أعلنت جماعة الإخوان المسلمين السورية في العام 1979 الحرب ضدّ الرئيس الراحل حافظ الأسد، وانضمّت إلى تمرّد أشعلت جذوته مجموعة مُنشقّة عُرفت باسم "الطليعة المقاتلة". وقد شنّت الحكومة البعثية حملة شرسة لقمع هذا التمرّد، وسنّت القانون الرقم 49 للعام 1980 الذي يعاقب كل منتسب إلى جماعة الإخوان بالإعدام، وارتكبت مجزرة حماه في شباط/فبراير 1982، وأسفرت عن مقتل آلاف الأشخاص، وتهجير عددٍ كبير من السكان إلى خارج البلاد. لكن، بعد مرور ثلاثة عقود على ذلك، يبدو أن التاريخ يكرّر نفسه، لكن على نطاق أكبر بكثير.
واقع الحال أن الحرب الراهنة في سورية يشارك فيها بعض الأشخاص الذين كانوا منخرطين في الحرب السابقة، من ضمنهم الشيخ أبو العباس الشامي الذي شارك في الانتفاضة الأولى وأمضى سنوات طويلة في السجن، كما شارك في مفاوضات لإنجاح حل سلمي لأزمة الاستعصاء في سجن صيدنايا في العام 2008، وحاز على نفوذ واسع في صفوف الشباب الإسلاميين المعتقلين. وفي العام 2011، أصبح عددٌ من أتباعه النواة الأولى لكتائب أحرار الشام، التي سُرعان ماتحوّلت إلى "حركة أحرار الشام الإسلامية"، أحد أقوى فصائل المعارضة المسلّحة راهناً.
مع أن أبو العباس شغل منصب رئيس المجلس الشرعي في الجبهة الإسلامية (التي تُعتبر حركة أحرار الشام إحدى مكوّناتها)، عند تأسيسها في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، إلا أنه غالباً ما بقي بعيداً عن الأضواء. وذُكر أنه ابتعد عن الحركة في أعقاب مقتل قادتها المؤسّسين في ظروف غامضة في أيلول/سبتمبر 2014، لكنه لايزال، في العام 2016، شخصية محترمة ونافذة في أوساط الإسلاميين السوريين، ويُستنجَد بآرائه في النقاشات الداخلية للمعارضة. وهو وافق على إجراء هذه المقابلة لشرح رؤيته للحرب السورية.
آرون لوند: أودّ أن أشكركم، بدايةً، لموافقتكم على المشاركة في هذه المقابلة.
أولاً، هل يمكنكم التحدّث قليلاً عن خلفيتكم الشخصية والسياسية؟ مثلاً، بحسب معلوماتي، اسمكم الحقيقي هو محمد أيمن أبو التوت.
أبو العباس الشامي: نعم اسمي كما ذكرت. وأنا من مواليد دمشق سنة 1959. وهذا يعني أنني كنت شابّاً حين اندلعت ثورة أهل الشام الأولى سنة 1979، وانتظمتُ مع أحد فصائل المعارضة وقتها، لكن ليس جماعة الإخوان المسلمين.
لوند: هل تقصدون الطليعة المقاتلة؟
أبو العباس: لم أكن من الإخوان ولا من الطليعة، وأتحفظ عن ذكر الاسم لاعتبارات أمنية. لكن النظام كان يصنّف جميع معارضيه باسم الإخوان المسلمين وكان يُكره جميع معتقليه، كما فعل معي، على أن يكتبوا بخط يدهم اعترافهم بالانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين.
وسبب إصرار النظام الأسدي على هذا التصنيف الوحيد، هو محاكمتهم وفق القانون الرقم49 القاضي بالحكم بالإعدام على كل من ثبُت انتسابه إلى جماعة الإخوان المسلمين. وبالطبع لاتسأل عن طرق إثبات الانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين، فهو شيء يندى له جبين الإنسانية. من حضر درساً دينياً فهو من الإخوان المسلمين. ومن نام عنده قريبٌ له من الإخوان المسلمين، ولو لليلة واحدة، فهو من الإخوان.
حين كنت موقوفاً في أحد المسالخ - أعني أحد الأفرع الأمنية - قال لي أحد ضباط التحقيق: "أنا أعلم أنك لست من تنظيم الإخوان المسلمين، وأعلم أن هناك جماعات معارضة كثيرة في الساحة السورية، لكن نصنفها جميعها بـ"الإخوان المسلمين" لأن كل من يُدخل السياسة في الدين هو عندنا من الإخوان المسلمين!"
لوند: وبعد هذه الاعتقالات، هل غادرتم سورية؟
أبو العباس: نعم، خرجت من سورية هرباً من إجرام النظام أوائل سنة 1981، وبقيت في المهجر متنقّلاً بين بلدان عدّة، إلى أن تمّ طردي من إحدى دول الجوار إلى سورية سنة 1993 على إثر صفقة أمنية بين البلدين.
لوند: وفق ماسمعتُهُ، الدولة التي طُرِدتم منها إلى سورية هي تركيا. طبعاً، حصل في مابعد تغييرٌ شاملٌ في العلاقات بين أنقرة ودمشق.
أبو العباس: أعتذر عن الإجابة عن هذا السؤال.
لوند: حسناً. في نهاية المطاف، سُجنتم في سورية. ماذا حصل بعد ذلك؟
أبو العباس: بقيتُ في السجن 13 عاماً، وخرجتُ بعفو رئاسي أواخر العام 2005. ثم تم اعتقالي ثانيةً بعد 9 أشهر على إثر الصفقة التي قام بها النظام مع الاحتلال الأميركي للعراق، برعاية الأمين العام لميليشا الأمم المتحدة - أعنى منظمة الأمم المتحدة التي ثبُت انحيازها إلى الظالمين المستكبرين وقوى الهيمنة الدولية، فاستحقت تسميتها "ميليشيا الأمم المتحدة" - وهذه الصفقة تتعلق بالمحكمة الدولية حول مقتل الحريري، والحدود العراقية السورية.
المقصود أنني اعتُقلت مرة أخرى سنة 2006 بعد انتهاء مسرحية حرب تموز بأيام قليلة، وبقيتُ في السجن حتى منتصف سنة 2012، أي بعد بدء الثورة السورية المباركة بحوالى سنة وثلاثة أشهر. وبعد خروجي بأيام، ذهبتُ إلى شمال سورية وتابعت مسيرة نضالي ضدّ هذا النظام الظالم مباشرةً. ومازلت، وسأبقى بعون الله تعالى، حتى أموت أو يتحقق حق شعبنا برفع الظلم عنه، وزوال النظام الطائفي الظالم، وإقامة النظام الذي يرضاه رب العالمين ويرضاه شعبنا المظلوم.
لوند: ماذا عن الدور الذي لعبتموه في جمع مجموعة من الشباب داخل سجن صيدنايا، ممّن أصبحوا لاحقاً النواة الأولى لأحرار الشام؟ هل يمكنكم إخبارنا بهذه القصة باختصار؟
أبو العباس: خضنا في سجن صيدنايا تجربة مريرة، تُعتبر صورة مصغّرة عمّا يجري في ساحات الجهاد الإسلامية، بمعنى اختلاف التيارات والاجتهادات والأفهام وغير ذلك ممّا لايخفى عليك.
وأقصد تجربة محنة الاستعصاءات في السجن، والتي بدأت بأول استعصاء في أواخر شهر آذار/مارس 2008، كردّ فعل من السجناء على الظلم والتعذيب وإهانة المقدّسات الدينية من قبل إدارة السجن؛ مروراً بالاستعصاء الثاني في 5 تموز/يوليو 2008، انتقاماً من إدارة السجن لما حصل في الاستعصاء الأول، وراح ضحيّته عشرات القتلى والجرحى بسبب استعمال النظام للأسلحة القاتلة من رشاشات وغيرها؛ وانتهاء بالاستعصاء الثالث في 5 كانون الأول/ديسمبر 2008، وقُتل فيه بعض الشباب أيضاً.
وبعده بدأت نهاية الاستعصاء. ونشأ في السجن تيار صغير متشدّد، كانت له وجهة نظر في حل أزمة السجن حلّاً عسكرياً. وبالطبع، كان ذلك أشبه بالخيال بسبب فارق القوة. وقد تطور الخلاف إلى اتهام من خالفهم بالعمالة للنظام، ثم التكفير.
كنتُ عضواً في لجنة اختارها السجناء بالاستفتاء والتصويت، لحل أزمة السجن حلّاً سلمياً بعيداً عن استخدام القوة، عبر التفاوض مع النظام على الرغم من ظلمه وإجرامه. وكان هذا رأي الأغلبية الساحقة في السجن. واحتجنا لإنجاح هذا الرأي، إلى الردّ على شبهات واحتجاجات المخالفين بالشرع والعقل والتجارب، وإلى خوض مناظرات علمية ونقاش جميع الأفكار. فأثمرت هذه جميعها نضوجاً فكرياً وعلمياً عند الكثيرين، ومنهم قيادات بعض الجماعات المقاتلة في سورية خلال الثورة، وأيضاً قيادات كتائب أحرار الشام - رحمهم الله تعالى. وكنتُ في السجن حين شكّل مجموعة من الشباب المُفرَج عنهم الكتائب، ثم صارت تُعرف بحركة أحرار الشام بعد اندماجها مع مجموعة فصائل، جميعها كانت قياداتها في سجن صيدنايا واستفادت من تجربتها في السجن.
لوند: ما علاقتكم الراهنة بأحرار الشام؟
أبو العباس: علاقتي بحركة أحرار الشام هي كعلاقتي مع الكثير من الفصائل القائمة في الساحة: علاقة مرجعية فتوى، ونصح، وتوجيه لما فيه مصلحة شعبنا وثورتنا.
لوند: باعتباركم من الأشخاص الذين حظوا بفرصة نادرة هي أنكم شهدتم وشاركتم شخصيّاً في كلٍّ من الصراع الذي دار في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم والصراع الراهن، ماهي برأيكم أوجه الشبه والاختلاف بينهما؟
أبو العباس: أرى أن هناك تشابهاً كبيراً بين الحالتين. على رأس هذا التشابه أنه ثبت بما لايدع مجالاً للشكّ أن معظم القوى الفاعلة في العالم هي من تحمي النظام، وهي من منعت سقوطه في الثورة الأولى، وهي من تمنع سقوطه هذه المرة، وهي من تتستّر على جرائمه بحق الشعب السوري، وهي من تمنع الدول الجارة والصديقة من حماية الشعب وإمداد ثوّاره بالأسلحة النوعية القادرة على إحداث نوع من التوازن في الساحة. لكن مع فارق كبير من جهة ماحصل من دمار وقتل وتهجير مقصود من قبل النظام بل والدول العظمى، ضمن مخطّط جهنّمي صار يفهمه الصغار فضلاً عن الكبار.
ومع ذلك، مُخطئ من يظن أن هذه هي نهاية التاريخ، وأن المعادلة الدولية والإقليمية ستستمر إلى الأبد ولن يصيبها أي تغيير. من يظن هذا فهو جاهل مغرور لم يقرأ التاريخ، أو قرأه لكنه لم يفهم القوانين الإلهية في صعود الأمم وهبوطها، وفي تحقيق الله تعالى للعدالة في الأرض.
أنا موقنٌ أن عقارب الساعة تدور، وأن واجبنا تجاه شعبنا وثورتنا اليوم وغداً هو دفع الظلم عن شعبنا بكل الوسائل المشروعة والممكنة سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً. وواثقٌ أن العاقبة للمستضعفين وليست للمستكبرين.
لوند: بالعودة إلى الوضع الراهن، تشهد الساحة الإسلامية في سورية انقسامات حول ما إذا كان التعاون العسكري مع تركيا، أو بلدان أخرى، مشروعاً في القتال ضد حكومة البعث. ودارت نقاشات محمومة حول هذا الموضوع بين أحرار الشام وجبهة فتح الشام والجيش السوري الحر وداخل العديد من الفصائل. ما موقفكم من هذه المسألة؟
أبو العباس: التعاون العسكري مع الإخوة الأتراك وغير الأتراك من الصادقين في الدفاع عن الشعب السوري مرحّب به، وهو واجب وطني إذا كان يصبّ في مصلحة شعبنا وثورتنا. لي ردود كثيرة معروفة على المخالفين لهذا الرأي، ولكن في الوقت نفسه اعترضتُ على تدخل الأميركيين لحساسية هذا الموضوع جدّاً لدى شعبنا وثوارنا: فهؤلاء ينظرون – بحق – إلى أميركا على أنها سبب بلائهم ومايقع عليهم من الظلم منذ سنوات كثيرة، وخاصة بعد الثورة.
أليست أميركا هي من كانت ولاتزال تعترض على المنطقة الآمنة شمال سورية؟ أليست أميركا من يمنع تزويد الثوار بالأسلحة النوعية، وخاصة الدفاعات الجوية التي تدفع اعتداء الطيران عن شعبنا؟ أليست أميركا من يدعم الأحزاب الكردية الانفصالية المتعاونة مع النظام، والتي ثبُت أنها تضطهد القوميات الأخرى في المناطق التي تُسيطر عليها؟ أليست أميركا من يسرّب السلاح إلى داعش بطرق ملتوية، ثم تدّعي أنها تريد محاربته؟ وغير هذا كثيرٌ جدّاً مما ترتكبه أميركا بحق الشعب السوري. كل ذلك أفقد الثقة بها وبحقيقة موقفها، ولهذا فالشعب والثوار يرَوْن فرقاً كبيراً بين التعاون مع تركيا وبين التعاون مع الأميركيين.