المصدر: Getty
مقال

صوتٌ من الظل

يقول رئيس شعبة المخابرات الجوية السورية، إن بشار الأسد كان متساهلاً جدّاً.

نشرت في ٢٥ نوفمبر ٢٠١٦

جرى كسر أحد المحظورات السياسية هذا الشهر، حين أجرت وكالة أنباء روسية مقابلة هي الأولى من نوعها على الإطلاق مع اللواء جميل الحسن، أحد أقوى المسؤولين الأمنيين في سورية.

ومع أن الحسن ردّد في جلّ حديثه مواقف معروفة وموالية للحكومة، شكّلت المقابلة في حدّ ذاتها حدثاً بارزاً. فبصفته رئيس شعبة المخابرات الجوية، كان الحسن غائباً بشكلٍ كاملٍ تقريباً عن الإطلالات العامة؛ كما أن مسؤولي المخابرات السورية يحرصون على الابتعاد عن الأضواء. لكن المُلفت أيضاً هو الانتقاد الضمني الذي وجّهه الحسن إلى الرئيس السوري بشار الأسد بسبب ضبط النفس المُفرَط الذي مارسه خلال أولى أيام الثورة الثورية في العام 2011.

أطلقت هذه الإطلالة العامة النادرة لأحد أقوى رجالات سورية مروحة من ردود الفعل المثيرة.

نموذج حماه

أعرب الحسن عن موقف يحظى بمقبولية واسعة في صفوف القاعدة الموالية للحكومة السورية، مفاده أنه لو لم يتردّد الأسد ويحاول استرضاء منتقديه في العام 2011، لشنّ في وقتٍ مُبكر حملة شاملة كان من شأنها إخماد الثورة وهي لاتزال في المهد. ومع أن هذا كان سيُقابل بإدانة دولية ويؤدّي إلى اعتبار سورية دولة مارقة ومنبوذة لسنين عديدة، إلا أن مؤيدي هذا الموقف يعتبرون هذه النتيجة أفضل الشرّين، مقارنةً مع ما حدث فعلاً.

 في المقابلة التي أجراها المراسل محمد معروف مع جميل الحسن، والتي بُثّت في الأول من تشرين الثاني/نوقمبر على موقع وكالة الأنباء الروسية الرسمية "سبوتنيك"، تبنّى الحسن هذا الموقف علانيةً، وساق مثلين عن الاستراتيجية التي كانت، برأيه، ستُحرز نتائج أفضل ضدّ المعارضة:

"لم أكن أتوقع أن يحدث ذلك بهذا الشكل الكبير، لأنني كنت أقاتل التطرف تحت الأرض في عصر الرئيس حافظ الأسد وكنت حينها ضابطَ أمنٍ برتبة ملازم أول. تلقى المتطرفون ضربةً موجعةً في الثمانينات، وكانت شبه قاضية.. خاصة في حماة.. كنت آنذاك فتىً في مقتبل العمر. كان قراراً حكيماً بتوجيه تلك الضربة إلى الإرهاب، ونحن في هذه المرحلة لو حسمنا الموقف منذ البدايات لما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وأضرب مثالاً على ذلك ما جرى في ساحة الطلاب ]ساحة تيانانمن[ في الصين، فلو لم تحسم الدولة الصينية يومها فوضى الطلاب لضاعت الصين وضيعها الغرب".

هكذا تحدّث أحد الغلاة.

يُقدّر أن الهجوم الذي شنّه الجيش على الأحياء الواقعة تحت سيطرة الإسلاميين في حماه في ربيع العام 1982، وما أعقبه من إعدامات جماعية، أزهق أرواح عشرات الآلاف من المدنيين (أوردت "سبوتنيك" الرقم 30 ألفاً). ورأى الصحافيون الذين وصلوا إلى المدينة بعد أسابيع من المعركة أن أحياء كاملة تحوّلت إلى ركام. قبل العام 2011، شكّلت حماه تجسيداً للعنف الوحشي في سورية، وتذكرةً بمدى همجية نظام الأسد، ورمزاً للشر المُطلق بالنسبة إلى المعارضة. أما المؤيّدون للحكومة، فاعتبروا أن إراقة الدم التي وقعت في حماه شرٌّ لا بدّ منه – لا بل هي انتصار بطولي – وشعروا، كما هو متوقّع، بأن الأحداث التي شهدتها سورية منذ العام 2011 تبرّر تلك العملية الدموية.

قال جميل الحسن لـ"سبوتنيك": "الصحافيون وقتها ذكروا أرقاماً مبالغاً فيها عن عدد القتلى الذين سقطوا خلال أحداث حماه، لكن أقول لو كنا تصرفنا منذ بداية الأزمة الحالية بالطريقة نفسها لكنّا أوقفنا حمام الدم، ولما كنّا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من اقتتال".

يبدو أن العديد من الموالين للحكومة يوافقونه الرأي، لكن من هم أدنى شأناً من الحسن لن يتجرّأوا على إنحاء اللائمة بشكلٍ صريح على "القيادة"، أي بشار الأسد. لكن الحسن لم يرفع سقف انتقاداته أكثر من ذلك، بل على العكس شدّد على أن الرئيس يحظى بدعم 70 إلى 80 في المئة من الشعب السوري. وحين سُئِل كيف كان الرئيس حافظ الأسد ليتعامل، برأيه، مع تمرّد العام 2011 لو أنه لايزال على قيد الحياة، تجنّب الحسن الوقوع في فخّ هذا السؤال وأجاب بلطف قائلاً: "لا أستطيع تخمين ماذا كان سيفعل، إلا أن كل شخصٍ له ظرفه الخاص، والرئيس بشار الأسد واجه وتحمّل متاعب كثيرة أكثر من التي واجهها وتحمّلها الرئيس الراحل حافظ الأسد. ما تحمّله السيد الرئيس بشار الأسد أقسى وأصعب مما تحمله الرئيس الراحل حافظ الأسد".

مع ذلك، أثارت مقابلة الحسن ردود فعل داخل المعسكر الموالي للأسد، صدر أحدها عن اللواء بهجت سليمان، وهو مسؤول سابق في إدارة المخابرات العامّة ولعب في التسعينيات دوراً بارزاً في توجيه مسار تسلّم بشار الأسد مقاليد السلطة، لكنه عُيِّن في نهاية المطاف سفيراً لدى الأردن. وقد عبّر سليمان في تعليق له على فايسبوك عن اختلافه باحترام مع الحسن. 

رأى سليمان أن من غير المُجدي تشبيه الأزمة السورية الراهنة بما جرى في حماه في العام 1982 أو بمظاهرات ساحة تيانانمن في العام 1989، وأن الحكومة لم يكن بإمكانها إخماد جذوة الثورة في وقتٍ مبكر عن طريق استخدام مزيدٍ من القوة، مُجادلاً أن الأسد لم يواجه تمرّداً داخلياً، بل مؤامرة دولية خطيرة تتطلب وسائل مختلفة لمجابهتها.

وأضاف سليمان أنه في حين ارتكبت أخطاء، إلا أن الوضع كان أسوأ بكثير. وحسب روايته، قال إن الأسد لم يكن "يمتلك ترف التجريب"، وتوجّب عليه اتخاذ قرارات صعبة لم يكن مستعداً لها. وعليه، تصرّف "بعقل بارد وقلب دافئ" للحؤول دون تحوّل سورية والمنطقة المحيطة إلى "مئات الإمارات الإرهابية التي تتحارب وتتقاتل وتتذابح، لمئة سنة قادمة".

مكانة خاصة للمخابرات الجوية 

بالطبع، العمل الداخلي لدولة الأسد الأمنية مشوب بالغموض للمراقبين الخارجيين (وأيضاً لمعظم من هم في الداخل)، لكن جميل الحسن هو من دون أدنى شكّ أحد أكثر الرجال نفوذاً في سورية. وقد أدار الحسن، الضابط المحترف البالغ من العمر 63 عاماً، شعبة المخابرات الجوية منذ العام 2009، خلفاً للواء عبد الفتاح قدسية، الذي كان مستشاراً خاصاً سابقاً لشقيق الرئيس ماهر الأسد.

لطالما احتلت المخابرات الجوية مكانة خاصة في هيكلية أجهزة الأمن السورية، بعد أن شُكّلت بتركيبتها الحالية على يد حافظ الأسد عندما كان يترأس سلاح الجو العربي السوري في ستينيات القرن الماضي. واكتسب هذا الجهاز بقيادة يده اليمنى محمد الخولي، الذي ساهم في تنظيم صعود الأسد الأب إلى الرئاسة في تشرين الثاني/نوفمبر 1970 وتولى رئاسة الشعبة لغاية العام 1987، سمعة مخيفة في سورية والخارج، حيث ارتبطت أسماء عملائها باغتيالات، وعمليات خطف، ومؤامرات تفجير.

انحسر، على ما يبدو، دور المخابرات الجوية خلال العقد الأول من حكم بشار الأسد، لكن الشعبة استعادت زخمها وسيطرتها مجدداً في العام 2011 عندما غصّت شوارع المدن السورية بالمتظاهرين. فما كان من المخابرات الجوية إلا أن ألقت بنفسها فوراً في قلب الأحداث وقامت بحشد الميليشيات الموالية للأسد وإطلاق حملة لمطاردة المعارضين. ومنذ ذلك الحين، ارتبط اسم رجال الحسن باعتقالات تعسفية وعمليات تعذيب وحالات إعدام خارج نطاق القانون، وفقاً لشهادات مجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان وسجناء سابقين، بعضهم يَعتبر المخابرات الجوية الأكثر عنفاً وقسوة بين الأجهزة الأمنية الكبرى كافة.

ويبدو أن نفوذ جميل الحسن نما بالتزامن مع اعتماد الحكومة على شعبته، التي باتت تضطلع تدريجياً بدور أكثر تقليدية في ساحة المعارك. يشار إلى أن الظهور العلني الوحيد لمدير المخابرات الجوية، قبل المقابلة التي أجربت معه مؤخراً، كان في آذار/مارس 2015 عندما نُشرت له صور أثناء زيارته حماة لتهنئة العقيد سهيل الحسن، وهو ضابط ذو شعبية واسعة مدعوم من المخابرات الجوية. (خلافاً للشائعات، لا تربط بين الرجلين صلة قرابة).

ثمة سبب آخر وراء تنامي مكانة جميل الحسن، ويتمثّل بأن كثيرين من رؤساء قادة الأجهزة الأمنية خلال مرحلة ما قبل العام 2011 ماتوا الآن أو تقاعدوا، في حين لايزال هو في منصبه. وعلى عكس شخصيات بارزة أخرى، مثل رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك أو رئيس شعبة المخابرات العامة محمد ديب زيتون، لم يطرأ أي تغيير على مسمى الحسن الوظيفي خلال الصراع. فقد تولى رئاسة  إقطاعية المخابرات الجوية من دون توقف منذ العام 2009، وهي فترة طويلة جداً وفق المعايير السورية في عهد بشار الأسد.

البقاء أو التخلي؟

ربما يقترب هذا الوقت من نهايته. فلمدة عام تقريباً سمعت أصداء أحاديث عن تقاعد جميل الحسن. عادةً، يفترض بلواء في القوات المسلحة السورية أن ينهي خدمته العسكرية لدى بلوغه سنّ الثامنة والخمسين، على الرغم من أن الأسد غالباً ما يمنح إعفاءات لنخبة المسؤولين الأمنيين. وفي أيلول/سبتمبر، تمّ تعيين رئيس فرع المخابرات الجوية في حلب، اللواء أديب سلامة، في منصب نائب رئيس المخابرات في المقر الرئيسي في دمشق، الأمر الذي أطلق بعض التكهنات بأنه قد يكون التالي في الحلول محل الحسن. ومن ناحية أخرى، سلامة ليس أصغر سنّاً من الحسن، وتَعتبر مصادر أخرى أن ما حصل هو مجرد إعداد تحوّل بيروقراطي بسيط تمهيداً لتقاعد سلامة.

يُعتبر قرار حسن إجراء المقابلة مثيراً للاهتمام، وقد يفسّر البعض ذلك بلا شك على أنه تكتيك سياسي من نوع ما. هل من الممكن أن تكون مناورة من قبل المتشددين الموالين للحكومة لضمان استمراره في إدارة المخابرات الجوية، في وجه معارضة خصومه؟ هل هي خطوة تجريها المؤسسة الأمنية السورية في محاولة لاعتماد سياسات متشدّدة ضد رئيس يبحث عن مخارج دبلوماسية للوضع، أو هل هي عملية إعلامية سورية - روسية لتصوير ذاك الرئيس نفسه، على أنه معتدل يستطيع الغرب التعامل معه؟ أو ربما سيترك الحسن عمله بالفعل، وهو مجرد شخص مقبل على التقاعد يستعد لترك الخدمة العسكرية بكلمات وداعية.

لكن كل ماسبق مجرد تكهنات ليس إلا، قد لا توصلنا سوى إلى طريق مسدود. فأحياناً المقابلة ليس لها أبعاد وغايات مبطنة. هي مجرد مقابلة حتى في مكان مثل سورية. وكما قال لي أحد المقرّبين من صنّاع السياسات النافذين في سورية "لا يجب أن تذهب كثيراً في أبعاد ما يحصل، فهذا ماتفعله وسائل الإعلام دائماً".

هذا الأمر صحيح تماماً. لكن مع ندرة المعلومات التي تتسرّب حول كيفية حكم سورية ومن يحكمها بالفعل، ماذا بإمكان المرء أن يفعل سوى الاطلاع على الشائعات وانتقاء ما يناسبه والتخمين؟

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.