسورية، ودفعت هذه الحرب العالم إلى شفا مواجهة نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وبعد أن اتّضح أن موسكو تُعيد تزويد الدول العربية بالأسلحة، أرسل الرئيس الأميركي وقتها ريتشارد نيكسون شحنات سلاح ضخمة لتعزيز دفاعات إسرائيل. وبعد مرور أكثر من أسبوعَين، تمكّن الإسرائيليون من الوصول إلى مسافة قريبة من القاهرة ودمشق، محقّقين إنجازًا عسكريًا عكسيًا.
على الرغم من ذلك، تفاقمت الاضطرابات المتجذّرة في إسرائيل، التي كانت تعتبر نفسها حتى ذلك الحين قوة عسكرية لا تُقهر. وفي الوقت عينه، تم تلمّس شعور متجدّد بالكرامة في مصر، ما ساهم في دفع الرئيس المصري أنور السادات إلى اتّخاذ قرار بتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل في العام 1979. لكن تداعيات حرب 1973 امتدّت أبعد بكثير من الصراع المباشر، إذ خلّفت أثرًا دائمًا في المنطقة، بما فيها لبنان، الذي كان يتابع أحداثها عن كثب.
خلال فصول الحرب، وقف لبنان شاهدًا على تداعيات النزاع وواجه عددًا من التحديات بدوره. فقد انطلق العام 1973 حاملًا معه أحداثًا كثيرة في البلاد. في شهر أيار/مايو، شنّ الجيش اللبناني هجومًا ضد الفدائيين الفلسطينيين، مستخدمًا الطائرات النفاثة والدبابات، في مواجهات دامت يومَين. كان السبب الأساسي خلف هذه الاشتباكات الوضع الفريد للبنان باعتباره مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية. ويُشار إلى أن لبنان وقّع على اتفاق القاهرة للعام 1969، الذي سمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالتسلّح وفرض سلطتها داخل مخيمات اللاجئين في لبنان، ما أدّى إلى قيام دولة بحكم الأمر الواقع داخل الدولة اللبنانية. وعلى الرغم من أن لبنان لم ينخرط في حرب 1973، فقد وقع أسير الديناميكيات الإقليمية التي أفرزتها الحرب. وكان ذلك يُعزى بالدرجة الأولى إلى أن المناطق الجنوبية والشرقية في البلاد تحوّلت إلى ممرات استخدمها سلاح الجو الإسرائيلي لقصف دمشق ومدن أخرى في سورية.
في اليوم الأول من الحرب، نقلت صحيفة النهار اللبنانية أن الرئيس اللبناني سليمان فرنجية يُعرب عن دعمه للرئيس السوري حافظ الأسد. وفي اليوم التالي، أطلع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، الذي كان يتخّذ من لبنان مقرًا له، السادات والأسد بأن القوات الفلسطينية سيطرت على الجهة الغربية لجبل الشيخ. وقد بدت أيام الحرب الأولى سُريالية للبنانيين. وفي 8 تشرين الأول/أكتوبر، نشرت "النهار" خبرًا مفاده أن الكثير من سكان بيروت لم يصدّقوا أن ثمة حربًا مُندلعة. لكن هذا الانطباع تبدّل تدريجيًا مع دخول الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين حالة استنفار قصوى، وبدء تحطّم الطائرات السورية والإسرائيلية فوق البلدات الجنوبية، حيث أمكن للسكان رؤية المعارك الجوية الدائرة في السماء.
صحيحٌ أن الدولة اللبنانية لم تُشارك بشكل مباشر في النزاع، لكن الكثير من مواطنيها وسكانها كانوا منخرطين بشدة فيه. وفي اليوم الثالث للحرب، دعت نقابة الصحافة اللبنانية إلى "توحيد الجهود الإعلامية العربية" خلال النزاع، فتلا ذلك صدور بيان عن "مثقفين وصحافيين" أعربوا عن دعمهم للقوات العربية. وعقدت منظمة التحرير الفلسطينية ومجموعات يسارية أخرى وقفات تضامنية مع القاهرة ودمشق، فيما نفّذ طلاب الجامعة الأميركية في بيروت إضرابًا للتعبير عن دعمهم للنضال، ونظّموا دروسًا لتعليم الإسعافات الأولية في 11 تشرين الأول/أكتوبر. علاوةً على ذلك، نُظِّمت حملات للتبرّع بالدم في جميع أنحاء البلاد، وذهبت فرق طبية من مستشفى الجامعة الأميركية إلى المستشفيات السورية لتقديم المساعدة. في غضون ذلك، استمرت الطائرات الحربية بالسقوط فوق الأراضي اللبنانية، حتى أن جسمًا مجهولًا تهاوى قبالة ساحل بيروت وأجرى الجيش تحقيقًا في الحادثة يوم 13 تشرين الأول/أكتوبر.
نتيجةً للحرب، قامت الحكومة بترشيد إمدادات الوقود وأدخلت نظامًا لإدارة الحركة المرورية، حدّدت بموجبه سير السيارات وفقًا لأرقام اللوحات المفردة والمزدوجة في أيام مختلفة (وهو تدبير أُعيد تطبيقه بعد حوالى 50 عامًا خلال تفشي وباء كوفيد-19). وقد كثرت الشكاوى حول الإجحاف الناجم عن هذا التدبير ومدى دستوريته. وأوقفت الحرب نقاشًا برلمانيًا محتدمًا حول الإصلاحات الواجب إدخالها على قانون البلديات وكيفية إجراء انتخابات المجالس البلدية. ولم يتمكّن البرلمان من إقرار هذا التشريع إلا في العام 1977، ولم يُستأنف مسار الانتخابات البلدية حتى العام 1998!
لكن الحادثة الأبرز خلال الحرب تمثّلت في اقتحام أحد المصارف. ففي 18 تشرين الأول/أكتوبر، سيطرت مجموعة صغيرة من المسلحين اليساريين، تحمل اسم الحركة الثورية الاشتراكية، على فرع "بنك أوف أميركا" في لبنان واحتجزت عددًا من الرهائن ورفعت مطالب جريئة، من بينها الإفراج عن جميع الفدائيين الفلسطينيين المعتقلين في لبنان، ودفع مبلغ عشرة ملايين دولار لتمويل المجهود الحربي، إضافةً إلى توفير مرور آمن لأفرادها إلى الجزائر. وفي اليوم التالي، اقتحمت القوى الأمنية المصرف بعد قيام الخاطفين بقتل موظف أميركي فيه كان من بين الرهائن. وانتهت العملية بمقتل أربعة أشخاص، من بينهم شرطي وقائد المجموعة. وقد أنذرت هذه المرحلة بالأحداث العنيفة التي كُتب للبنان أن يشهدها لاحقًا.
وخلال هذه الفترة المضطربة، لم تغب الانقسامات الداخلية عن البلاد. ففي الجنوب، هرب المواطنون من بلداتهم بسبب الوضع الأمني الخطير، ما دفع بعض المشرّعين الجنوبيين إلى إدانة طريقة تعامل الحكومة مع الوضع. لقد تحمّلت البلدات الحدودية العبء الأكبر للصراع، وسط احتدام المعارك بين الإسرائيليين والسوريين والفدائيين الفلسطينيين، ما دفع منظمة التحرير الفلسطينية إلى تنفيذ الكثير من الهجمات ومحاولات التسلّل. لكن في ظل كل هذه المعمعة، أعلن الاتحاد اللبناني لكرة القدم عن فوز نادي النجمة لأول مرة ببطولة موسم 1972-1973. وأتى هذا الإعلان بعد يومَين على إصدار مجلس الأمن الدولي القرار رقم 338، الذي طالب جميع الأطراف المنخرطة في الحرب بوقف فوري وكامل لإطلاق النار.
لكن لبنان لم يشارك في المفاوضات التي أعقبت وقف إطلاق النار مع إسرائيل، على الرغم من تشجيع بعض المشرّعين، مثل ريمون إدّة، على هذه الخطوة (بهدف ضمان الأمن على حدود لبنان الجنوبية). إضافةً إلى ذلك، ساهمت حرب العام 1973 في توطيد العلاقة بين الرئيسَين اللبناني والسوري. ففي كانون الثاني/يناير 1974، التقى الرئيسان فرنجية والأسد في اجتماع قمّة، وشكّلت هذه المناسبة أول زيارة يقوم بها رئيس سوري إلى بيروت منذ ثمانية عشر عامًا. في غضون ذلك، كانت الدولة اللبنانية تفقد تدريجيًا سيطرتها على حدودها، وكذلك قدرتها على اتّخاذ قرارات الحرب والسلم محليًا.
وبعد مرور عام ونصف على "حرب أكتوبر"، غرق لبنان في مستنقع الحرب الأهلية التي اندلعت في شهر نيسان/أبريل 1975. ولاحقًا في العام 1976، دخل الجيش السوري إلى لبنان بذريعة منع انتصار منظمة التحرير الفلسطينية، الذي كان سيؤدّي في الغالب إلى وقوع مواجهة جديدة مع إسرائيل. ثم أقدمت القوات الإسرائيلية على غزو لبنان في العام 1978، ومرة أخرى في العام 1982. وبعد فترة وجيزة، بات لبنان، الذي لم يؤدِّ سابقًا دورًا محوريًا في الحروب العربية الإسرائيلية، محور الصراع العربي الإسرائيلي.
وعلى الرغم من انسحاب القوات الإسرائيلية والسورية في نهاية المطاف من لبنان عام 2000 خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لم تتعافَ البلاد بشكل كامل من الاضطرابات التي شهدتها خلال سبعينيات القرن المنصرم، بما فيها حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. واقع الحال هو أن السنوات الأولى من السبعينيات بدأت تفاقم التحديات المُحدقة بلبنان في منطقة تكثر فيها أعمال العنف. وعندما اندلعت "حرب أكتوبر"، كان لبنان يتمتع بموقع فريد في قلب هذه الاضطرابات الإقليمية. مع ذلك، اختار عدد كبير من اللبنانيين في الكثير من الأحيان تجاهل ما كان يحدث، على الرغم من صدى ضجيج المقاتلات ومشاهد سقوط الطائرات. لكن هذا الموقف كان على وشك التغيُّر قريبًا.
يمكن للمرء المجادلة بأن الحرب الأهلية اللبنانية بدأت في وقت أبكر بكثير من العام 1975. فقد شكّلت حرب العام 1973 في آن تذكيرًا بقدرة البلاد على تفادي الكوارث المحيطة بها من جهة، وتحذيرًا من أن ما يحدث في الشرق الأوسط عادةً ما يصل إلى أعتاب لبنان عاجلًا أم آجلًا. وبعد خمسة عقود على "حرب أكتوبر"، لا تزال أصداؤها تتردّد في البلاد وفي جميع أنحاء المنطقة على السواء.
*نُشر هذا المقال أساسًا في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2023.