"تقوم الاستراتيجية على الحفاظ على توازن بين الغايات والطرق والوسائل؛ وعلى تحديد الأهداف؛ وعلى الموارد والأساليب المتوافرة لتحقيق تلك الأهداف"، هذا ماكتبه لورنس فريدمان في كتابه المرجعي بعنوان "الاستراتيجية".
حدّدت الاستراتيجية الجديدة التي تنتهجها إدارة ترامب في التعاطي مع الملف الإيراني، ثلاثة أهداف طموحة. أولاً، تحسين الاتفاق النووي للعام 2015، المعروف بخطة العمل المشتركة الشاملة. ثانياً، التصدّي للتأثير الإيراني الخبيث في الشرق الأوسط. وثالثاً، دعم الشعب الإيراني الذي يريد "استعادة السيطرة على حكومته".
قد تكون هذه الأهداف مستساغة، إلا أنه يتعذّر تحقيق أيٍّ منها في عهد الرئيس دونالد ترامب. يُظهر التاريخ أن إيران تنكفئ عندما تواجه موقفاً دولياً موحّداً وتكون منقسمة داخلياً. غير أن ترامب ولّد الديناميكية العكسية، متسبّباً بتشظّي الوحدة الدولية فيما ساهم في توحيد الفصائل السياسية المتباينة في طهران ضد تهديد مشترك. بدلاً من التركيز على المسائل الكثيرة التي تسلك فيها إيران مساراً مخطئاً – بما في ذلك القمع في الداخل والتواطؤ في الإبادة الجماعية والنزوح في سورية – اختار ترامب التهجّم على إيران في المسألة الوحيدة التي يُعتقَد على نطاق واسع أنها تتصرف فيها بطريقة صائبة – الالتزام بالاتفاق النووي. في محكمة الرأي العام الدولي، تسبّبت هذه الخطوة بفرض عزلة على واشنطن أكثر منه على طهران.
كان تشكيل تحالف عالمي ضد إيران أكثر سهولة إلى حد كبير في العام 2012. لقد توحّدت القوى الكبرى الدولية – لاسيما الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا – في رغبتها في تجنّب حيازة إيران سلاحاً نووياً ووقوع هجوم ضدّها. وساهمت بوادر الانفتاح على طهران التي أظهرها أوباما والتي لم تلقَ مبادلةً بالمثل، مقرونةً بدَجَل الرئيس الإيراني آنذاك محمود أحمدي نجاد، في إقناع العالم بأن إيران، وليس أميركا، هي المشكلة. وقد أفضى مزيج العقوبات الاقتصادية – بما في ذلك الحظر الأوروبي على النفط الإيراني – وانتخاب البراغماتي حسن روحاني رئيساً للبلاد في العام 2013، إلى توليد ظروف مؤاتية للدبلوماسية.
في حين أنه لم يُسجَّل تحسّن لا في السلوك الإقليمي لإيران ولا في سلوكها الداخلي منذ توقيع الاتفاق النووي، سوف يتعذّر على ترامب حشد التصميم العالمي نفسه من جديد رداً على الأنشطة الداخلية والإقليمية الإيرانية. ومن الأسباب عدم وجود إجماع عالمي ضد التطلعات الإقليمية لإيران، وذلك على النقيض من الإجماع المناهض لتطلعاتها النووية. فروسيا تتحرّك بالتنسيق مع إيران في سورية. وترى بلدان أوروبية كثيرة في إيران حليفاً تكتيكياً في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. وفي منطقةٍ ترزح تحت وطأة الدول الفاشلة والحرب الأهلية، تنظر أطرافٌ كثيرة إلى طهران بأنها قوة إقليمية مستقرة يجب إشراكها لاعزلها.
أبدت بلدان كثيرة، مثل الصين، استعدادها في السابق للتخلي عن مصالحها التجارية في إيران خوفاً من الارتفاع الشديد في أسعار النفط في حال الفشل في التوصل إلى اتفاق نووي. غير أن هذا الوضع تبدّل بعد توقيع خطة العمل المشتركة الشاملة في تموز/يوليو 2015. اليوم تُعَدّ إيران بيدقاً بارزاً في رقعة الشطرنج في مبادرة "حزام واحد طريق واحد" التي أطلقتها الصين، وغالب الظن أن بيجينغ لن تتنازل عن مصالحها الاقتصادية لمجرّد استرضاء ترامب.
كما أن الصين وروسيا، وكلتاهما تخضعان إلى نظام سلطوي، غير مستعدّتَين لدعم أي جهود أميركية من أجل مساعدة الشعب الإيراني على "استعادة السيطرة على حكومته". وتلتزم أوروبا، التي كانت ترفع الصوت في السابق دفاعاً عن حقوق الإنسان في إيران، الصمت إلى حد كبير. وعلى الرغم من أنه لطالما اعتُبِر الشعب الإيراني الأكثر تأييداً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إلا أن معارضة ترامب للاتفاق النووي، وفرضه حظراً على تأشيرات السفر، واستخدامه مصطلح "الخليج العربي" بدلاً من "الخليج الفارسي"، أثارت نفور الإيرانيين كما لم يفعل أي رئيس أميركي منذ العام 1979. يردّد المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، منذ ثلاثة عقود، بأن أميركا متغطرسة وغير جديرة بالثقة. وهو يشعر وأخيراً بأن الأحداث أثبتت أنه كان على حق.
هل الدعم الأوروبي والروسي والصيني مهم فعلاً؟ قال ترامب مؤخراً لـ"فوكس نيوز": "قلت لهم [للاتحاد الأوروبي]: ’استمروا في كسب المال وحسب. لاتقلقوا. لسنا بحاجة إليكم في [الموضوع الإيراني]". لكن كلام ترامب واهِمٌ ومضلِّل، نظراً إلى أن نحو مئة في المئة من التجارة الإيرانية تتم مع بلدان غير الولايات المتحدة. لن تُرغِم الضغوط الأميركية الأحادية إيران على إعادة تقييم سلوكها النووي أو الإقليمي أو الداخلي، إذا كانت طهران تعتبر أن الأبواب التجارية في آسيا وروسيا وأوروبا ستبقى مفتوحة أمامها.
ثمة خطرٌ بأن تتحول استراتيجية ترامب في التعامل مع الملف الإيراني، إلى الأسوأ على مختلف الصعد، بحيث تُحرِّر طهران من التزاماتها بموجب الاتفاق النووي فيما تقوّض في الوقت نفسه الضغوط الدولية الموحّدة التي تُعتبَر ضرورية من أجل التصدّي لإيران. كان يُفترَض بترامب اعتماد مقاربة استراتيجية أكثر حكمة، عبر التوجّه إلى شركاء الولايات المتحدة وحلفائها حاملاً الرسالة الآتية: "لايروقني الاتفاق النووي، إنما سأستمر في الالتزام به شرط أن تتعاونوا معنا من أجل إحباط الدور الإشكالي الذي تضطلع به إيران في الشرق الأوسط، ومعاملتها الهمجية لشعبها".
لقد شكّل التصدّي الفعال للنفوذ الفارسي مصدر قلق أيضاً للإغريق القدامى. كان ثوسيديديس، المؤرّخ الأثيني الأسطوري، وهو من المؤرّخين المفضّلين لدى مستشار الأمن القومي الأميركي إيتش آر مكماستر، يعتبر أن المخطِّط الاستراتيجي الأعظم في زمانه هو بريكليس. كتب لورنس فريدمان عن بريكليس : "كانت القدرة على إقناع الشعب، إنما أيضاً الحلفاء والأعداء، صفة حيوية من صفات المخطِّط الاستراتيجي الناجح. من هذا المنطلق، كانت الاستراتيجية تتطلب مزيجاً من الأقوال والأفعال، والقدرة على التحكّم بالاثنَين معاً".
الفشل الأكبر الذي مُني به ترامب، في سياسته الإيرانية وعلى نطاق أوسع على حد سواء، هو قدرته على إثارة نفور الحلفاء الأقرب إلى بلاده، وجعل أعدائها الألدّاء يبدون أكثر ودّية واستساغة.