يجب أن تشمل الأهداف الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، دعم حكومة جديدة واعدة في بغداد، ومعارضة دعم طهران لنظام الرئيس بشار الأسد الدموي في سورية، والتقليل قدر الإمكان من الأكلاف الإنسانية المترتبة على العقوبات الأخيرة المفروضة على إيران. وعلى الرغم من أنّ تحقيق أي من هذه الأهداف بنجاح دونه مخاطر، قد تكون ثمة مبادرة سياسة واحدة تستطيع إصابة العصافير الثلاثة بحجر واحد.
فلنبدأ بالعراق. هذا واحد من بين الدول الأكثر تأثّراً بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وتجديد العقوبات الاقتصادية ضد طهران، والتي تشمل، من بين قطاعات أخرى، النفط الإيراني والشحن والصناعات المالية. إشارة إلى أن العراق يستورد ما تصل قيمته إلى 6.5 مليارات دولار من السلع الإيرانية سنوياً - حوالى 16 في المائة من الواردات العراقية غير النفطية - بما في ذلك حوالى ملياري دولار سنوياً من المنتجات الزراعية الإيرانية والمواد الغذائية. كما أصبح العراق يعتمد بشكل كبير على الكهرباء الإيرانية ومواد البناء وقطع غيار السيارات والخدمات المالية. وكردّ فعل على ظهور الدولة الإسلامية في العام 2014، قام العراقيون القلقون بضخ ملايين الدولارات في حسابات مصرفية إيرانية.
إنّ إرغام العراق على الالتزام بالعقوبات الأميركية ضدّ إيران، يمكن أن يؤدي إلى تخريب الآفاق الاقتصادية لحكومة عراقية ناشئة تُعتبر الآن من بين مصادر التفاؤل القليلة في الشرق الأوسط. وقد وصف مراقب ثاقب رئيس الوزراء المُعيّن حديثاً عادل عبد المهدي، وهو خبير اقتصادي درس في فرنسا وسبق أن شغل منصب وزير النفط في العراق، بأنّه "رجل دولة رصين وواقعي ومتواضع يحترمه عملياً كلّ عراقي، وهي مسألة نادرة في بلد متصدّع". كما أنّ الرئيس المعيّن حديثاً، برهم صالح، وهو مهندس تعلّم في بريطانيا ورئيس وزراء سابق لحكومة إقليم كردستان ومؤسّس الجامعة الأميركية في السليمانية، من بين القادة السياسيين الأكثر ديناميكية والتقدميين فكرياً في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
بالفعل، يُواجه عبد المهدي وصالح عقبات ماحقة في إدارة البلاد المحفوفة بالفساد والخلافات الطائفية، والتي تنهمك بإعادة بناء نفسها بعدما أسخنتها همجية الدولة الإسلامية بالجراح. وبالتالي، يجب أن تستمر إدارة ترامب في تزويد العراق بإعفاءات من العقوبات الإيرانية، لكن بشرط واحد مهم: ألا تسمح بغداد لطهران بحرّية استخدام العراق كمحطة لتسليح وتمويل حلفاء مثل نظام الأسد وحزب الله اللبناني. بفرض هذا الشرط صراحةً، قد تحظى الولايات المتحدة بدعم الجمهور العراقي المُستاء بشكل متزايد من دور طهران الكبير في شؤون بلادهم. ففي وقت سابق من هذا العام، أحرق متظاهرون يردّدون هتافات "إيران، برّا برّا" القنصلية الإيرانية في البصرة.
نأتي الآن إلى سورية، حيث يُعتبر تقليص الدعم العسكري والمالي الإيراني لنظام الأسد، أمراً أساسياً لأي استراتيجية أميركية في سورية. فمنذ العام 2011، أنفقت طهران عشرات المليارات من الدولارات وحشدت مليشيات قوية قوامها 40 ألف شخص ــ بما في ذلك الآلاف من اللاجئين الأفغان المعوزين ــ من أجل منع سقوط الأسد. لقد كان تأثير ذلك على المجتمع السوري مدمّراً، بما في ذلك أكثر من 500 ألف ضحية، ونحو 13 مليون نازح، وأكثر من 100حادثة استخدم فيها نظام الأسد الأسلحة الكيميائية ضدّ شعبه، وغالباً المدنيين منهم.
بالتزامن مع الجهود الأميركية لتعزيز حكومة مقبولة في بغداد وتقييد العنف في دمشق، يتعيّن على الولايات المتحدة المساعدة في ضمان ألا تقتصر عائدات طهران من علاقاتها التجارية مع العراق على إثراء حرس الثورة الإسلامية، بل تشكّل طريقة مشروعة لطهران لاستيراد مواد رئيسة مثل الأدوية والمعدّات الطبية. إذ تعتبر العقوبات الاقتصادية شبيهة بالعلاج الكيميائي لأنّها غالباً ما تضرّ بالخلايا السليمة والخبيثة معاً. ويتعيّن على إدارة ترامب بذل قصارى جهدها للحدّ من التكاليف الإنسانية للعقوبات العشوائية على إيران.
من الواضح أنّه لاينبغي أن تكون هناك أوهام حول قدرة رئيس أميركي مبتلي بالفضائح، ومذموم دولياً، ويعاني من عدم تركيز مزمن، حيال الجهود لترقية حكم أكثر قبولاً في الخارج. كما لاينبغي أن تكون لدينا أية أوهام حيال التحديات التي تواجه حلفاء واشنطن الإقليميين وحيال طبيعة خصومها الإقليميين. إذ ستواصل إيران بذل كل ما في وسعها لتسليح وتمويل آلة القتل التي يستخدمها الأسد، وستستمر الحكومة العراقية في مواجهة معركة شاقة ضدّ الفساد والتطرّف، وستُلحق العقوبات الاقتصادية الأميركية ضرراً دائماً بالإيرانيين الأبرياء، فيما ستسعى طهران إلى المبالغة في هذا التأثير لإظهار أنّ الولايات المتحدة تعاقب الشعب الإيراني الذي تدّعي أنها تريد دعمه.
اشتهر عن مارك توين قوله إنّ الإقلاع عن التدخين هو أسهل شيء في العالم، "أعلم ذلك لأنّني فعلته آلاف المرّات". ويمكن قول الشيء نفسه عن الاستراتيجيات الغربية الكبرى في الشرق الأوسط، التي تمّ إعدادها بجدّية، ولكن في كثير من الأحيان تعمل على مفاقمة المشاكل نفسها التي تأمل في حلّها. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، ليس لدينا متسع لرفاهية السخرية، واللامبالاة، أو ببساطة "انتظار ترامب". فقد أشعلت عمليات القتل الجماعي في سورية أكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، وشكّكت في جدوى استمرار مشاريع مثل الاتحاد الأوروبي.
يتعيّن علينا اغتنام توافر مناسبة نادرة، تبرز فيها سياسة، مهما كانت متواضعة، تكبح آلة القتل لدى الأسد، وتساعد على قيام حكم مقبول في العراق، وتخفّف المعاناة الإنسانية في إيران.