تزامناً مع العيد الوطني للمرأة في العام 2017، شكّل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي لجنة الحريات الفردية والمساواة، التي ترمي إلى تحديث القوانين التونسية بما يتوافق مع الدستور التونسي للعام 2014 ومع معايير حقوق الإنسان.
في 12 حزيران/يونيو، وبعد عامٍ من النقاشات، قدّمت بشرى بلحاج حميدة، وهي نائب في البرلمان التونسي وناشطة في المجال النسوي وحقوق الإنسان، إلى السبسي تقريراً من 300 صفحة، يدعو البرلمان إلى البتّ بعددٍ من المسائل الحساسة للغاية، كتحقيق المساواة في الميراث بين الجنسين، وإلغاء تجريم المثلية الجنسية، وإلغاء كلٍّ من عقوبة الإعدام والمهر، والتشديد على حق المرأة التونسية بمنح جنسيتها إلى زوجها الأجنبي. وقد احتشد آلاف التونسيين في الشوارع إما احتجاجاً على هذا التقرير أو تأييداً له.
يجادل معارضو التقرير بأن التوصيات التي يقدّمها تتنافى مع هوية تونس العربية- الإسلامية ومع قيمها الدينية والاجتماعية. وعند صدوره، ندّد المتظاهرون بالاقتراحات التي يتضمّنها، وأُقيمت صلاة في شارع الحبيب بورقيبة الذي شكّل نقطة تجمّع للمتظاهرين خلال ثورة العام 2011. أما مناصرو لجنة الحريات الفردية والمساواة، الذين نظّموا احتجاجات مضادّة في 13 آب/أغسطس، فيجادلون بأن التقرير يتناغم مع الهوية العلمانية الحديثة التي اتّسمت بها تونس منذ عهد بورقيبة.
كذلك، أعطت هذه الاحتجاجات زخماً جديداً للنقاش الدائر بين الإسلاميين ومعارضيهم، فيما أطلق بعض المتظاهرين المؤيّدين للجنة الحريات الفردية والمساواة شعارات مناوئة لحزب النهضة الإسلامي تحديداً. والمُلفت أن المتظاهرين من الجانبين كانوا بغالبيتهم في منتصف العمر، على خلاف المظاهرات الأخرى التي غالباً ما تشهدها تونس وتكون عادةً بقيادة الشباب أو المجتمع المدني.
يُعتبر تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة مثيراً للاستقطاب لأسباب عدّة. فلطالما كانت المكانة التي يحتلّها كلٌّ من الدين والحريات الفردية موضع خلاف في تونس. لكن الأهم هو الإطلالة على هذا التقرير الذي أُعِدّ بتكليف من السبسي، من منظار السياق السياسي الراهن. فقد صدر في وقتٍ باشر فيه الأفرقاء السياسيون البارزون استعدادهم للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المُزمع إجراؤها في العام 2019، مارفع سقف الرهانات السياسية بالنسبة إلى الرئيس والنواب. كما تزامن صدوره مع اندلاع أزمة سياسية هي بمثابة حرب شاملة بين زعيم حزب نداء تونس الحاكم حافظ قائد السبسي من جهة، ورئيس الوزراء يوسف الشاهد من جهة أخرى، تسبّبت بإضعاف نداء تونس الذي يقوده السبسي وانقسامه داخلياً قبل الانتخابات.
لايُعدّ النزاع حول تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة في تونس ببساطة معركة بين القوى التقدمية وبين القوى المحافظة. بل إن واقع الحال أشدّ تعقيداً. فالجهات التي عارضته لم تنطلق كلّها من أسباب دينية أو ثقافية، بل تظاهر العديدون لمقاومة الهيمنة الثقافية المفروضة من أعلى إلى أسفل، والتي تذكّر على نحو مخيف بممارسات نظامَي بورقيبة وبن علي لإرساء العلمانية.
طُبَّقَت العلمانية في تونس من خلال مشروع سياسي شرس فرضته الدولة، تخلّله تهميشٌ لتاريخ تونس وللتقاليد الإسلامية. وقد تبيّن في الكثير من الأحيان أن هذا النموذج القاسي من العلمانية، الذي استُلهم من مفهوم العلمانية الفرنسي (laïcité)، يتنافى مع الليبرالية. لذا، تبدو بعض الأصوات التقدّمية متردّدة في قبول العلمانية المفروضة من أعلى إلى أسفل، وتعتبر أن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة يجسّد هذا الأمر. وقد عمد السبسي، من أجل الالتفاف حول ذلك وإضفاء المزيد من الشرعية على التوصيات الواردة في التقرير، إلى طرح إمكانية مأسسة الإصلاحات الاجتماعية عبر البرلمان. لذلك، سيتطلّب إقرار التوصيات تشريعاً، مايمكن أن يسفر عن مزيدٍ من التباعد.
وعليه، يبقى أن نرى ما سيحمل معه المستقبل بالنسبة إلى توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة، سواء كانت ستبقى حبراً على ورق، أو سيتمّ إدراجها ضمن القانون. حتى الآن، تقتصر الجهود الوحيدة المبذولة لإضفاء الطابع الرسمي عليها على مسألة حقوق الميراث. وقد أعلن الرئيس مؤخراً أنه سيطرح مشروع قانون يساوي في حقوق الميراث بين الرجل والمرأة على البرلمان. واعتُبر قرار منح الأولوية لسياسة اجتماعية أقل إثارة للجدل تتعلق بالجندر على حساب قضايا مثل المثلية الجنسية أو عقوبة الإعدام مناورة سياسية حذقة. ففي حين يبدو بحقّ أن السبسي يدعم حقوق المرأة، يتيح له وقوفه خلف تغيير قانون الميراث المجال أيضاً لتعزيز نفوذ حزبه قبل انتخابات العام 2019. ويبدو أن الرئيس يحاول، من خلال قيامه بذلك، إعادة توحيد صفوف القوى العلمانية في البلاد، وتحسين فرص نداء تونس الانتخابية، ومعاقبة حركة النهضة لاعتمادها برنامج عمل "رجعياً".
وفي حال وقف قادة النهضة في وجه قانون الميراث المتساوي، ستنهار استراتيجية "الإسلام الديمقراطي" التي ينتهجها الحزب والتي تستند إلى التطبيع والتسوية والاندماج السياسي لكسب الشرعية على الصعيدين الوطني والدولي. أما إذا دعم حزب النهضة قانون السبسي، فمن المرجح أن ينفّر قاعدة دعمه التقليدية قبل الانتخابات.
لكن هذه الخطوة قد تحمل أيضاً خطورة بالنسبة إلى حزب السبسي، إذ يمكنها بسهولة التسبّب بنفور أنصاره الذين لايؤيدون جميعهم بالضرورة توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة. فقد كشف استطلاع أجراه المعهد الجمهوري الدولي، بعيْد إعلان السبسي عن رغبته في إصلاح قانون المواريث، أن 63 في المئة من الذين استُطلِعت آراؤهم "يعارضون بشدّة" إحداث تغيير في هذا القانون. علاوةً على ذلك، كانت الاحتجاجات المؤيدة والمعارضة للجنة الحريات الفردية والمساواة محصورة إلى حدّ كبير في العاصمة، ولم تحشد دعماً في المناطق الداخلية والجنوبية المهمّشة تقليدياً في تونس، حيث من المرجّح أن يختار الناخبون الممثلين المُنتخبين استناداً إلى قضايا اقتصادية أكثر منها اجتماعية.
مع ذلك، وفي حين أن توصيات تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة قد تبقى حبراً على ورق ولاتتحوّل إلى قانون، كان لهذا التقرير تأثير كبير من حيث أنه أيقظ خط صدع كان راكداً إلى حدّ كبير خلال السنوات الأربع الماضية التي سادها توافق بين نخب الأحزاب المتدينة والعلمانية. وبالتالي، السؤال الأهم الذي يطرح نفسه الآن، يتمثّل في ما إذا كان ائتلاف نداء تونس والنهضة المثير للجدل والمتدهور أساساً سيصمد، أو ما إذا كان هذا الانقسام الناشئ يُنذر بنهاية الإجماع، مع كل ما يترتب عليه بالنسبة إلى المشهد السياسي في تونس خلال العام 2019.