أُخذ الكثيرون على حين غرّة باستقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في 4 تشرين الثاني/نوفمبر. ففي الأيام التي سبقت بيان الاستقالة الذي تلاه الحريري في المملكة العربية السعودية، وصبّ فيه جام نقده على حزب الله بسبب "توجيه السلاح" إلى صدور اليمنيين والسوريين واللبنانيين، كان الحريري يدعم أسس التسوية مع الحزب. وقد سهّلت هذه المقاربة انتخاب ميشال عون رئيساً للبنان العام الماضي، على رغم قربه من حزب الله، مقابل تولّي الحريري رئاسة حكومة "توافقية"، إلا أنها خضعت في الواقع إلى هيمنة أفرقاء مقرّبين من إيران وسورية.
لفّ الغموض أيضاً الظروف المحيطة بالاستقالة. فقد تلا الحريري بيان الاستقالة في بثّ مباشر على قناة العربية الفضائية المقرّبة من النظام الملكي السعودي، مشدّداً على أن "أيدي" إيران في المنطقة "ستُقطع". وأوحت تصريحات الحريري، في ظلّ أجواء التوتّر المتنامية بين المملكة وإيران، بأن النظام السعودي أملى عليه قرار الاستقالة. لطالما جمعت الحريري علاقة وثيقة مع السعودية، لكن التقارب بينه وبين حزب الله قوّضها إلى حدٍّ ما. ويشي واقع أن الحريري لم يعُد إلى لبنان منذ إعلان الاستقالة بأنه قيد الإقامة الجبرية في السعودية، بيد أنه أعلن خلال مقابلة أجراها مساء الأحد أنه سيعود إلى وطنه في غضون أيام.
بغضّ النظر عمّا سيجري الآن، لاشك أن نفوذ الحريري ومصداقيته قد تلقّيا ضربة موجعة. إذ بات أشرف ريفي – حليف الحريري السابق الذي تحوّل إلى خصمه اللدود بعد التسويات التي أبرمها الحريري مع حزب الله - الأوفر حظّاً لجني ثمار هذه التطورات. وهو نجح العام الماضي في تحدّي زعامة الحريري للسنّة في شمال لبنان، عبر دعم لائحة مرشّحين تمكّنت من إلحاق الهزيمة باللائحة المدعومة من الحريري خلال الانتخابات البلدية في مدينة طرابلس التي تُعتبر معقلاً للسنّة. وقد كثّف ريفي نشاطه بُعيد استقالة الحريري، طارحاً نفسه كقوة صاعدة في صفوف الطائفة السنيّة.
يمكن تفسير صعود ريفي المتنامي من خلال مروحة من العوامل. فهو اكتسب مقاماً رفيعاً وخبرةً في إدارة مؤسسات الدولة طيلة السنوات التي أمضاها في منصب مدير عام قوى الأمن الداخلي من 2005 حتى 2013. ونظراً إلى تسلّمه حقيبة وزارة العدل في فترة 2014-2016، يُعتبر ريفي شخصية متمرّدة وجديدة نسبياً على المشهد السياسي الذي يطغى عليه سياسيون تقليديون اتّضح أنهم عاجزون عن معالجة المشاكل الملحّة التي تعاني منها الدولة، مثل تردّي إنتاج الكهرباء وسوء إدارة النفايات، مايضفي عليه جرعةً من المصداقية حينما يفصح عن استعداده للتنسيق مع المجتمع المدني اللبناني لإحداث "تغيير سياسي" و"القضاء على الفساد". أخيراً، يُقدّم ريفي نفسه على أنه "من عامّة الشعب"، ويعتزّ بانتمائه إلى عائلة فقيرة وعصامية، مايشكّل تبايناً صارخاً مع القاعدة الاجتماعية النخبوية باطّراد لتيار المستقبل بقيادة الحريري.
لكن، لعلّ أكثر مايُعرَف عن ريفي موقفه الراسخ منذ أمد بعيد ضد حزب الله والنظام السوري وإيران. وفيما امتنع الحريري العام الماضي، بصفته رئيساً للحكومة، عن توجيه انتقادات علنية للغاية إلى الحزب الشيعي، لم يفوّت ريفي قطّ فرصة لانتقاد الحزب، وقدّم استقالته من وزارة العدل في العام 2016 على خلفية ما أسماه "هيمنة" حزب الله على لبنان، ثم أدان إنشاء الحزب "دولة داخل الدولة"، داعياً إلى إدراجه ضمن القائمة السوداء كتنظيم إرهابي. وعلى خلاف سياسيين "جبناء وخائفين" مستعدّين بدرجة كبيرة لإبرام تسويات مع حزب الله، قدّم ريفي نفسه على أنه جندي مستعدّ لخوض غمار "المعركة" و"بذل حياته" دفاعاً عن مبادئه وثوابته. واكتسبت مقاربته هذه زخماً مع استقالة الحريري وما أعقبها من تبدّل في موقف تيّار المستقبل تجاه الحزب الشيعي، فبات ريفي اليوم الخصم السنّي الأكثر مجاهرةً في التعبير عن معارضته للأمين العام لحزب الله حسن نصرالله والرئيس ميشال عون.
لاشك أن النقد اللاذع الذي يوجّهه ريفي لحزب الله يحظى بالشعبية، إذ أن 59 في المئة من اللبنانيين يتبنّون مواقف "سلبية" تجاه الحزب. وهذا ما أتاح له الصيف الماضي العمل على تشكيل جبهة عابرة للطوائف ضد نفوذ حزب الله، من خلال عقد اجتماعات مع شخصيات مسيحية ودرزية مناهضة للحزب. وقد تسارعت وتائر هذا المسار في أعقاب استقالة الحريري.
يحظى موقف الريفي حيال حزب الله بالشعبية في صفوف السنّة خصوصاً، الذين ينظر 88 في المئة منهم نظرة سلبية إلى حزب الله، وهو يعزف أيضاً على وتر التظلّمات الطائفية التي تعتري أبناء طائفته. فحتى قبل استقالة الحريري، قال ريفي إن "الطائفة السنية التي تُعتَبر أكبر طائفة في لبنان، تشعر بالغبن والضعف بسبب التنازلات التي تحصل ]لحزب الله[ ، والتي لا مبرّر لها". خطابه الشعبوي هذا يكسبه المناصرين، ويدغدغ مشاعر الفخار السنّية.
لكن، وعلى الرغم من تصاعد نجمه باطّراد، فشل ريفي حتى الآن في إظهار أنه قادرٌ على أن يكون بديلاً يُعتدّ به عن الحريري. والسبب الرئيس في ذلك هو أنه لم ينجح بعد في إقناع السعودية، الراعي التقليدي لسنّة لبنان، بأن عليها دعمه في مسعاه الرامي إلى تولّي زمام القيادة. لقد جمعت ريفي "علاقة جيّدة" مع محمد بن نايف الذي كان المنافس الأساسي لولي العهد محمد بن سلمان على عرش المملكة؛ وهو ربما لهذا السبب حاول التعويض عبر التودّد إلى القادة السعوديين الجدد. كذلك، وجّه ريفي بياناً إلى الأمين العام للأمم المتحدة للتنديد بالانتقادات التي وجّهتها المنظمة إلى السعودية حيال حربها في اليمن، وشكر المملكة على وقوفها في وجه حزب الله وإيران، كما قرّر تسمية إحدى جادّات طرابلس على اسم الملك السعودي، وأمر حتى برفع صور ورايات للاحتفاء بوليّ العهد. ومنذ استقالة الحريري، كانت لريفي إطلالات عديدة على وسائل إعلام موالية للسعودية. لكن كل هذا لم يُترجم بعد إلى دعم سعودي رسمي.
سيؤدّي مثل هذا الدعم الخارجي دوراً حاسماً في مساعدة ريفي على توسيع رقعة نفوذه إلى أبعد من شمال لبنان. فقد وطّد أواصر نفوذه هناك، حتى أنه اشترى مستشفى في طرابلس لتوفير الخدمات الطبية، لكنه واجه مؤخراً ضائقة مالية، لذا لم يقدّم مساهمات تُذكر لغالبية اللبنانيين السنّة الذين يقطنون خارج طرابلس. مع ذلك، ثمة مخاطر مُحدقة تتمثّل في احتمال أن يصبح خطاب ريفي أكثر طائفيةً وعدائيةً، فيؤجّج لهيب العداوة بين السنّة والشيعة، فيما هو يتنافس باطّراد على الرعاية السعودية لتوسيع قاعدته الشعبية. ربما لم يقصد ريفي بالتصريحات التي أدلى بها إلى صحيفة موالية للسعودية بُعيد استقالة الحريري، ومفادها أن اللبنانيين مستعدّون "لمواجهة المشروع الإيراني في لبنان"، سوى ضمان دعم الرياض له، إلا أن مثل هذه التصريحات ستسهم أيضاً في صبّ الزيت على نار الشكوك التي تساور البعض حيال أجندته، وستوقِد من تحت الرماد جذوة التوترات المحلية. لذا، إن كان يطمح لأن يصبح الزعيم الجديد لسنّة لبنان، فحريٌّ به أن يسلك من الآن وصاعداً مساراً أكثر تأنّياً وحذرا.