أعلنت شركة البترول والكيماويات الصينية (سينوبك) في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2016، إتمام مشروع المسح الزلزالي "توال ثلاثي الأبعاد" (TOUAL 3D) في ولايتَي ورقلة وإليزي في الجزائر.
يندرج هذا الخبر في سياق التوجّه التصاعدي الذي تشهده التبادلات بين الجزائر والصين. ففي العام 2014، تفوّقت الصين على فرنسا وأصبحت على رأس قائمة مورّدي السلع إلى الجزائر، إذ بلغت حصّتها أكثر من 14 في المئة من الواردات الجزائرية. كما ارتفعت قيمة التجارة الثنائية من 608 ملايين دولار في العام 2003 إلى تسعة مليارات دولار في العام 2013، ماجعل الجزائر الشريك التجاري الأول للصين في منطقة المغرب العربي. لهذه الغاية، وقّعت الدولتان في العام 2014 خطة خمسية لتأسيس شراكة استراتيجية شاملة بينهما، هي الأولى من نوعها في العالم العربي.
كان من المتوقَّع أن تشهد الجزائر إقبالاً أكبر من جانب الصين على الاستثمار فيها والتبادل التجاري معها، نظراً إلى غناها بالموارد، وأوضاعها المالية الجيدة نسبياً، واستقرارها السياسي في العقد الأخير. لكن ذلك لم يحدث. فقد اقتصرت الاستثمارات في معظمها على القروض التجارية، ولم تتجاوز الاستثمارات الصينية المباشرة في الجزائر، والتي تُقدَّر بـ1.5 مليار دولار أميركي، نسبة 0.3 في المئة من مجموع الاستثمارات الصينية الخارجية.
تسعى الصين إلى أن يكون لها حضور أعمق وأقوى في أفريقيا، والحصول على الدعم السياسي من القارة على المستوى الدولي، وتعزيز مداخلها إلى الأسواق الأفريقية، والتصدير نحو وجهات جديدة، وهي تحاول أن تضمن إمداداتها من النفط والمعادن. لتحقيق هذه الأهداف، انخرطت الشركات الصينية، على وجه الخصوص، في قطاع البناء في الجزائر. واعتباراً من العام 2014، أضحت الجزائر ثاني أكبر سوق لعقود الاستثمارات الصينية في مجال البنية التحتية في أفريقيا (بعد نيجيريا)، أي ضمن الأسواق الخمس عشرة الأبرز في هذا المجال عالمياً.
واقع الحال أن الدولة الجزائرية تركّز منذ العام 2000 على تطوير البنى التحتية، وقد انتهزت الشركات الصينية الفرصة للمشاركة في هذه الخطط، وتمكّنت من الحصول على عقود بقيمة نحو 22 مليار دولار بين العامَين 2005 و2016. لقد أفاد الصينيون أولاً من خطة الدعم والتعافي الاقتصاديَّين في الجزائر بين العامَين 2001 و2004، التي هدفت إلى ترميم البنى التحتية الأساسية. وكذلك انخرطت الشركات الصينية، بين العامَين 2005 و2010، في البرنامج التكميلي لدعم النمو، والذي وُضِع لتحديث الطرقات وبناء المساكن.
وقد شارك المتعاقدون الصينيون، بين العامَين 2010 و2014، في خطة إنمائية وضعتها الحكومة لاستكمال كل مشاريع البنى التحتية التي كانت قيد التنفيذ. من بين العقود البارزة التي أُبرِمت في هذا الإطار مشروع الطريق السريع الذي يربط بين شرق البلاد وغربها، والذي انطلق في العام 2007 واستُكمل في العام 2015، وتولّت تنفيذه مجموعة من الشركات الصينية واليابانية. هذا فضلاً عن بناء فنادق شراتون في وهران والجزائر العاصمة، ومبنى جديد في مطار هواري بومدين في العاصمة الجزائرية، والمشاريع السكنية منخفضة الكلفة (إذ شُيِّدت نحو 250 ألف وحدة سكنية منذ العام 2000). وأخيراً، العمل متواصل لتشييد ثالث أكبر مسجد في العالم في الجزائر العاصمة، ويُرتقَب إتمامه في العام 2020.
يُضاف إلى ذلك أن رئيس الوزراء الجزائري عبد المالك سلال وقّع خمس عشرة مذكرة تفاهم جديدة مع الصين في نيسان/أبريل 2015، بهدف تعزيز الشراكات الاستثمارية وتوطيد العلاقات الاقتصادية بين البلدَين.
أفضت هذه الروابط المتنامية بين البلدَين إلى زيادة أعداد المهاجرين الصينيين في الجزائر أكثر من أي وقت مضى، وباتت البلاد تضم العدد الأكبر من العمال الصينيين في أفريقيا. إذ تشير الأرقام الرسمية إلى ارتفاع عدد العمال الصينيين في الجزائر من 22 ألفاً في العام 2013 إلى 24 ألفاً في العام 2014، و55 ألفاً في العام 2015. لا بل أصبحت العاصمة الجزائرية تضم حيّاً صينياً، ويُعتقَد أن 2000 صيني نالوا الجنسية الجزائرية العسيرة.
بيد أن التعاون الثقافي بين البلدَين محدود. فلا وجود لـمعهد كونفوشيوس أو قاعة تدريس كونفوشيوس (Confucius Classroom)، المخصّصين لتعريف أبناء البلاد على الثقافة الصينية، في الجزائر. في المقابل، هناك مالايقل عن 46 معهد كونفوشيوس في مختلف أنحاء القارة الأفريقية، فضلاً عن 23 قاعة تدريس كونفوشيوس. علاوةً على ذلك، لاتزال الفرص في قطاعَي السياحة والأعمال محدودة بسبب الشروط المعقّدة التي تفرضها الجزائر على الدخول إلى البلاد.
يبدو أن الصين تجني الفوائد الأكبر من التعاون مع الجزائر: أولاً، تميل كفّة الميزان التجاري لصالح الصين، وتتولّى الدولة الجزائرية تمويل معظم المشاريع التي تنفّذها الشركات الصينية، ولاتتعدّى حصة الاستثمارات الصينية المباشرة في الجزائر ستة في المئة من مجموع الاستثمارات الصينية المباشرة في القارة الأفريقية. الجزائر تحتاج إلى الاستثمارات الخارجية، بيد أن إجراءاتها الصارمة مسؤولة جزئياً عن تثبيط الإقبال على الاستثمار. ومن الأمثلة عن التشريعات غير المؤاتية في هذا المجال قانون صادر في العام 2007 يفرض شروطاً قاسية للحصول على تأشيرة سفر إلى البلاد، وقانون مالي تكميلي صادر في العام 2009 يفرض حيازة الشركات الجزائرية على حصة 51 في المئة من المشاريع المشتركة مع مستثمرين أجانب.
ثانياً، يُعدّ انتقال التكنولوجيا أو الخبرات من الصينيين محدود جدّاً، ذلك أن عدداً قليلاً من الجزائريين يتولّى مناصب إدارية. ويُعزى ذلك إلى أن طريقة توزيع الوظائف لاتحدّد تلك المخصّصة للجزائريين في المشاريع المشتركة. وهكذا يشغل الجزائريون عادةً وظائف ذوي الياقات الزرقاء، أي يعملون كبوّابين وحرّاس أمنيين وسائقين وما إلى ذلك. كما أن وجود شركات عملاقة مملوكة من الدولة الصينية يعيق قدرة القطاع الخاص الجزائري على النمو، إذ يصعب على الشركات الخاصة الصغيرة والمتوسطة أن تنافس الشركات الأكثر رسوخاً والمملوكة من الدولة الصينية، والتي تفوز في نهاية المطاف بالمناقصات وتستحوذ على معظم العقود.
ثالثاً، تمارس صفقات البناء مع الشركات الصينية، في الجزء الأكبر منها، تأثيراً محدوداً على الاقتصاد من ناحية التوظيف. فعلى الرغم من القواعد التي تفرض توظيف عمّال جزائريين، إلا أن أكثرية العمّال في هذه الشركات هم من التابعية الصينية. ويُعتبر الإشراف على تطبيق السياسات الوظيفية غائباً، ذلك أن الدولة الجزائرية سعت خلف حلول سريعة لتسوية أزمة الإسكان التي كانت أحد أسباب اندلاع الاضطرابات الاجتماعية في تسعينيات القرن الماضي.
فعندما جرى مثلاً توقيع مشروع بناء المسجد في العاصمة الجزائرية بكلفة 1.1 مليار دولار أميركي، اتفقت الجزائر والصين على تخصيص عشرة آلاف وظيفة للجزائريين من أصل 17 ألف وظيفة من المُتوقَّع أن يولّدها المشروع. غير أن التقارير تشير إلى وجود مالايقل عن 10 آلاف عامل صيني في موقع البناء عند انطلاق المشروع. وقد برّر الجانبان هذه الانتهاكات بأنه تمت الاستعانة بالعمّال الصينيين نظراً إلى كفاءتهم العالية.
فضلاً عن ذلك، لطّخت الفضائح سمعة الشركات الصينية العاملة في الجزائر: فقد حرّرت الشركة الصينية لبناء السكك الحديدية (CRCC) شيكات من دون رصيد إلى شركات فرعية، فيما اتُّهمت شركات صينية بالامتناع عن تسديد رواتب مستحقّة لعمّالها يبلغ مجموعها 4.2 ملايين دولار. والأهم، أدّى غياب الإشراف من السلطات الجزائرية إلى تلكّؤ الصينيين عن مراعاة الشفافية والمساءلة بسبب ضعف الحوافز. ومن الأمثلة الصارخة في هذا الصدد مشروع الطريق السريع لربط شرق البلاد بغربها، حيث أُغلِقت أقسام كاملة من الطريق لتصليحه، بعد أسابيع فقط من تدشينه.
على الرغم من أن العلاقات الصينية-الجزائرية لا تفيد بالتوازي كلا الجانبين، إلا أنها تحمل في طياتها طاقة كبيرة لتحقيق تعاون أكبر. ففي الجانب الجزائري، تتمتع الحكومة بالوسائل والموارد لبناء شراكات أكثر فعالية والتفاوض على صفقات أفضل مع الشركات الصينية. وينبغي عليها أيضاً التفكير في طرق لتعزيز تنافسيتها لجهة استقطاب الاستثمارات الخارجية المباشرة من الصين. يمكن في هذا الإطار الاقتداء بالمغرب، حيث أصدرت السلطات مؤخراً تنظيمات تنص على إلغاء تأشيرات السفر للمستثمرين الصينيين، في خطوة يُتوقَّع أن تفضي إلى زيادة أعداد السياح والمستثمرين الصينيين في المملكة.
ثانياً، يتعيّن على الحكومة الجزائرية الدفع نحو إبرام مزيد من الصفقات مع الصين، ما من شأنه أن يساهم في تعزيز التنافسية الجزائرية في مصادر الطاقة المتجدّدة، بدلاً من إبرام صفقات لاستخراج الموارد الطبيعية. ويجب التركيز بشكلٍ خاص على قطاعَي الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، حيث يمكن أن تفسح الخبرة الصينية في هذَين المصدرَين للطاقة البديلة والمساحات الخالية الشاسعة في الصحراء الجزائرية، المجال لقيام تعاونٍ يحقّق مكاسب للطرفَين معاً.
ثالثاً، تميل الجاليات المُهاجِرة في البلدان التي تشعر أنها في وطنها، إلى الاستثمار والتفكير في مشاريع مربحة طويلة المدى. أما إذا لم تشعر بالاندماج في البلدان المضيفة، فتصبح عندئذٍ أكثر ميلاً لتحقيق مكاسب قصيرة الأمد ومشاريع مؤقتة قد لاتكون مستدامة. وفي حالة العلاقات الصينية-الجزائرية، من المهم للغاية تعزيز الروابط الثقافية والاجتماعية لتحفيز انخراط الجالية الصينية في البيئة المحلية ودفعها نحو الاهتمام بالمصلحة العليا للبلاد.