باتت تونس استثناء نادراً وغير عادي لثقافة الحصانة لمُنتهكي الحقوق السائدة تقريباً في أرجاء العالم العربي. فقد حوّل التونسيون العدالة الانتقالية - بإجراءاتها القضائية وغير القضائية لتعويض الأضرار الناجمة عن انتهاكات حقوق الإنسان – إلى بند مركزي في جدول أعمال مابعد الثورة. وكرّس دستور العام 2014 العدالة الانتقالية في نصوصه، وجرت مناقشة إجراءات هذه العملية بشكلٍ موسّع في سلسلة حوارات عُقدت في كل ولايات البلاد.
عقدت "هيئة الحقيقة والكرامة" (المعروفة باسمها الفرنسي المُختصر (IVD، في بداية نشأتها في العام 2014، جلسات استماع في طول البلاد وعرضها، واستقبلت أكثر من خمسة وستين ألف ملف حول انتهاكات حقوق الإنسان. ويُعدّ هذا إنجازاً مميّزاً في منطقة لم يسبق أن سيق أحد تقريباً من مرتكبي الانتهاكات التابعين للدولة، إلى العدالة قط.
مع ذلك، خلال زيارتي الأخيرة إلى تونس، نهاية آب/أغسطس الماضي، طغى على محادثاتي عن العدالة الانتقالية ضجيج معركة سياسية حامية الوَطيس تتعلق بمسودة قانون وُضع للتعامل مع الجرائم الاقتصادية خارج إطار عملية العدالة الانتقالية. حالياً، يتضمن تفويض "هيئة الحقيقة والكرامة" جرائم اقتصادية، إضافةً إلى انتهاكات حقوق الإنسان ضمن منظورها الواسع المتمثّل في كونها انتهاكات ضّد الكرامة. حتماً، لم ينسَ التونسيون الفساد ولم يغفروه. فقد أظهرت نتائج الجولة الأخيرة من استبيان الباروميتر العربي، الذي يحظى باحترام كبير، أن أكثر من 40 في المئة من التونسيين يعتبرون أن الفساد من بين أكبر مشكلتين تواجهان البلاد، وأن 80 في المئة منهم على أقل تقدير يعتقدون بأن ثمة حالات فساد خطيرة في الدولة.
من وجهة نظر بعض المُنتقدين، لم ينص قانون المصالحة الاقتصادية، الذي طرحه الرئيس الباجي قائد السبسي في تموز/يوليو 2015، على المحاسبة بل على عفو شامل، ويرَوْن أنه غَدَرَ بأبرز مطالب الثورة. وأدّى ذلك إلى غضب الضحايا، وتم حشد تحالف ضمّ نحو 24 منظمة مدنية تعمل في قضايا العدالة الانتقالية، للوقوف ضدّ طرح السبسي، ووُضعت رسائل للضغط على البرلمان، فيما نظّم الناشطون العديد من الاحتجاجات العامة.
وحذّرت منظمة هيومن رايتس ووتش من أن هذا القانون سيؤخّر عملية التحوّل الديمقراطي. كما ندّدت منظمة الشفافية الدولية بالقانون لأنه يسمح للفاسدين بالإفلات من قبضة العدالة. ووصف المركز الدولي للعدالة الانتقالية القانون بأنه يشرّع سرقة الممتلكات ويغفر الفساد. وأدّى مشروع القانون إلى اندلاع احتجاجات عامة حاشدة في أيلول/سبتمبر 2015 أخّرت تمريره في البرلمان.
عاود البرلمان مناقشة مسودّة القانون مجدّداً في حزيران/يونيو الفائت، وأقرّ بعدها في 27 آب/أغسطس تعيين رئيس الوزراء الجديد، يوسف الشاهد. ومن المتوقع أن يتحرّك البرلمان باتجاه تمرير هذا التشريع المثير للجدل. ويجادل المدافعون عن القانون بأن من الضروري تناسي الماضي، بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية التي تحتاج إليها البلاد بشكل مُلحّ. وقد سَخِرَ تحالف منظمات المجتمع المدني المعارِض للقانون من هذا التبرير، المُستند إلى أُسُس اقتصادية، وجادل في المقابل بأن سمعة البلاد بممارسة الديمقراطية والشفافية سيكون مفعولها أكبر بكثير في مجال جذب المستثمرين. من جهته، دافع حزب "النهضة" الإسلامي المعتدل، عن دعمه مشروع القانون بوصفه فرصة لإعادة تشكيله من الداخل كإطار عمل بنّاء وأكثر مقبولية للتعامل مع الجرائم الاقتصادية السابقة. لكن، في المقابل، اتّهم العديد من المنتقدين حزب "النهضة"، قائلين إنه يتملّق حزب "نداء تونس" الحاكم للحصول على مركز في السلطة.
تطوّر قانون المصالحة الاقتصادية في سياق النضال السياسي الأوسع أثناء مرحلة العدالة الانتقالية. وأُنشِئَت "هيئة الحقيقة والكرامة" في خضمّ موجة أمل ثورية، لكنها غرقت منذ ذلك الحين في مصاعب المرحلة الانتقالية. وقد عارض كثيرون من أعضاء النخبة القديمة، الذين تكتلوا ضمن "نداء تونس"، على الدوام العدالة الانتقالية التي من شأنها أن تفضح جرائمهم أو تهدّد مكانتهم الاجتماعية. وقاومت مؤسسات الدولة، التي لاتزال تضمّ في معظمها شخصيات من النظام السابق، "هيئةَ الحقيقة والكرامة" وقلّلت من شأنها، إذ منعتها من الحصول على الموارد وأخّرت أعمالها. كما أن وسائل الإعلام التونسية، التي يسيطر عليها موظفون غير مؤهّلين كانوا يخدمون النظام القديم ومستثمرون أثرياء في القطاع الخاص، كانت مستعدّة للانقضاض على "هيئة الحقيقة والكرامة" وعلى قادتها كلّما سنحت الفرصة.
وقعت الهيئة أيضاً ضحية الاستقطاب الحادّ بين الإسلاميين وخصومهم في ربيع العام 2013. وحقيقة أن الكثير من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في عهد بن علي كانوا من الإسلاميين، أصبحت لغماً سياسياً، في حين بدأت قضايا من هذا النوع تغشى على كل وجوه الحياة السياسية. أفرز النصر الانتخابي لحزب "نداء تونس" المعارض للإسلاميين بقيادة الباجي قائد السبسي إلى السلطة، تحالفاً تسيطر عليه النخبة القديمة التي تعارض بشدّة أي محاسبة لجرائم الماضي. إذ يرى قادة سياسيون معارضون أن هذه الحكومة تريد "محو كل مكتسبات الثورة"، بما في ذلك العدالة الانتقالية. وفي هذه الأثناء، وتمشياً مع الاستراتيجية السياسية الراهنة لحزب "النهضة"، أخبرني زعيمه راشد الغنوشي أنه ينبغي على عملية العدالة الانتقالية أن تسعى إلى تحقيق التوافق لا الانتقام.
كوّنت "هيئة الحقيقة والكرامة" نفسها على الرغم من هذه المعارضة وهذا الجدل، وجمعت عدداً كبيراً من الشهادات قبل انقضاء المهلة المحدّدة هذا الصيف، وهي تعمل بحماس منقطع النظير للوفاء بموعد إصدار تقريرها. لكن حتى أقوى مؤيّديها يقرّون بأنها تتحرّك ببطء شديد، وهي تتخلّف باطّراد عن المعطيات السياسية الراهنة. وكما أخبرني أحد القادة السياسيين، يدرك أعضاء الهيئة أن المطلوب منهم هو بذل جهود أكبر بكثير ليجعلوا المعاناة، التي وثقتها الهيئة بشكل منتظم، "مرئية" أكثر كي لاتصبح مجرّد مثال آخر لفشل الثورة في الوفاء بوعودها.
وعلى الرغم من كل هذه المجادلات السياسية، لايُمكن إغفال أهمية إحدى التجارب الأولى للعدالة الانتقالية في العالم العربي، ولايجب نسيانها. فعلى الأقل وعدت "هيئة الحقيقة والكرامة" بمواجهة واقع القمع التاريخي، وهو أمر نادراً مايشهده العالم العربي. وقامت الهيئة فعلاً بالكشف عن مستويات صادمة من أعمال الاغتصاب والاعتداء والتعذيب التي ارتكبتها الدولة ضدّ مواطنين تونسيين. لكن يبقى من غير الواضح ما إذا كانت هذه الوقائع ستبقى حبراً على الورق في تقرير يوثّق وحسب هذه الحالات المرعبة، أوأنها ستقود إلى محاكمة الجناة.
يبدو أن ثمة إجماعاً واسعاً بأن مسودة قانون المصالحة الاقتصادية، على الأقل في شكله الحالي، يطرح عكس ماتتضمّنه العدالة الانتقالية. ويرى كثيرون أن نصّه يبرّئ النخبة القديمة الفاسدة، وينتصر لها ضدّ آمال التغيير الحقيقي. ولاتتمحور النقاشات بشأن مسودة القانون، فقط حول مسائل تقنية أو تكتيكات سياسية، بل تتركز في عمق السؤال المبدئي حول إمكانية إحداث تغيير ذي معنى ويُعتَدّ به.
لقد اعترف أحد قادة "النهضة" بالتنازلات التي قُدِّمت، بيد أنه هزأ منها معلِّلاً ذلك بالقول: "هكذا تعمل السياسة". لكن بالنسبة إلى كثيرٍ من التونسيين المُحبَطين، هذه هي المشكلة على وجه التحديد.