أقرّ البرلمان المصري في نهاية آب/أغسطس الماضي قانوناً يتعلّق ببناء وترميم وتجديد الكنائس. وهذا كان القانون الأول من نوعه لتنظيم عمليات البناء التي خضعت في السابق إلى قواعد غامضة، تستند إلى قرارات إدارية تعود إلى حقبة ثلاثينيات القرن العشرين، وتفرض قيوداً جمّة على بناء الكنائس. لكن، على الرغم من الآمال العريضة التي عُلِّقت على هذا القانون، إلا أنه في الواقع كان رجع صدى للمقاربة نفسها التي حكمت العلاقة بين الدولة وبين الأقباط طيلة عقود مديدة.
كانت العلاقة بين الدولة المصرية وبين الأقباط تمرّ منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر في الخمسينيات عبر مؤسسة الكنيسة الأرثوذكسية. إذ أن النظام، تعامل مع الكنيسة بوصفها الممثل الوحيد للأقباط، بدلاً من التعاطي مع الأقباط كمواطنين يتمتعون بكامل حقوق المواطنة. وفي المقابل، وفّرت الكنيسة الدعم السياسي للنظام. وفي هذا الإطار، كان عدد الكنائس التي تُبنى سنوياً، هي في الغالب محصلة مساومات بين السلطات السياسية وبين قيادة الكنيسة.
والحال أن مسألة بناء الكنائس كانت منذ السبعينيات على رأس منابع التوتر الديني بين المسيحيين والمسلمين في مصر. فقد كان المسيحيون يلجأون إلى أماكن للصلاة من دون ترخيص قانوني، حين يتم تجاهل العديد من طلباتهم الخاصة بالبناء. ومثل هذه الخطوة كانت تثير غضب الجيران المسلمين، الذين كانوا يعتبرونها خرقاً للقانون ومحاولة لفرض الوقائع بالقوة على الأرض. وفي العديد من الحالات، كانت التوترات التي تنشأ عن ذلك تفجِّر صدامات طائفية.
اعتقد العديد من الأقباط، غداة سقوط الرئيس حسني مبارك في 25 كانون الثاني/يناير 2011، أن نظاماً ديمقراطياً جديداً سيضمن حقوقهم كمواطنين، بما في ذلك حقوقهم الدينية. وهكذا، تقدّمت مجموعة من المثقفين والمحامين ونشطاء حقوق الإنسان الأعضاء في المجلس القومي لحقوق الانسان، والذين كانوا يأملون بوضع حدٍّ لاحتكار الكنيسة السيطرة على الأقباط، بمشروع قانون إلى الحكومة حول تنظيم عمليات بناء دور العبادة. رفض هؤلاء فكرة أن يختصّ القانون بالمسيحيين وحدهم، وفضّلوا أن يشمل ذلك المساجد والكنائس معاً. بيد أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تسلّم مقاليد الحكم في مصر من شباط/فبراير 2011 إلى حزيران/يونيو 2012، ثم جماعة الإخوان المسلمين التي فاز مرشّحها محمد مرسي بانتخابات الرئاسة في حزيران/يونيو 2012، تجاهلا هذا الطلب وواصلا العمل كالمعتاد وفق نسق القواعد القديمة.
في أعقاب إطاحة مرسي في تموز/يوليو 2013 أضافت اللجنة المنوط بها وضع دستور جديد، مادّةً تطلب فيها من البرلمان الجديد سنّ قانون لتنظيم بناء وترميم الكنائس. وهذه كانت المسودّة التي أُقرّت في آب/أغسطس كما أشرنا أعلاه. وفي حين أن الهدف من ذلك كان منح الأقباط حقوقهم كمواطنين، إلا أن العملية أسفرت عن إعادة التأكيد بأن الدولة ستتعاطى مع الأقباط وفق الطريقة الراسخة القديمة. فخلال التفاوض حول مشروع القانون، تعاملت الحكومة مع الكنيسة الأرثوذكسية ومعها الكنيستين الكاثوليكية والإنجيلية، بصفتها الممثّل السياسي لمسيحيي مصر. وهكذا، أحالت الحكومة مشروع القانون إلى البرلمان بعد جولات مفاوضات عديدة بين ممثّليها ومندوبي الكنائس، من دون طرح هذه القضية للنقاش العام. وحين جرت مناقشة المشروع في نهاية المطاف في البرلمان، تم إخماد أصوات المنتقدين، سواء في داخل البرلمان أو خارجه، بذريعة أن الكنائس وافقت بالفعل على القانون، كما لو أن المسألة حِكرٌ لهذه الأخيرة وحدها.
أعاد هذا القانون إنتاج العديد من القواعد القديمة التي لطالما حكمت مسألة بناء الكنائس. وأصرّت الأطراف التي وضعت مسودته على استخدام تعبير "الطائفة الدينية" بدلاً من "المواطنين المصريين المسيحيين" في النص، مُستأنفةً بذلك التعامل مع الأقباط بوصفهم جزءاً من كيان طائفي. كما عمدت إلى التشديد على أن حجم بناء الكنيسة التي يُطلب ترخيص بنائها، يجب أن يتناسب مع عدد الأقباط وحاجاتهم في المنطقة المعنية. وهذا، كما هو واضح، شرطٌ يمكن استخدامه لفرض قيود على بناء الكنائس.
ثم جرى تغيير فكرة أخرى. فقد تضمّنت المسودة التي أُعدّت بعد إطاحة مبارك، بنداً ينص على أنه إذا لم تردّ الدولة في غضون 60 يوماً على طلب بناء كنيسة، سيُعتبر الطلب مُقرّاً. إلا أن المسودة الجديدة اكتفت بالقول إن على السلطات أن تردّ على الطلب في غضون أربعة أشهر، لكنها لزمت الصمت حيال ماذا يمكن أن يحدث إذا لم يأتِ الردّ.
في ضوء هذه المعطيات، لايُحتمل أن يحلّ القانون الجديد مشكلة بناء الكنائس في مصر، لا بل على العكس قد يفاقمها. فإذا لم يُسمح للمسيحيين ببناء الكنائس، يُرجَّح أن تعود الأوضاع إلى مرحلة البناء من دون ترخيص قانوني، ماسيثير مجدّداً غضبة المسلمين. ولذا يتعيّن على الحكومة المصرية، إذا ما أرادت ضمان الحقوق الدينية للمصريين المسيحيين ووضع حدٍّ للتوترات الدينية بينهم وبين المسلمين، أن تصوغ قواعد جديدة لمنح الأقباط حقوقهم كمواطنين في مجال بناء دور العبادة. أما وضع التشريعات الجديدة في قوارير قديمة سيّئة السمعة، فلن يفعل شيئاً سوى مفاقمة المشاكل، ودفع الأمور إلى ماهو أسوأ.