المصدر: Getty
مقال

"صفعة تلو الأخرى"

يواجه السنّة في العراق راهناً أزمة سلطة وهوية.

نشرت في ٢٠ مارس ٢٠١٩

لايجتذب مقام الفقيه الإسلامي من القرن الثامن، أبو حنيفة، الواقع في منطقة الأعظمية السنّية في وسط بغداد، عدداً كبيراً من الزوّار في الوقت الراهن. كما أنه لم يخضع إلى أعمال ترميم أو توسيع كبرى مقارنةً بمقامات الأئمة الشيعة في كربلاء والنجف. لذا، يُجسّد، في بعض النواحي، أزمة السلطة والهوية لدى الطائفة السنّية في العراق.

هذه الأزمة هي في جزءٍ منها نِتاج الصعود الشيعي المطّرد في البلاد. كما أنها تعود إلى الانقسامات والخصومات الداخلية بين الأفرقاء المختلفين الساعين وراء السلطة في الإسلام السنّي، كذلك بين التوجهات السنّية الموجَّهة دينياً وبين أشكال الهوية البديلة، سواءً كانت قبلية أم دينية أم علمانية. يختصر رجل الدين عبد الوهّاب السامرائي، وهو عضوٌ بارز في المجمع الفقهي العراقي، المزاج السائد سنياً بالقول: "نتعرّض نحن السنّة للهجوم، متلقّين الصفعة تلو الأخرى". يقع مقر المجمع الفقهي العراقي في مقام أبو حنيفة، ويقوم دوره على إصدار الفتاوى، وتأمين التعليم الديني، والنهوض بالأعمال الخيرية.

زُجَّت السلطات الدينية السنّية في موقفٍ صعب بسبب الاقتتال الطائفي في بغداد في 2006-2007 والصراع مع تنظيم الدولة الإسلامية بعد العام 2014. يقول السامرائي: "كان علينا أن نواجه التطرّف السنّي، فيما نعمل في الوقت نفسه على حماية هويّتنا من أن تذوب بشكل كامل في هوية الطرف الآخر"، في إشارة إلى الطائفة الشيعية. وقد تُرجِم ذلك بانقسام الطائفة السنّية وغياب التوافق حول مسائل أساسية، منها كيفية ترميم مقام أبو حنيفة، والتي هي موضع خلاف بين المجمع الفقهي العراقي وديوان الوقف السنّي، والأخير هو المؤسسة الرئيسة المسؤولة عن المساجد والأوقاف الدينية السنّية.

على الرغم من الأذى الذي تسبّب به الربط العقائدي بين الطائفة السنّية وبين الدولة الإسلامية، لاتزال الشبكات والدعوة السلفية قائمة، ولاسيما في أطراف بغداد وفي المناطق المهمَّشة اقتصادياً واجتماعياً في المدن السنّية الكبرى. وتستقطب السلفية الشباب المتدينين، وتخضع معظم المساجد في تلك المناطق إلى سيطرة أئمة ذوي ميول سلفية.

تؤمّن السلَفية أيضاً منظومة قيَمٍ بديلة لمجتمعاتٍ رسمت معالمها في الأساس العلاقات القبلية التي شكّلت أيضاً عامل ربطٍ بينها. فالمساواة التي تنطبع بها السلفية وتفسيرها الحَرفي المباشر للقرآن وسنّة النبي محمد يستقطبان الشرائح التي لا تثق بالطبيعة الهرَمية للسلطات الدينية الرسمية، وتبحث عن بدائل أكثر تشدّداً. بيد أن معظم الشبكات السلفية في العراق لا تتدخّل في السياسة. فهي تنأى بنفسها عن تنظيم الدولة الإسلامية وتُنادي بصيغة من السلفية تُركّز على الأخلاقيات الاجتماعية والتقوى الدينية. لكن حتى ضمن هذا الإطار، تَحمل السلفية تهديداً لأشكال أخرى من الإسلام السنّي، ولاسيما الصوفية التي لديها تقليدٌ عريق في العراق وحضورٌ قوي في المدن العراقية.

بغية التصدّي للسلفية، خاصة منها الأشكال التكفيرية الأكثر تشدداً، حاول عبد اللطيف الهميم، وهو رئيس ديوان الوقف السنّي وفقيه إسلامي يتحدّر من محافظة الأنبار، مأسسة الخطابة الدينية ومحاربة التطرّف والتعصّب واللاتسامح في الخطاب الديني السنّي. ومن الأساليب التي اعتمدها لتحقيق ذلك، فرض سيطرة مؤسسته على المساجد السنّية وبثّ الاعتدال في الرسائل التي يُطلقها أئمة هذه المساجد. لكن وفيما يبدو أن جهوده حقّقت بعض النتائج الجيدة من خلال التأثير الذي مارسته في المساجد في بغداد ومراكز المحافظات الكبرى، لايزال الهميم عاجزاً إلى حد كبير عن الوصول إلى المناطق الواقعة عند الأطراف.

الأهم من ذلك، يطرح أفرقاء دينيون آخرون علامات استفهام حول شرعية الهميم على رأس ديوان الوقف السنّي. فقد عيّنته حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي من دون استشارة المجمّع الفقهي العراقي الذي كان يُفترَض أن يوافق على التعيين، بموجب ماينص عليه قانون ديوان الوقف السنّي.وينظر العديد من الأئمة السنّة إلى الهميم على أنه عُيِّن في منصبه نتيجة قرار من الحكومة الخاضعة إلى سيطرة الشيعة، وليس بناءً على عملية شرعية. وقد عبّر أحمد حسن الطه، رئيس المجمع الفقهي العراقي، في حوارٍ معه، عن الشكوى من أن الحكومة لاتحترم الاستقلالية الذاتية للمؤسسات الدينية السنّية على غرار احترامها لاستقلالية السلطة الدينية الشيعية في النجف.

تُساور الحكومة مخاوف مشروعة من الأفكار المتشدّدة التي تنشرها بعض المساجد السنّية. فمن خلال انتقاء شخصيات معتدلة مثل الهميم، ترى الحكومة في ديوان الوقف السنّي أداةً للحد من جاذبية التطرّف السنّي. إنما، وللمفارقة، شهد العراق بعد العام 2003 تأكيداً للاستقلالية الذاتية للسلطة الدينية الشيعية المعروفة بالمرجعية، والتي بدت أحياناً أعلى من الدولة، في حين خضعت السلطة الدينية السنّية المتمثلة بالوقف السني، بصورة متزايدة، إلى نفوذ الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة. لهذا الأمر علاقةٌ بالاختلافات التاريخية بين السلطتَين الدينيتين السنّية والشيعية، والتماهي المتوارث للإسلام السنّي مع الدولة. لكن في السياق القائم حيث ترسّخت الحدود بين المذهبَين وتمأسست، يبدو الاعتراض في الدوائر الدينية السنّية على النفوذ الحكومي مبرَّراً.

في الواقع، دفع ذلك بعض المجموعات إلى الدعوة إلى إنشاء مرجعية سنّية موحّدة في موقع السلطة الدينية الأعلى لدى الطائفة. وقد بُذِلت محاولات عدّة في هذا الإطار من دون الحصول على النتائج المتوخّاة. المحاولة الأولى كانت في العام 2003 مع تشكيل هيئة علماء المسلمين التي عارضت بشدّة الاحتلال بقيادة الولايات المتحدة وما أعقبه من عملية سياسية في البلاد. وآخر المحاولات تشكيل المجمع الفقهي العراقي، بمساعدة الحزب الإسلامي العراقي، والذي كان جزءاً من العملية السياسية.

مؤخراً، أنشأ مهدي الصُميدعي، وهو شيخٌ سلفي تجمعه روابط جيّدة بقوات الحشد الشعبي الخاضعة إلى سيطرة الشيعة، ما أسماه دار الإفتاء، ونصّب نفسه مفتي العراق.واتّخذ من جامع أم الطبول الكبير في بغداد مقرّاً له. وقد استنكر كل من ديوان الوقف السنّي والمجمع الفقهي العراقي مزاعم الصميدعي، مشكّكَين في مؤهّلاته الدينية وحقّه في إنشاء دار الإفتاء. لكن واقع الحال أن الصميدعي حصل على التمكين من خلال تحالفه مع مجموعات شيعية تمارس تأثيراً قوياً على الحكومة، ما أدّى إلى طرح السؤال الأساسي عن العلاقة بين السلطات الدينية السنّية والدولة الخاضعة إلى سيطرة الشيعة. فالمؤسسات الدينية السنّية التي اختارت تأكيد استقلاليتها الذاتية أو معارضة الحكومة، أُضعِفت في نهاية المطاف جراء خسارتها الرعاية والدعم من الدولة. كما أن مَن رضخوا لإرادة الحكومة وتحالفوا مع الأحزاب الشيعية، فشلوا بدورهم في كسب شرعية واسعة في أوساط قواعدهم الناخبة.

يمكن أن تكون لأزمة السلطة تداعيات مختلفة في المستقبل. فغياب الكفاءة لدى المؤسسات الدينية السنّية القائمة ونزع الشرعية المتبادَل في مابينها، سيتسببان بمزيد من التقويض لنفوذها، مايولّد فراغاً قد تتقدّم الشبكات السلفية أو المتشدّدون لملئه. في الوقت نفسه، يمكن أن يؤدّي التهديد الذي تمثّله أشكال السنّية الأكثر تشدّداً إلى تحفيز الحكومة الخاضعة إلى سيطرة الشيعة كي تسعى لبناء علاقات أفضل مع رجال الدين السنّة المعتدلين. فمن شأن ذلك أن يُتيح لهؤلاء استقلالية ذاتية أكبر في مقابل الترويج لرسائل دينية معتدلة وغير مسيَّسة.

*تمّ إدخال تعديلات على النسخة السابقة من هذا المقال.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.