تسبّبَ النزاع في سورية بنزوح الجزء الأكبر من أبناء الأقلية الأرمنية من البلاد. وقد بات هؤلاء الأشخاص المشتّتون في مختلف أنحاء العالم والذين يفتقرون إلى الملاذ الذي يؤمّنه لهم عادةً وجودهم ضمن جماعة مغلقة، يواجهون خطر خسارة هويتهم الأرمنية المتمايزة. هذا الخطر داهمٌ بالنسبة إلى الأشخاص الذين انتقلوا إلى أستراليا وأوروبا وأميركا الشمالية. أما مَن انتقلوا إلى أرمينيا فأمامهم فرصة أفضل للحفاظ على انتمائهم الأرمني، لكنهم يواجهون مع ذلك خطر خسارة الهوية التي حافظوا على تعلّقهم الشديد بها طوال قرنٍ من الزمن.
قبل اندلاع النزاع، كانت سورية ملاذاً أساسياً للثقافة الأرمنية الغربية. وفي العام 2005، كان نحو 80,000 أرمني يقيمون في البلاد، ولاسيما في حلب. كان معظم أسلاف هؤلاء يقطنون الأقسام الغربية من أرمينيا التاريخية التي كانت جزءاً من الأمبراطورية العثمانية وتقع راهناً في شرق تركيا. وفي مطلع القرن العشرين، أنشأ بعض الأرمن الذين نجوا من الإبادة الأرمنية متحدات مجتمعية في المنطقة التي باتت تُعرَف بشمال سورية.
ظلّ الأرمن في سورية، على مدار قرن من الزمن تقريباً، جزءاً من فسيفساء الشعوب المتنوّعة في البلاد، من دون أن يُفرضَ عليهم الذوبان في محيطهم. وفي حلب، أصبح الأرمن جزءاً لايتجزأ من الاقتصاد المحلي، لكنهم ظلوا، على المستوى الثقافي، أقلية منغلقة. وقد حافظوا على تقاليدهم الأرمنية الغربية المتميّزة من خلال إعداد أطباقهم الخاصة، وإرسال أولادهم إلى مدارس أرمنية، والحفاظ على اللغة الأرمنية الغربية، وإنشاء مراكزهم الثقافية ومؤسساتهم الدينية الخاصة.
وصلت هذه الطبعة من التنوّع المشرقي إلى العاصمة الأرمنية يريفان، بفضل الأرمن السوريين الذين انتقلوا إليها من سورية. ووفقاً لإحصاءات المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، وصل نحو 22,000 أرمني إلى وطنهم الأم بين عامَي 2012 و2018، ولايزال حوالى 14700 منهم يعيشون هناك. وقد عمد هؤلاء إلى إعادة تكوين تقاليدهم الثقافية في أرمينيا، ولاسيما ثقافة الطعام.
أحدث وصولهم إلى أرمينيا ثورة في عالم المطبخ، حيث انتشرت المطاعم ومتاجر الأغذية الشرق أوسطية، خصوصاً في يريفان. ومنذ ذلك الوقت، افتُتحت أعداد كبيرة من المطاعم ومطاعم الوجبات السريعة ومحلاّت بيع اللحوم التي يديرها أرمن سوريون. في البداية، كانت هذه المطاعم والمتاجر تعتمد إلى حد كبير على الزبائن السوريين، لكن عدداً كبيراً منها استحوذ تدريجاً على قلوب السكان المحليين وبطونهم. وساهم السوريون أيضاً في انتشار المكوّنات الشرقية. فقد بدأ التجّار القادمون من حلب باستيراد السلع من تركيا وسورية لتزويد المطاعم ومتاجر المواد الغذائية والأرمن السوريين بالمنتجات الضرورية. وحاول السوريون أيضاً زرع المحاصيل بأنفسهم محلياً.
ترافقَ الطعام الجيد مع خدمات جيدة. فقد سعى الندّل الذين يتحلّون بصفات الود والصبر والترحاب إلى إعادة إحياء ثقافة حسن الوفادة التي ازدهرت في سورية. فقد توجّب أن يشعر الزبائن بأنه مرحَّب بهم وأن يحصلوا على خدمة جيدة فيرغبون تالياً في العودة. وعلى الرغم من أن المطاعم ومتاجر المواد الغذائية السورية في أرمينيا لم تستوفِ جميعها المعايير العالية المعتمدة في حلب، إلا أن الخدمة التي قدّمتها تُعتبَر أفضل من الخدمة في معظم المطاعم والمتاجر المحلية.
ومع أن الأرمن السوريين تمكّنوا من الحفاظ على ثقافتهم الغذائية، لايمكن قول الشيء نفسه عن إرثهم اللغوي الأرمني الغربي. فالأرمن السوريون الذين يعيشون في أرمينيا يواجهون النتيجة الحتمية المتمثّلة في خسارة لغتهم عن طريق الاندماج. والحال هو أن تقاليدهم عرضة إلى التهديد منذ عقود.
للغة الأرمنية شكلان معياريان: يتكلّم الأرمن السوريون اللغة الأرمنية الغربية، فيما يتكلم الأشخاص المتحدّرون من أرمينيا اللغة الأرمنية الشرقية. تستطيع كل مجموعة أن تفهم لغة المجموعة الأخرى، إنما ثمة اختلافات بين اللغتَين على مستويَي اللفظ وقواعد النحو والصرف. وفميا تضمن أرمينيا الحفاظ على اللغة الشرقية من خلال استخدامها في مؤسساتها ومدارسها، تُصنّف منظمة اليونيسكو اللغة الأرمنية الغربية في قائمة اللغات المهدَّدة بسبب تناقص أعداد الجاليات التي تتكلّم هذه اللغة حول العالم. وقد أدّت الاضطرابات التي شهدها الشرق الأوسط في العقدَين المنصرمين، إلى تفاقم هذه النزعة.
يُشكّل نزوح الأرمن من سورية الضربة الأحدث عهداً للثقافة الأرمنية الغربية. وقبل وقوع الأحداث في سورية، كان النزوح من نصيب الأرمن العراقيين على امتداد عقود من المشقات والحروب. وقد تكون الضحية التالية الجالية الأرمنية في لبنان في حال استمرّ تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في البلاد.
عمد السوريون، بغية الحفاظ على ثقافتهم الغذائية، إلى أخذ زمام المبادرة بأنفسهم، مدفوعين بعامل الحاجة وكذلك بالمنافع الاقتصادية التي يمكن أن يحققها لهم القطاع الغذائي. بيد أن الحفاظ على لغتهم أمر مختلف تماماً ويتطلب خطة مدعومة من الدولة لتدريس اللغة الأرمنية الغربية، ولاسيما في مرحلة التعليم الأساسي. ونظراً إلى غياب هذه الخطط، لن تجيد الأجيال المقبلة من الأرمن السوريين على الأرجح لغة أجدادها لاقراءةً ولا كتابة.
تبِعات ذلك واضحة للعيان لدى الجيل الشاب من الأرمن السوريين. فأولاد الجالية الأرمنية الذين يرتادون المدارس المحلية أكثر اندماجاً من أهلهم في المجتمع الأرمني. وهم أفضل إتقاناً للغة الأرمنية الشرقية ولديهم عدد أكبر من الأصدقاء والمعارف الذين هم من أبناء أرمينيا، بالمقارنة مع أهلهم. ولكن ذلك يترتب عنه ثمنٌ معيّن. لاتقوم المدارس المحلية بتدريس اللغة الأرمنية الغربية على نطاق واسع، ولاوجود راهناً لمؤسسات بديلة تتولى سد هذه الثغرة على نحوٍ شامل.
في الواقع، هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها اللغة الأرمنية الغربية تحدّياً من هذا القبيل في أرمينيا. ففي النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين، استقبلت أرمينيا، التي كانت آنذاك جزءاً من الاتحاد السوفياتي، نحو 90,000 أرمني قدموا من حوالى عشرة بلدان، منها سورية ولبنان. وفي ظل الحكم السوفياتي، لم تكن ثمة برامج للحفاظ على الهوية المتمايزة للوافدين الجدد الذين أضفوا، لدى قدومهم، مزيداً من التنوّع على أرمينيا السوفياتية. واليوم، يصعب تمييز أبناء هذا الجيل عن سائر الأرمن الشرقيين.
يبدو أننا الآن أمام مشكلة مشابهة. ولكن على النقيض مما كانت عليه الأوضاع في الحقبة السوفياتية، تملك جمهورية أرمينيا المستقلة خيار جعل الحفاظ على الفسيفساء الأرمنية سياسةً من سياسات الدولة.
منذ اندلاع الحرب السورية، رحّبت أرمينيا باللاجئين الأرمن السوريين وقدّمت لهم امتيازات، ومنحت الجنسية للأشخاص الذين التمسوا الحصول عليها. لكن ذلك ليس كافياً للحفاظ على هذه الصبغة المتميزة في الهوية الأرمنية. أمام الدولة الأرمنية، بالتعاون مع قادة الجالية الأرمنية السورية، فرصة فريدة من نوعه ا من أجل التأسيس لسابقةٍ تضعها في تصرّف الجاليات الأرمنية الأخرى التي قد ترغب في العودة إلى وطنها الأم، أو تُضطَر إلى العودة إليه، وذلك من خلال إرساء توازن دقيق بين الاندماج وبين الحفاظ على الهوية الأرمنية السورية.
بموجب هذه السياسة، وعلى وقع الاضطرابات التي يشهدها عالمنا والتي يترتب عنها احتمال حدوث زيادة في موجات الهجرة القسرية، يمكن أن يكون المجتمع الأرمني أرض الأرمن الشرقيين إنما أيضاً فسيفساء تجمع في حناياها مختلف ألوان الهوية الأرمنية في الشتات. بهذه الطريقة، يستطيع الأشخاص أن يستمروا في تحضير أطباقهم التقليدية، وإنشاد أغانيهم الخاصة، والتكلّم بلغتهم الخاصة.