توجّه التونسيون إلى صناديق الاقتراع في 6 أيار/مايو لانتخاب أعضاء 350 مجلساً بلدياً، في أول اقتراع محلي عادل وحرّ في البلاد. وعلى رغم نسبة المقترعين المخيّبة للآمال التي لم تزد عن 35.6 في المئة، كانت هذه الانتخابات، التي أُرجئت أكثر من مرة بسبب تحديات لوجستية وسياسية، إنجازاً من إنجازات المرحلة الانتقالية الديمقراطية في تونس. وهي أيضاً أول خطوة بازرة في عملية نقل السلطة من العاصمة إلى المناطق، كما ينص دستور 2014.
في هذه الانتخابات، تفوقّت اللوائح المستقلة، التي تمثّل مصالح متنوّعة، على أبرز حزبين، النهضة ونداء تونس، ونالت 32.9 في المئة من الأصوات، مقابل 28.6 في المئة للنهضة و22.17 في المئة لنداء تونس. ويعكس التفوّق هذا استياء شعبياً من القيادات السياسية، ومن غياب النمو الاقتصادي. إجمالاً، أظهرت الانتخابات أن الانتقال الديمقراطي في تونس يمضي قدماً لكنه، إلى حدّ ما، لايزال هشّاً. وهذا ما كشفت النقاب عنه نسب الإقبال المتدنية على الاقتراع، والانصراف عن الأحزاب السياسية التقليدية. وثمة امتحان كبير آخر ينتظر البلاد: الانتخابات الرئاسية والتشريعية المتوقّعة في 2019.
على أي حال، وعلى رغم هذا الإقبال الضعيف، لاينبغي الاستخفاف بنجاح تونس في تنظيم عملية انتخابية جديدة. وقد خَلُصَ المراقبون المحليون والدوليون إلى أن الانتخابات البلدية كانت حرة وعادلة، وجرت في أجواء هادئة عموماً، على رغم تصاعد الحملات الإعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية ضد تونس، في الأسابيع التي سبقت الانتخابات. ومع تنظيم أربعة انتخابات ناجحة منذ انتفاضة 2011، أنجزت تونس اليوم المراحل الأوليّة لإرساء نظام ديمقراطي. فهي صادقت على الدستور الجديد، وانتخبت رئيساً ومجلس نواب، وخطت خطوة أولى وكبيرة نحو لامركزية السلطة ومنح الهيئات التمثيلية المحلية مزيداً من النفوذ.
كانت الهوة في الثقة بين الحكومة وبين المحكومين في تونس تتّسع باستمرار. لذا، لم يكن الإقبال المنخفض على الانتخابات مفاجئاً، لكنه كان مخيّباً للآمال. فبقاء حوالى ثلثي الناخبين في منازلهم رسالة احتجاج قوية. وتراوحت تقديرات نسب المشاركة بين حدّين: حد مرتفع بلغ في المنستير 69.8 في المئة، وحد متدنٍّ لم يزد عن 26 في المئة في دائرة تونس الأولى.
كذلك، أظهر الإقبال المنخفض هشاشة التطور الديمقراطي في تونس، وخيبة الأمل الشعبية الحادة من الأداء الاقتصادي الحكومي. وبالتالي، ليس أمام حكومة رئيس الوزراء، يوسف الشاهد، متسّع من الوقت لمعالجة المشكلات الاقتصادية في البلاد قبل ولوج تونس في دورة انتخابية جديدة في 2019، هذا على افتراض أن الشاهد سيبقى في منصبه حتى ذلك الوقت. وإذا ما أخفقت تونس في جبه مشاكلها، ستكون الإصلاحات الاقتصادية لمعالجة هذه المشاكل أكثر عسراً، وقد يؤثّر ذلك سلباً على تقدّم البلاد السياسي.
الجانب المُلفت في الانتخابات المحلية هو تقدّمها خطوة إلى الأمام نحو المساواة الجندرية والمشاركة الشبابية على المستوى المحلي. فقد نصّ قانون الانتخابات على مساواة جندرية (بين الجنسين)، عمودية وأفقية على حدّ سواء، وهذا إنجاز بارز في أي ديمقراطية. وهكذا، شكّلت النساء حوالى نصف المسؤولين المحليين المنتخبين، وعددهم 7200 مسؤول. كذلك، قضى القانون بأن تُدرج اللوائح شخصاً واحداً، على الأقل، تحت سنّ الخامسة والثلاثين في مراكزها الثلاثة الأولى، وكذلك أن تتضمن شاباً في المراكز الستة الإضافية. نتيجةً لذلك، كان أكثر من ثلث المنتخبين تحت سن الـ35 عاماً. وتشكّل هذه الحصص خطوة أولى مهمة نحو إرساء التنوّع في المشهد السياسي التونسي، على أمل أن تستطيع النساء والشباب، حين يصبحون في السلطة، تكريس سياسات الدمج إلى حد تنتفي معه حاجة تونس إلى نظام الحصص لتحقيق مثل هذه النتائج.
قبل عشرة أيام من انتخابات 6 أيار/مايو، أقرّ مجلس نواب الشعب التونسي، أخيراً، قانون الحكم المحلي الذي يحدد سلطات البلديات والمناطق وعلاقتها بالحكومة المركزية. وللمرة الأولى في تاريخ تونس، يحتكم المسؤولون المحليون إلى إطار عمل محلي ومشروعية مستمدة من انتخابات ديمقراطية تعزّز دورهم في صناعة القرار وتوزيع الموارد على مناطقهم.
وفي زيارة مؤخراً لوزير الداخلية التونسي، لمستُ أن السكان يأملون في تمخّض الانتخابات عن فرص جديدة للمشاركة في صنع القرارات التي قد تحسّن حياتهم. كانوا يأملون كذلك بأن تُفضي إلى تحويل أموال تشتدّ الحاجة إليها من الحكومة المركزية إلى البلديات. وإذا ما سمحت الحكومة المحلية فعلياً بنقل السلطة والموارد إلى المناطق، ستحقّق اللامركزية تغيّراً أساسياً في كيفية إدارة وحكم البلاد. إذ أخيراً ستباشر تونس معالجة مشكلات التوزيع غير العادل للسلطة السياسية والاقتصادية بين المناطق. لكن شرط نجاح هذا المسعى هو وعي عامة الناس لحقوقهم ومسؤولياتهم المتعلقة بالديمقراطية التشاركية على المستوى المحلي. كذلك، على المسؤولين المحليين تجاوز الحدود المحلية في عملهم والعمل مع المسؤولين على المستوى الوطني كي لاتبقى اللامركزية حبراً على ورق.
للمفارقة، أظهرت نتيجة الانتخابات، قوة النهضة ونداء تونس وضعفهما في آن. كان حزب النهضة الوحيد الذي يملك موارد تخوّله التنافس في كل المجالس البلدية الـ350. وكما كان متوقعاً، كان أداء النهضة جيداً خصوصاً في المدن الرئيسة جنوب البلاد، شأنه شأن أداء نداء تونس في المدن الساحلية في المنستير وسوسة. ويشعر حزب النهضة بالرضى عن أدائه، خصوصاً في تونس العاصمة، حيث فازت قائمته بمعظم مقاعد المجلس البلدي. ويُمهّد هذا الفوز الطريق أمام انتخاب أول أنثى في منصب رئيسة بلدية تونس، سعاد عبد الرحيم من حزب النهضة. والحال أن هيمنة أكبر حزبين ستساهم في الاستقرار على الأقل على الأمد القصير، حيث سيواصل الحزبان تقاسم السلطة والتعاون في تنفيذ قرارات رئيسة في السياسية العامة.
ومع بدء استعداد الأحزاب السياسية للانتخابات الرئاسية في 2019 والانتخابات التشريعية، حريٌّ بها أن تأخذ بعين الاعتبار النُذُر التي أطلقتها الانتخابات المحلية. فالمواطنون التونسيون يبحثون عن قيادة بديلة، وقد يقتصّون من الأحزاب الكبرى جرّاء إخفاقها في معالجة التحديات الاقتصادية التي جلبت الديمقراطية إلى تونس في المقام الأول.