حدّدت الاتفاقية، التي انبثقت على أساسها الحكومة الائتلافية الإسرائيلية الراهنة، يوم الأول من تموز/يوليو موعداً لمباشرة دراسة عمليات الضمّ في الضفة الغربية. وفيما يحُث هذا الموعد الذي فُرض ذاتياً الخُطى، ثمة قدر كبير من الغموض يلُف الكيفية التي ستتكشّف فيها هذه العملية فصولاً.
لم يُوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ما إذا كان ينوي انتهاج مقاربة قُصوى تتضمّن ضمّ غور الأردن برمته وكل المستوطنات الإسرائيلية، كما وعد إبّان الحملة الانتخابية. كما أنه لم يُحدد ما إذا كان سيختار ضمّ منطقة أصغر ربما تركّز على كتلة مستوطنات كبرى على حوافي خطوط إسرائيل ما قبل 1967. وهناك كذلك خيار ثالث هو أن يرجئ نتنياهو هذا القرار المعقّد إلى وقت لاحق.
ثمة غموض ثانٍ كبير يكتنف موقف الولايات المتحدة، التي هي عامل حاسم في هذه المسـألة، لأن عملية الضمّ لن يكون لها معنى إذا لم تترافق مع اعتراف هذه الأخيرة بها. الشيء الوحيد المؤكد هنا هو المعارضة الفلسطينية لأي شكل من أشكال الضمّ، على الرغم من أن قدرة الفلسطينيين على منعه محدودة للغاية. لكن، ومهما كان الشكل الذي سيرتديه قرار نتنياهو، ستكون له حتماً مضاعفات بعيدة المدى. إذ حتى لو جاء الضم جزئياً، فإنه سيوجّه ضربة قاصمة لحل الدولتين.
يُواجه نتنياهو معارضة داخلية للضم من اليمين واليسار في آن. فثمة أشطار وازنة من حركة الاستيطان الإسرائيلية والأحزاب اليمينية المتطرفة تعارض الضمّ كما ورد في "صفقة القرن" التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لأن مثل هذه المقاربة لا تُلبّي كل مطالبهم وستجعل بعض المستوطنات بمثابة جيوب معزولة داخل الأراضي الفلسطينية. كما تعارض هذه الأطراف خطة ترامب لأنها، نظرياً على الأقل، ستسمح بقيام دولة فلسسطينية مستقبلية في المناطق التي لم تُضم في الضفة الغربية.
وإلى يسار نتنياهو، تتراوح معارضة الضم بين أولئك الذين يريدون الحفاظ على إمكانية تطبيق حل الدولتين، وبين آخرين قلقون من المضاعفات الأمنية. لكن هناك كذلك أطراف ثالثة يعتريها القلق من التبعات السلبية لعلاقات إسرائيل مع الدول العربية والمجتمع الدولي.
ستكون مسألة صنع القرار لدى نتنياهو مدفوعة بتقديراته حول تأثيرات أي خطوة يتخذها على موقعه وإرثه السياسيين، وعلى الموقف الذي ستتخذه إدارة ترامب. ووفق بنود اتفاقية الائتلاف، سيبقى نتنياهو في سدة القيادة حتى خريف 2021 حين سيسلّم مقاليد السلطة إلى وزير الدفاع بيني غانتس. وخلال هذه الفترة، سيكون على نتنياهو التعاطي أيضاً مع محاكمته جنائياً.
الأرجح أن نتنياهو سيُطل على مسألة الضمّ من زاوية إرثه المُستدام في فترة حكمه المديدة، وسيأمل برفع شأنه إلى مقام رئيس الوزراء المُؤسِس ديفيد بن غوريون. بيد أنه سيحتاج أيضاً إلى أن يأخذ في الاعتبار المضاعفات السلبية للضم، ولن يرغب في أن يخلّف وراءه جولة عنيفة أخرى من المواجهات مع الفلسطينيين أو عزلة دولية أكبر لإسرائيل. في الماضي، تميّز نتنياهو بإطلاق الكلمات المُتشددة والرنانة ولكن العمل بحذر. والآن، مع الضغوط المتناقضة التي يُواجهها، قد يلجأ إلى موقع وسَطَي يتمثّل في ضمٍّ محدود أو مُتدرّج.
منذ أن سيطرت إسرائيل على الضفة الغربية في العام 1967، كان الضمّ خياراً حاضراّ دوماً. لكنها لم تلجأ إليه بشكل جدي البتة، لإدراكها المعارضة التي تواجهه في أوساط المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة. ما تغيّ ر الآن هو توقف إدارة ترامب عن السير في ركب الإدارات السابقة في ما يتعلق بالسياسة الأميركية المُعتمدة منذ وقت طويل. مع ذلك، اعتراف الإدارة بالضمّ الإسرائيلي كان مشروطاً بوضع الخرائط على نحو ثنائي، ما يمنحها حق النقض في هذه العملية. بيد أن ترامب لم يدقق في ما قد يكون مستعداً لقبوله، ولذا عمد مساعدوه البارزون إلى طرح مقاربات مختلفة.
يبدو أن سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، ديفيد فريدمان، هو الأكثر حماسة للضم. فهو سعى جاهداً للتوصل إلى تسوية بين نتنياهو وغانتس. ويُقال إن جاريد كوشنر صهر ترامب، الشخصية التي يعتقد أنها تقف وراء الاقتراح المُقدّم إلى الإسرائيليين والفلسطينيين، ركّز على استخدام احتمال الضمّ كورقة ضغط من أجل التقدّم في المفاوضات على أساس خطته. أما وزير الخارجية مايك بومبيو فقد نصح باعتماد مقاربة ذات وتيرة أبطأ، بسبب المخاوف من التداعيات الإقليمية التي قد تترتّب على هذه الخطوة والتي قد تصرف الاهتمام عن إيران.
في نهاية المطاف، لن يحدّد الموقف الأميركي سوى الرئيس نفسه. وهو سينظر بالتأكيد إلى هذه القضية، كغيرها من القضايا، من خلال عدسة حملة انتخابه لولاية رئاسية ثانية. لكن من الصعب أن نرى راهناً كيف يمكن لترامب أن يكسب المزيد من الدعم الانتخابي في هذه المرحلة. ففي حين تحظى عملية الضمّ هذه بشعبية لدى الإنجيليين المسيحيين والجناح اليميني في المجتمع اليهودي الأميركي، إلا أن معظم أصوات هؤلاء مضمونة له أصلاً. كما من المستبعد أن يغيّر موقف الرئيس رأي أي ناخب في الولايات المتحدة. في مثل هذه الظروف، وفيما يواجه ترامب العديد من المشاكل الأخرى، قد يفضّل عملية ضمّ محدودة أكثر قد ترتكز على التوافق بين نتنياهو وغانتس، أو حتى على تأجيل العملية برمتها.
كانت معارضة الفلسطينيين لأي شكل من أشكال الضمّ واضحة للعيان، ولم ينتظروا حتى 1 تموز/يوليو لقطع كل العلاقات مع إسرائيل، بما في ذلك التعاون الأمني. لكن ردة فعلهم لم تؤثّر فعلياً على النقاش الدائر في إسرائيل أو في إدارة ترامب، وكشفت النقاب عن مدى هشاشة موقعهم وعن احتمال أن تؤدي أي خطوات قد يتخذونها إلى تداعيات سلبية تلقي بوزرها عليهم هم أنفسهم. كانت ردود الفعل القوية من بعض الدول العربية فعّالة أكثر، ولاسيما من الأردن والإمارات. فقد كتب سفير الإمارات في الولايات المتحدة يوسف العتيبة مؤخراً مقالاً نُشر في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية ألقى فيه الضوء على تداعيات قيام إسرائيل بضمّ أجزاء من الضفة الغربية على آفاق تطبيع العلاقات مع العالم العربي.
المخاطر مرتفعة للغاية بالفعل على جميع الأطراف. فبالنسبة إلى الفلسطينيين، سيبدّد الضمّ أي أمل واقعي بتحقيق طموحاتهم الوطنية. والضم المحدود سيكون أيضاً سيّئاً لهم، على غرار الضم الموسّع. ومتى تم انتهاك الخط الأحمر المتمثّل في حيازة الأراضي، سيصبح من الصعب على الحكومات الإسرائيلية المقبلة مقاومة الرغبة في ضمّ المزيد من الأراضي.
المخاطر مرتفعة كذلك على إسرائيل. فالضم الأحادي سيضع البلاد حكماً على مسار انحداري نحو خيار الدولة الواحدة، ما سيدفع إلى التشكيك بطابعها اليهودي والديمقراطي. وفي ضوء هذا الاحتمال، قد يأمل المرء أن يفكّر الإسرائيليون طويلاً قبل شد الرحال في هذه الوجهة.