المصدر: Getty
مقال

انتصار نظام الإبادة السياسية

يتحدّث ياسين الحاج صالح، في مقابلة معه، كيف حُرِمت معاناة السوريين من المعنى.

نشرت في ٢١ أغسطس ٢٠١٧

ياسين الحاج صالح مثقّف سوري صدرت له للتو ترجمة إنكليزية لكتابه "الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية، والحرب العامة في سورية" (The Impossible Revolution: Making Sense of the Syrian Tragedy ). في العام 1980، اعتُقِل بسن التاسعة عشرة خلال دراسته الطب في جامعة حلب، على خلفية عضويته في الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي الذي كان يقوده المعارِض السوري رياض الترك. أمضى صالح 16 عاماً في السجن، منها عامٌ واحد في سجن تدمر سيئ السمعة، الذي وصفه بأنه "مكان يلتهم الرجال بالمعنى الحرفي للكلمة".

كان القدر بالمرصاد لصالح من جديد بعد الانتفاضة السورية في العام 2011، عندما هرب هو وزوجته، سميرة خليل، المعتقَلة السياسية سابقاً، من دمشق إلى دوما في الغوطة الشرقية على مقربة من العاصمة. وفي كانون الأول/ديسمبر 2013، خُطِفت خليل إلى جانب النشطاء رزان زيتونة ووائل حماده وناظم حماده، ويُشتبَه في أن الجهة الخاطفة هي جيش الإسلام، وهو تشكيل عسكري سلفي كان معارضاً للنظام. في ذلك الوقت، كان صالح قد غادر دوما متوجّهاً إلى الرقة، مسقط رأسه، قبل أن يُرغَم على الانتقال إلى تركيا، في انتظار فرصة لم شمله من جديد مع زوجته. اليوم يعيش صالح في اسطنبول، ويواصل الكتابة والنشر. تحدّثت معه "ديوان" في منتصف آب/أغسطس الجاري مع بدء عرض كتابه في المكتبات.

مايكل يونغ: تهانينا على كتابكم الجديد. هلا تخبروننا ما الأفكار الرئيسة التي سعيتهم إلى نقلها إلى القرّاء؟

ياسين الحاج صالح: شكراً لكم. كُتِب الجزء الأكبر من محتوى الكتاب في سورية بين العامَين 2011 و2013. كُتِبت مقالات الكتاب في الأصل في اللغة العربية، ولم تكن هناك نيّة لإدراجها في كتاب. لقد كانت كتابة هذه المقالات فيما كنت أعيش متوارياً في دمشق طريقتي للمشاركة في نضالنا. وينطبق ذلك أيضاً على مقالَين في الكتاب كتبتهما أثناء وجودي في دوما والرقة، التي عشت فيها متوارياً من جديد في صيف 2013. حاولت في الكتاب أن أشرح ما كان يجري، وعملت على بناء قضية أخلاقية وسياسية تقدمية ضد نظام الأسد.

عبر تحليل الهيكلية الاجتماعية للانتفاضة، وصعود العدَمية التي يجسّدها الشبّيحة الموالون للنظام أو الجهادية – وكلاهما مثالان عن الفاشية السورية – والتكوّن الاجتماعي لأربعة كيانات سورية أثناء الصراع، وتفكُّك بلدنا، أردتُ أن يُنظَر إلى الكتاب بأنه دفاعٌ عن ولايتنا المعرفية، التي يجري إنكارها الغرب أكثر حتى من إنكار ولايتنا السياسية. كُتِب المقال الأخير والأطول، وعنوانه السلطان الحديث، في اسطنبول، وهو محاولة لإطلاع القرّاء على تحليل معمّق عن هيكلية نظام الأسد ودور الطائفية في تكوينه.

يونغ: أين أخطأت الانتفاضة في سورية؟ في أي مرحلة من المراحل اتّخذت اتجاهاً بدأ يثير القلق لديكم؟

صالح: ليست الانتفاضة شخصاً أو حزباً. إنها مجهود جماعي لتملُّك السياسة. تسعى الانتفاضة إلى انتزاع ملكية سورية من قبضة آل الأسد الذين غرّبوا السوريين وسموا البلاد "سورية الأسد". امتلاك السياسة يعني المجاهرة بالآراء في المسائل العامة والتجمّع في الفضاءات العامة والاحتجاج على السلطة العامة. في سياق هذا المجهود الهائل من أجل الحرية واجه السوريون قوة همجية منذ البداية. لجأ بشار الأسد إلى الحرب، مستخدماً الجيش، وأجهزته الأمنية الواسعة، والشبّيحة ضد شعبه من أجل سحق مقاومتهم للنظام، ما أدّى إلى عسكرة الانتفاضة. وجد المحتجّون أنفسهم مضطرين إلى تحطيم احتكار الطغمة الحاكمة القاتلة والطائفية لوسائل العنف، أي امتلاك الحرب، كي يتمكّنوا من امتلاك السياسة. بيد أن رد الفعل المبرّر هذا أطلق ديناميكية يتعذر التحكم بها من الراديكالية والأسلمة والتطييف، ماتسبّب بانهيار الإطار الوطني للصراع وتدفّق الجهاديين العالميين الجوالين، فضلاً عن استجلاب تدخلات إقليمية ودولية.

يجب ألا ننسى أن سورية تقع في الشرق الأوسط، وهو نظام دولي فرعي بالغ القسوة، يقوم على السيادة الإسرائيلية والاستعباد السياسي للمحكومين في البلدان الأخرى، تحت رعاية القوى الغربية، وراهناً روسيا. خطأنا نحن السوريون هو أننا لم نكن أقوياء كفاية في هذه الغابة. يدفع جيلان من السوريين ثمن الإقصاء من الحياة السياسية في البلد الذي تتمتع نخبته الحاكمة، شأنها في ذلك شأن الأسياد الإسرائيليين، بالإعفاء التام من موجبات القانون الدولي.

يونغ: في كانون الأول/ديسمبر 2013، خُطِفَت زوجتك سميرة في دوما، على أيدي جيش الإسلام كما يبدو. وقبل خمسة أشهر، قام تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة بخطف شقيقك فراس. هل لديكم معلومات عن مصيرهما؟

صالح: 2013 كان عاماً خسيساً، عام الجرائم الخسيسة. أولاً ظهر تنظيم داعش في وقت تدخل حزب الله العلني في القصير ضد الثوار السوريين. منذ تلك اللحظة، باتت ديناميكيات التشدّد والعسكرة والأسلمة أمراً غير قابل للانعكاس. ودخلنا المرحلة الثانية من الصراع السوري، مرحلة الحروب السنّية-الشيعية. في مطلع تموز/يوليو، نفّذ عبد الفتاح السيسي انقلابه في مصر، مرتقياً إلى السلطة على أكتاف عدد كبير من الشرفاء الذين اعترضوا على حكم الإخوان المسلمين – وسرعان ما رفس السيسي تلك الأكتاف. ثم وقع الهجوم الإجرامي بالأسلحة الكيميائية في الغوطة الشرقية في 21 آب/أغسطس، والذي أسفر عن مقتل 1466 شخصاً، وأعقبه الاتفاق الكيميائي الأشد إجرامية بين الروس والأميركيين، والذي جاء إلهامه من إسرائيل. لقد ساهم هذا الاتفاق في إنقاذ النظام المجرم وكان هدية عظيمة للجهاديين السلفيين المتشدّدين والعدميين في مختلف أنحاء البلاد.

استغلّت داعش التي خطفت شقيقي وأصدقاء لي، وجيش الإسلام الذي خطف زوجتي وأصدقاء آخرين، هذه التحولات، ماساهم في ترسيخ الأبعاد الإجرامية لهذين التنظيمَين، في حين أن التحولات نفسها تسبّبت بإضعافنا. في نظري، يرتبط خطف سميرة وفارس، و"اختفاؤهما" منذ ذلك الوقت، بثلاثة قوى وحشية: نظام الأسد الفاشي، والتنظيمات الإسلامية العدَمية، والنظام العالمي الأوليغارشي. حرية أحبابي ومستقبل العالم أمران مترابطان. علينا أن نروِّض وحوش الدولة والدين والعالم، أو نؤنسنها، إذا كنّا نتطلع إلى مستقبل أقل قسوة.

يونغ: يبدو اليوم أن نظام بشار الأسد باقٍ. مامعنى ذلك بالنسبة إلى السوريين أمثالكم الذين كانوا يتوقون إلى سورية أكثر ديمقراطية؟

صالح: يعني ذلك نكران أي معنى لمعاناتنا وخسائرنا ونضالنا من أجل الحرية. ويعني أنه ليست هناك أي قيمة لنصف مليون ضحية، وأن مقتلهم لن يؤدّي إلى تغيير سياسي، وأن موت من ماتوا لا يحمي أرواح مَن لا يزالون على قيد الحياة. قد يُقتَل هؤلاء أيضاً من دون أن يصدر أي اعتراض من جانب أولئك الذين نصّبوا أنفسهم حماة للقوانين الدولية. وبالطبع عندما يكون موتنا بلا معنى، تكون حياتنا أيضاً بلا معنى. بالنسبة إلي، يعني ذلك أنه علينا أن نكون أدوات في تغيير عالمي كي نتمكّن من انتزاع معنى ما لحياتنا وتضحياتنا. وهو ما يعني بدوره أن تكون ثورياً حتماً، تعمل على تغيير عالمنا المعاصر.

أما في يتعلق بفرصة بناء سورية أكثر ديمقراطية، فقد ضاعت إلى الأبد. الديمقراطية في أزمة في مختلف أنحاء العالم، وسورية هي ضحية هذه الأزمة. ليس مستقبل العالم بأمان في أيدي مَن يجدّدون تفويض مجرم يفوق إجرامه الوصف مثل بشار الأسد، فيسجنوننا في حاضر أبدي لا يتغير ولا يقبل التغيير، يصفونه بأنه مستقر. يتصورون أنهم هكذا يضمنون بقاء الوضع السوري آمناً بالنسبة إليهم، لكنهم بذلك يجعلون العالم سورياً. إنهم مجرد نسخ عن بشار. يجب أن يتغيّر هذا العالم، فتغييره هو مسألة دفاعٍ عن النفس بالنسبة إلى مليارات الأشخاص.

يونغ: قلتم لي سابقاً إن الحرية والشرق الأوسط لايلتقيان كما الصحة والمرض. هل لازلتم تعتقدون ذلك؟

صالح: ليس الشرق الأوسط تعبيراً جغرافياً. إنه نظام إقليمي يتسم باحتكار إسرائيل للعنف بين الدول وبإعفائها من موجبات القانون الدولي، وباحتكار الأنظمة العربية للعنف داخل حدودها ونكران الحقوق السياسية لمحكوميها مقابل إعفائها من القوانين الدولية أيضاً أو تطبيقها عليها انتقائياً.

الشرق الأوسط هو أرض "الإبادة السياسية" (بوليتيسايد)، بحسب عنوان كتاب من تأليف عالِم الاجتماع الإسرائيلي الراحل باروخ كيمرلنغ. لقد ابتدع كيمرلنغ العبارة لوضع تصوّرٍ مفهومي عن أوضاع الفلسطينيين في وطنهم المحتل، وإن يكن قصر دور الشرير في روايته على رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون. يجسّد مصير الفلسطينيين مصير شعوب الشرق الأوسط: فإذا قاوموا نظام الإبادة السياسية سيواجهون الإبادة الحقيقية (جينوسايد) كما يحصل في سورية.

هكذا أفسّر "الاستثناء الديمقراطي" للعرب أو المسلمين. هذا ليس "استبداداً شرقياً"، بل هو نظام الإبادة السياسية والجماعية الشرق أوسطي. سوف نُدمَّر إن لم نتمكن من رص صفوفنا للإطاحة بمنظومة الاستعباد القاتلة التي توجَد مفاتيحها في واشنطن وموسكو وتل أبيب.

يونغ: تعيشون الآن في المنفى في تركيا. ما معنى ذلك بالنسبة إلى شخص مثلكم كان يأمل بحدوث تغيير أساسي في سورية؟

صالح: إنه استمرار لحياتي في سورية في ظل نظام الأسد. هناك كنت منفيّاً أيضاً؛ لازلت من دون جواز سفر. لكنني أعتقد أنني أصبحت أمتلك معارف وخبرات أكبر عن الدول. وهي ليست مختلفة في الجوهر عن الدولة التي هي في قبضة الأسرة السفّاحة التي تحكم سورية. ولعله لهذا تمكّنت هذه الدول من التماهي مع دولة هذه العائلة أكثر من تماهيهم مع السوريين الذين يقاومونها. في الوقت نفسه، أنتمي الآن إلى شبكة تضامن فضفاضة من المتطلعين إلى العدالة والحرية في العالم، يشارك فيها أشخاص من بلدان عدة، وهم مصدر دعم وعون كبير لي.

يونغ: يقول مثلٌ صيني إنه إذا انتظرت وقتاً كافياً عند ضفاف النهر، سوف تعوم جثث أعدائك على سطح المياه. هل سيحدث ذلك في سورية؟

صالح: لا أفقد الأمل أبداً. أنا أعمل وأجدّد أدوات عملي على نحو يبقي الأمل حياً. أنتمي إلى ثقافة تثمّن الصبر كثيراً. وقد علّمتني تجاربي الشخصية على امتداد جيلَين وصراعين كبيرين في سورية الاستثمار في التغيير في المدى الأبعد. نهر التاريخ يسيطر عليه الآن أعداؤنا الطائشون. لقد بذلوا قصارى جهدهم للاستحواذ على التغيير الذي نتطلّع إليه في بلدنا، ولحرماننا من تملُّك هذا التغيير وتملُّك تاريخنا. لكنهم بذلك جعلوا من نهرنا ونهرهم نهراً واحداً كبيراً. ولعله قريباً ستعوم جثثهم في هذا النهر الكبير. أنا مفعمٌ بالأمل بهذا الخصوص.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.