إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في 18 تشرين الثاني/نوفمبر بأن إدارة ترامب لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية غير شرعية، كان بمثابة خطوة أخرى في جهود هذه الإدارة لإعادة رسم شروط أي حصيلة مستقبلية للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني.
وهكذا، وكما فعلت هذه الإدارة حين اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل وقطعت التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي تهتم باللاجئين الفلسطينيين ثم توقفت عن الإشارة إلى الضفة الغربية وغزة على أنها "أراضٍ محتلة"، ها هي أيضاً تصطف إلى جانب إسرائيل في قضايا الوضع النهائي الشائكة، وتستعدي بشدة الفلسطينيين. وكما قال ترامب حيال قرار القدس، فإن الولايات المتحدة تسعى إلى سحب هذه القضايا من طاولة التفاوض.
صحيح أن قرار الإدارة العاكس للموقف القانوني الأميركي حول المستوطنات الذي كان مُثبتاً منذ العام 1978 لم يكن متوقعاً على نطاق واسع في هذه المرحلة، إلا أننا يجب ألا نفاجأ به. إذ هو (القرار) مُتّسق مع خطوات اتخذتها الإدارة قبل ذلك لإعادة صياغة أطر قضايا الوضع النهائي الأخرى، على غرار القدس واللاجئين، لصالح إسرائيل. لكن، لعل التوقيت الآن يتعلّق بعملية تشكيل الحكومة في إسرائيل، ربما بأمل تعزيز حظوظ وجهود رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لمواصلة الإمساك بصولجان السلطة.
على أي حال، لا مراء في أن هذا القرار سيعزّز مواقف حركة الاستيطان والسياسيين اليمينيين في أسرائيل. كما سيُسفر المزيد من توسيع المستوطنات- خاصة خارج الكتل الاستيطانية القائمة- عن تقويض عنيف للاحتمال، الضعيف أصلا، الخاص بحل مسألة الأراضي في الضفة الغربية. لا بل الأسوأ سيكون إقدام إسرائيل على ضم كل او أجزاء من الضفة، كما أعلن نتنياهو إبان حملته الانتخابية الأخيرة. إذ أن ذلك سيوجّه ضربة قاصمة وقاتلة لخيار الدولتين.
تفاعل الفلسطينيون بحدة مع إعلان إدارة ترامب، في وقت كانت فيه العلاقات بين الطرفين في حالة انهيار بفعل الخطوات السابقة للإدارة. وقد ركّز رد الفعل الفلسطينيين على حشد الدعم الدولي لموقفهم حيال لاشرعية المستوطنات. لكن يُحتمل أن يقوم الفلسطينيون أيضاً بقطع آخر ما تبقى من علاقات مع واشنطن، وهي تلك المتعلّقة بالأقنية الأمنية.
الآن، إذا ما انتقلنا إلى النطاق الأوسع، سنجد أن قرار الإدارة الأخير يُبرز العزلة المتنامية للولايات المتحدة على الصعيد الدولي إزاء القضايا الإسرائيلية- الفلسطينية. فقبل أيام ليس إلا من بيان بومبيو، كانت محكمة العدل الأوروبية تؤكّد وتُعزّز قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بمنع بيع منتجات المستوطنات الإسرائيلية في أوروبا إذا ما وُسمت بتعبير "صنع في إسرائيل". وفي أعقاب ملاحظات بومبيو، أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً يكرر فيه موقفه القائم منذ أمد طويل حول لاشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. كما أصدرت الأمم المتحدة وأطراف أخرى بيانات مماثلة.
علاوةً على ذلك، واجهت خطوات الإدارة الأخرى حيال قضايا الوضع النهائي معارضة دولية واسعة النطاق. فبعد أن قطعت الولايات المتحدة كل التمويل للأونروا وسعت إلى إنهاء انتداب هذه الوكالة، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 170 صوتاً ضد صوتين إثنين في 5 تشرين الثاني/نوفمبر لصالح قرار يُمدّد تفويض الأونروا حتى العام 2023. وحدهما الولايات المتحدة وإسرائيل صوتتا ضد هذا القرار. وبالمثل، حين اعترفت الإدارة بالقدس عاصمة لإسرائيل وافتتحت سفارتها هناك، لم يحذُ حذوها سوى دولة واحدة هي غواتيمالا.
لكن مهلاً: الخطر الأكبر الناجم عن انقلاب موقف الإدارة لا يكمن في تأثيره على النشاط الاستيطاني في حد ذاته، بل في أنه سيكون حافزاً إضافياً لحملة اليمين الإسرائيلي لضم كل أو أجزاء من الضفة الغربية. قد تكون السياسة الأميركية حيال المستوطنات عرضة إلى التغيّر، لكن الضم من جانب إسرائيل سيكون خطوة لا رجعة قانونية عنها، ما سينسف كل آفاق حل الدولتين الذي يُعتبر الإطار الوحيد المُمكن لتسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بين الطرفين.
في غياب مثل هذا الحل، سيُكتب على الفلسطينيين وإسرائيل أن يعيشوا معاً في دولة ثنائية القومية. وحينها سيتعيّن على إسرائيل أن تختار بين قيمها الديمقراطية وبين طابعها اليهودي، فيما لن يكون في مقدور الفلسطينيين تحقيق تطلعاتهم الوطنية.
ربما يشي تغيير الموقف الأميركي من المستوطنات بأن الإدارة لم تتخلّ بعد عن "صفقة القرن"، والتي كانت مُعلّقة طيلة معظم هذه السنة بسبب عجز الساسة الإسرائيليين عن تشكيل حكومة جديدة. والحال أنه من الصعب معرفة ما تأمل الإدارة تحقيقه من هذه الخطة بعد أن استعدت بشكل عميق الفلسطينيين. لكن، إذا ما مضت قُدُماً فيها، سيكون ذلك دليلاً إضافياً على أن هدفها الحقيقي ليس ترقية السلام بل تقويض أي فرصة لتحقيق حل الدولتين.
ثمة الآن لائحة طويلة من المواقف الأميركية الجديدة من القضايا الإسرائيلية- الفلسطينية، ستجد أي إدارة أميركية لاحقة نفسها مضطّرة إلى معالجتها قبل أن تستأنف انخراطها في دور الراعي الجدّي لجهود السلام في الشرق الأوسط. هذه اللائحة تشمل المواقف حيال القدس، والمستوطنات، واللاجئين. وهذه ستكون مهمة شاقة وبالغة الصعوبة. هذا إضافة إلى أن مواقف الإدارة الحالية في السنة المقبلة ستُحدد ما إذا الضرر الفادح الذي وقع يمكن ترميمه أم لا.
بكلمات أدق: إذا ما اندفعت الحكومة الإسرائيلية نحو الضم ودعمتها إدارة ترامب في ذلك، لن يكون بالإمكان إصلاح الضرر. وحينها ستعلق إسرائيل والفلسطينيون في مستقبل ثنائي القومية، ولن يكون في مستطاع أي إدارة جديدة أو بقية المجتمع الدولي أن يفعلوا شيئاً لإنقاذ هذين الطرفين من مصيرهما العاثر.