المصدر: Getty
مقال

حروب العالم

يسلّط الأدب المتخصّص الضوء على سبب تفشي النزاعات، واستمرارها لفترات أطول، ولاسيما في الشرق الأوسط.

نشرت في ١٥ ديسمبر ٢٠١٧

الأضرار الذي خلّفتها الحروب الأهلية في سورية واليمن وليبيا والعراق منذ العام 2011 صاعقة. ولعلّ ما يقارب 600 ألف شخص لقوا حتفهم، من بينهم على الأرجح أكثر من نصف مليون سوري، و17 مليون شخص نزحوا من ديارهم. ومن الأردن إلى تونس ومابعدها، أدّت تدفقات اللاجئين إلى استنزاف الميزانيات وتسببت بتأجيج السياسات المحلية.

وبسبب بروز تنظيم الدولة الإسلامية وعودة انبعاث تنظيم القاعدة، وصل متوسط عدد الهجمات الإرهابية الانتحارية حول العالم إلى 478 خلال السنوات الخمس الماضية، بالمقارنة مع 374 في السنوات الخمس التي سبقت العام 2011. وقد حال على ما يبدو تنامي السلطوية وتعميق التنافس الإقليمي، في أعقاب هذه الحروب، دون الاستجابة المنسقة للتحديات الإقليمية العاجلة، على غرار تغيّر المناخ، وندرة الغذاء والمياه، والاحتياجات المتزايدة في مجالي العمالة والتنمية .

وعلى ضوء الحاجة الملحة للتصدي إلى هذه السلسلة من الحروب الأهلية، راجعتُ مجموعات البيانات المرتبطة بالصراعات والأدبيات الأكاديمية، في محاولة لفهم الاتجاهات المتغيّرة للصراع والسبب الذي جعل هذه الحروب بشكل خاص مستعصية. (عملت على تعريف الحروب على أنها تجاوز عتبة 1000 حالة وفاة سنوية في المعارك والفئة الأوسع من الصراعات عند تجاوز عتبة 25 حالة وفاة سنوية). وتشير البيانات إلى تطور جغرافية الصراع المادية والجيوسياسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويمكن تقسيم التحولات في طبيعة الصراع الأهلي والنظام العالمي إلى ثلاث فترات صعبة: الحرب الباردة (من العام 1946 تقريباً إلى العام 1991) ومرحلة ما بعد الحرب الباردة (بين 1991 و2011 تقريباً)، والمرحلة مابعد بعد الحرب الباردة (من العام 2011 وحتى الوقت الحاضر).

وعلى الرغم من الحروب الأهلية المتصاعدة في سياقات مثل كولومبيا وأنغولا والهند الصينية، كانت الصراعات الأهلية في فترة الحرب الباردة - كثير منها كان نزاعات وطنية أو صراعات إيديولوجية، أو عبارة عن مزيج من الاثنين – أقصر على وجه الإجمال، وبالتالي أقل فتكاً بصورة عامة. ووجدت إحدى الدراسات أن متوسط ​​مدة الحروب الأهلية ارتفع من خمس سنوات في العام 1950 إلى خمسة عشر عاماً بحلول العام 2000. وفي الوقت نفسه، ارتفع عدد الصراعات المسلحة من أقل من 20 قبل العام 1950 إلى ذروة 52 في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية خلال العام 1991، مع الإشارة إلى أن معظم هذه الصراعات كانت أهلية. ولّدت هذه الصراعات الجديدة أنماطاً جديدة من العنف. كانت المناطق المعرضة لنشوء صراعات سابقاً مثل أميركا الوسطى وجنوب شرق آسيا قد شهدت استقراراً مع انهيار الاتحاد السوفياتي، حتى في الوقت الذي اجتاحت فيه الصراعات الداخلية مناطق واسعة من أفريقيا وأوراسيا أوائل تسعينيات القرن الماضي .

لكن بعد فظائع الإبادات الجماعية التي وقعت في رواندا والبوسنة، شهدت فترة ما بعد الحرب الباردة انخفاضاً حاداً في عدد الصراعات إلى ما دون 35 في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتراجع عدد الحروب الأهلية إلى أربعة، ولم تكن هناك أي حروب بين دول لسنوات عدّة. وقد كانت الفترة زاخرةً على نحو غير اعتيادي بجهود وساطة دولية مكثفة. ووفقاً لإحدى الدراسات، كانت احتمالات أن تنتهي الصراعات الداخلية في أواخر الحرب الباردة بانتصار عسكري أكثر بسبع مرات من احتمالات التوصل إلى تسويات سلمية. غير أنه بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تم عكس هذه النسبة: فاحتمال انتهاء النزاعات الداخلية بتوسيات سلمية بات أكثر بخمس مرات من الانتصارات العسكرية. وهكذا، بدأت حوالى 47 بعثة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة أعمالها بين 1991 و2011، أي أن عددها تجاوز بما يقارب ثلاث مرات ما كان عليه خلال العقود الأربعة السابقة.

ولكن تلك الفترة السعيدة التي تلت الحرب الباردة، التي توقع خلالها أحد علماء الاجتماع البارزين، أننا "نعيش ربما في العصر الأكثر مسالمةً في وجودنا"، وصلت إلى خواتيمها. ومنذ العام 2012، قفز معدل نشوب النزاع العالمي مرة أخرى، وهو ما يتناسب مع معدل الذروة الحديث البالغ 52 في العام 2015. وفي العام 2016، تمّ تسجيل 12 حرباً أهلية، وهو العدد الأعلى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وجميعها –باستثناء نيجيريا- اندلعت في دول ذات أغلبية مسلمة من أفريقيا جنوب الصحراء حتى جنوب آسيا. لا يتسع نطاق الصراعات فحسب بل إنها تزداد فتكاً، ومركزها الشرق الأوسط. ومنذ العام 2011، ارتفع عدد حالات الوفاة في المعارك حول العالم بواقع أربعة أضعاف تقريباً إلى أعلى مستوى منذ العام 1994 أثناء الإبادة الجماعية في رواندا، علماً بأن 70 في المئة منها هذه الحالات وقع في صراعات داخل دول الجامعة العربية .

تتزامن هذه الحقبة الجديدة من نزاعات الشرق الأوسط مع تفكّك النظام العالمي. ففي مرحلة "ما بعد بعد الحرب الباردة" التي نعيشها اليوم، لم يعد المجتمع الدولي مستعدّاً أو قادراً على الاستجابة بشكلٍ فعّال للنزاعات الدولية، ناهيك عن أن أيّاً من بعثات الأمم المتحدة الأربعة لحفظ السلام التي أُنشئت منذ العام 2012 لم تعد عاملة في الوقت الراهن في أيٍّ من الحروب الأهلية الاثنتي عشرة التي يشهدها العالم.

وسط هذه التطورات الهيكلية، تميط الدراسات الأكاديمية اللثام عن ثلاث مشاكل مفاهيمية تسلّط الضوء على ديمومة النزاعات في الشرق الأوسط. تُعنى المشكلة الأولى بترسيم الحدود (أو مبدأ عدم قابلية تقسيم الدولة). فنظراً إلى أن الحروب الحديثة بين الدول تنتهي في غالب الأحيان من دون المساس بوحدة وسلامة أراضيها، يصعب إيجاد حلول وسط تتأرجح بين الانتصار والهزيمة في الصراعات الداخلية. وعلى حدّ تعبير فريد إكلي Fred Ikle في كتابه النموذجي الذي صدر في العام 1971 بعنوان "كل حرب يجب أن تنتهي" Every War Must End : "إن لم يكن التقسيم مآلاً قابلاً للتحقُّق بسبب استحالة إحداث فصلٍ جغرافي بين طرفَي النزاع، فيجب في هذه الحالة أن يحصل أحد الطرفين على كل شيء تقريباً، إذ لايمكن أن يكون هناك حكومتان لدولة واحدة".

خلصت دراسات كميّة عدة (على هذه الروابط الثلاث) إلى أن مشكلة ترسيم الحدود تُعتبر حادّة في حالة النزاعات التي ترسم معالمها الانقسامات الإثنية والطائفية، كما في العراق وسورية واليمن. لذا، طالما أن احتمال التقسيم الرسمي لدول الشرق الأوسط لايزال يلقى معارضة إقليمية ودولية قوية، سيكون من الصعب تفادي الحصيلة الصفرية. وقد لاتكون التسويات المتفاوَض بشأنها والتي تحافظ على سيادة الدولة ممكنة إلا من خلال تحقيق عملية انتقال السلطة السياسية عبر تعزيز الحكم الذاتي المحلّي.

المشكلة الثانية تتعلق بالالتزام. لقد جادلت باربرا والتر بأنه من الصعب منح الأطراف المتحاربة الثقة بأن التسويات المُطبّقة من الدول أنفسها – أي التي تفتقر إلى آليات التنفيذ الدولية – ستُنفَّذ فعلاً. فالاتفاقات الرامية إلى تسوية النزاعات تُبرم حكماً في فترات تكون فيها الحكومات ضعيفة. لكن حين تستجمع هذه الحكومات قواها، لايعود لديها حافز يُذكر للالتزام بالاتفاق، وخصوصاً إذا ترافق ذلك مع تسريح المجموعات المتمرّدة. تساعد هذه الديناميكية على شرح لماذا يُعتبر احتمال الارتداد مجدّداً إلى القتال أكبر بكثير حينما تنتهي الصراعات الأهلية بتسوية سياسية عوضاً عن انتصار كامل.

والحصيلة هي أنه حتى عندما تُبرم تسويات سياسية لإنهاء الحروب في الشرق الأوسط، ثمة احتمال كبير في أن تندلع مجدّداً إذا لم تترافق هذه التسويات مع آليات دولية لتنفيذها، مثل قوات حفظ السلام. ونظراً إلى غياب التوافق بين الدول الكبرى بشأن الحروب الشرق الأوسط، والاختلال السائد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ثمة حاجة للنظر في الآليات الممكنة لدعم التسويات في الشرق الأوسط، مع الأخذ في الاعتبار صعوبة عمليات حفظ السلام في خضم المخاطر الإرهابية الكبيرة المُحدقة.

المشكلة الثالثة مرتبطة بوجود أطراف قادرة على نقض القرارات. فكما أشار ديفيد كانينغهام وغيره، إن النزاعات التي ينخرط فيها العديد من اللاعبين المستقلّين تدوم أكثر من غيرها، ذلك أن نطاق الاتفاقات المقبولة لجميع الأطراف يكون ضيّقاً جدّاً، ناهيك عن أن التحالفات قد تتبدّل، وأن المجموعات المتحاربة تملك حوافز تشجّعها على الصمود قدر الإمكان. وتشي دراسات كميّة عدة (على هذا الرابط وذاك وذاك على سبيل المثال) بأن التدخّل العسكري الخارجي يجعل حلّ الحروب الأهلية أصعب بكثير، ولاسيما حين تؤدّي إلى تدخّل مضادّ. وقد أظهرت دراسة حديثة أن 4 في المئة فقط من الحروب الأهلية تم تدويلها في العام 1991، مقابل 40 في المئة في العام 2015. وهذا ينطبق بالتأكيد على الحروب التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والتي بدأت كلها على شكل صراعات محلية، إنما تم تدويلها، ما أدّى إلى عرقلة الجهود الرامية إلى تخفيف وتائر التصعيد واحتواء الصراع.

إحدى النتائج المترتّبة عن وجود أطراف قادرة على نقض القرارات هي أن العمليات متعدّدة الأطراف وواسعة النطاق، على غرار تلك التي وُضعت قيد التنفيذ في كلٍّ من سورية وليبيا، محكومة بالفشل على الأرجح. فعندما يجلس جميع الأطراف على الطاولة، قد يغدو من المستحيل تحقيق التوافق. المقاربة الأفضل قد تتمثّل في الحرص على أن تقتصر المفاوضات متعددة الأطراف فقط على مجموعة أساسية من الأطراف القادرة على نقض القرارات، على أن تبدأ ربما بالقوى الخارجية ثم تنتقل إلى الفصائل البارزة على الأرض.

بدأت موجة النزاعات الأفريقية واليوراسية بالضمور بعد منتصف التسعينيات، ويُعزى ذلك جزئياً إلى التغيُّر الذي طرأ على المناخ الجيو-استراتيجي. إن تجاوز العوامل الهيكلية العميقة التي تفاقم جذوة الحروب الأهلية الجديدة في الشرق الأوسط، هي مهمة أصعب تتطلب اتّخاذ قرارات حذرة في السنوات المقبلة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.