مصر عالقة في مايُشبه سجن الديون في ليبيا. ففي ضوء المسار الذي يسلكه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ مايُسمّى الربيع العربي الذي انطلق قبل عقد من الزمن، ناهيك عن الحدود المشتركة مع ليبيا الممتدة على طول 1158 كيلومتراً وتدفقات السلاح من هذه الأخيرة إلى سيناء، كان التدخّل المصري هناك نتيجة حتمية عملياً.
بدأ التدخّل المصري في العام 2014 عبر دعمٍ لفظي للمشير الليبي خليفة حفتر الذي يُعتبر معادٍ للإسلاميين، في حرب أهلية محلية الطابع. وسرعان ماتوسّع هذا التدخل ليشمل شحن السلاح في السفن، وإرسال المرتزقة، وتأمين المعلومات الاستخبارية والمستشارين العسكريين في نزاع مدوَّل تشارك فيه مجموعة من البلدان الأخرى. الرهانات عالية في ليبيا، لكن مصر متمسّكة بالتزامها هناك. فالديون التي تراكمت على كاهلها – الديون السياسية والمالية والعقائدية – سوف تطبع تدخّلها في ليبيا، وتحمل في طياتها مؤشراً على أن مصر قد تبقى هناك لفترة أطول مما تمليه مصالحها.
الدَين الأوضح هو دَينٌ سياسي. فقد قدّمت السعودية والإمارات الدعم للانقلاب الذي نفّذه الجيش المصري ضد الرئيس السابق محمد مرسي المنتمي إلى الإخوان المسلمين في العام 2013. وفي المقابل، التزم الرئيس عبد الفتاح السيسي، صراحةً أو ضمناً، بدعم رد الفعل الذي تعاملت به هاتان الدولتان مع الربيع العربي من خلال إطلاقهما ثورة مضادّة. ومصر هي الآن جزء من تحالف أوّلي بين دول عربية ترتكز رؤيتها للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط على السياسة الخالية من أي معارضة حقيقية.
يمكن تلمس تأثيرات هذا التحالف الأولي في دوّامة الفوضى التي تغرق فيها ليبيا اليوم، حيث تخوض قوات حفتر المدعومة من الإمارات وروسيا ومصر مواجهةً ضد الميليشيات المدعومة من تركيا التي تساند حكومة الوفاق الوطني في طرابلس. وعلى الرغم من أن مصر حاولت أن تؤدّي دور الوساطة بين حفتر وحكومة الوفاق الوطني، وعلى الرغم من أن الحكومة المصرية لاتوافق بجميع مكوّناتها على أساليب حفتر وأهدافه، إلا أن التزام تركيا الأخير بمؤازرة حكومة الوفاق الوطني المحاصَرة دفع بمصر إلى مساندة حفتر، نظراً إلى الدعم القوي الذي تقدّمه أنقرة إلى الإخوان المسلمين.
ربما يتأثر هذا الدعم أيضاً بموقف الإمارات العربية المتحدة التي تقدّم أيضاً دعماً راسخاً لحفتر. لقد استخدمت مصر مجالها الجوي وإمكاناتها في النقل الجوي وقواعدها في الصحراء الغربية لمد حفتر بالمؤازرة اللوجستية، وحتى تعزيز قواته بواسطة مرتزقة من الخارج، ناهيك عن تأمين المعلومات الاستخبارية والمستشارين العسكريين. وبعد استثمار كل هذا المجهود في التحالف الأولّي، سيكون أمراً مقيتاً أن تنسحب منه الآن بكل بساطة. ومايثير القلق أكثر هو أن القادة المصريين ربما لايدركون بعد الكلفة التي قد تدفعها بلادهم من حيث العناصر البشرية والمادّية في حال اشتدّ عود التحالف الأولّي المنافس، واستتبع ذلك نشوب حرب إقليمية لن تكون ليبيا سوى مجرد واحدة من ساحات معاركها الكثيرة المحتملة.
إلى جانب هذه الديون السياسية، لدى مصر مصالح والتزامات مالية أبقتها متورطة في النزاع الليبي. فمنذ وصول السيسي إلى سدّة الرئاسة، تدهورت قيمة الجنيه المصري وحال الاقتصاد العسكري المزدهر فضلاً عن القمع السياسي الشديد دون تطوّر القطاع الخاص وصعود طبقة وسطى مصرية منخرطة وواثقة من نفسها. ولم تكن مليارات الدولارات التي تتدفق من الخليج كافية لإحداث تحوّل في الاقتصاد المصري، كما تسبّبت الفوضى في ليبيا بتوقف التحويلات المالية التي كان المصريون الذين يعملون هناك يرسلونها إلى بلادهم. وإذا انسحبت مصر من ليبيا الآن، فسوف تخسر أيضاً إمكانية الإفادة من أموال عقود إعادة الإعمار هناك، وليس سهلاً عليها أن تسمح بذلك.
الديون الأعمق على عاتق مصر هي ديون إيديولوجية تمس علاقتها بشعبها. فاصطفافها إلى جانب الإمارات العربية المتحدة والسعودية ليس مجرد زواج مصلحة، بل إنه بمثابة اتحاد حيث يُنزَل العقاب الأشد قسوة بكل من يتفوّه بكلمة أو يقوم بعمل تفوح منه رائحة الإسلام السياسي، وحتى ببعض مَن يتفوهون بكلام أو يقومون بأعمال لاعلاقة لها بالإسلام السياسي. وقد أفضى مقتل سبعة مسيحيين أقباط في شباط/فبراير 2014 على أيدي متطرفين إسلاميين في ليبيا إلى حشد الدعم المصري للتدخل، وخلق رابطاً واضحاً مع التمرد الإسلامي في سيناء الذي حصل على إمدادات بالأسلحة والرجال من مجموعات في ليبيا. وقد ألقت هذه النزعات، مقرونةًبالدوافع الإماراتية المناهضة للإسلاميين والرفض القاطع لحكومة مرسي الإسلامية، غطاءً علمانياً غير ليبرالي على الحرب الليبية. ويعتقد أعضاء التحالف الأولّي أنه كلما طالت فترة صمود حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، ازداد الاحتمال بأن تبقى ليبيا معقلاً لدعم الإسلاميين بما يهدّد الاستقرار الإقليمي.
المشكلة في هذا المنطق العلماني غير الليبرالي هي أن المصريين هم من الأكثر تديّناً في العلن بين جميع المسلمين. قد يتوقفون عن التصويت للإسلاميين، لكنهم لن يتوقفوا عن قراءة القرآن في المترو أو ارتداء الحجاب، فكم بالحري أن يتخلّوا عن الواجب الديني بإنشاء مجتمع مسلم. هم سينتظرون ببساطة أن تنقضي هذه المرحلة العلمانية غير الليبرالية، ثم يتحرّكون مجدداً عندما تندلع الثورة المقبلة. وبما أن المصريين سيتذكّرون تهميش الإسلام، ليس القادة المصريون متحمّسين لحلول موعد استحقاق هذا الدَّين، ولذلك عليهم تخصيص موارد متزايدة للسيطرة على الأفكار، من دون إقناع المصريين بتغيير تفكيرهم الإسلامي.
هذا الدَين الإيديولوجي مرتبط بالديون السياسية والمالية. وإذا سلّم القادة المصريون بالجاذبية الكامنة للسياسة الإسلامية، فسوف يطالبهم أسيادهم السياسيون في الخليج بتسديد ديونهم، ولن تتمكّن مصر من تبرير لهفتها للفوز بعقود إعادة الإعمار في ليبيا. كذلك، إذا استمر القادة المصريون في السيطرة على التفكير والمعارضة الإسلاميَّين وغير الإسلاميين، بحسب ما يبدو مرجّحاً، فلا خيار أمامهم سوى خوض المعركة في ليبيا حتى النهاية المُرّة، ولو عنى ذلك حصول مصر على أقل بكثير مما كانت تتطلع إليه عندما بدأت تقديم الدعم إلى حفتر. وكما في مختلف السجون التي يقبع فيها المتعثرون عن سداد ديونهم، لن يكون سهلاً على مصر الخروج من سجنها.