المصدر: Getty
مقال

مستمرّون في المعركة

استمر الحراك الاحتجاجي في صيدا بعد تشرين الأول/أكتوبر 2019، على الرغم من الجهود الحثيثة لقمعه.

 ميريام سويدان
نشرت في ٧ سبتمبر ٢٠٢٠

في خضم استفحال الأزمة الاقتصادية، من دون أن تلوح في الأفق بوادر حلول وإنما المزيد من الانهيار والفقر، لايزال الحراك الاحتجاجي الذي اندلع في صيدا في تشرين الأول/أكتوبر 2019 مستمراً، على الرغم من تراجع الزخم في مدن لبنانية أخرى، ومحاولات ضبط إيقاع الحراك فيها.

تشهد صيدا سلسلة مسيرات راجلة ووقفات احتجاجية رفضاً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، مركّزة هدفها على المصارف اللبنانية، ومصرف لبنان تحديداً، ومحلات الصيرفة.

استهدف المتظاهرون كذلك "حسبة صيدا"، أو السوق الأساسي للخضار والفاكهة، التي ارتفعت أسعار بضائعها بشكل كبير لم يعكس سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي.

مرّ خبر انتحار الشاب علاء الصيداوي البالغ 20 عاماً من العمر، شنقاً داخل غرفته منذ أيام، مرور الكرام على مسامع الشارع الصيداوي واللبناني عموماً. انتحر علاء بعدما طُرد من عمله في مطعم، وهو واحد من كثر في صيدا أصبحوا عاطلين عن العمل بسبب الأزمة الاقتصادية والتراجع الكبير في قيمة الليرة. فمنذ فترة قصيرة، انتحر رجل صيداوي بسبب ضائقة مالية، وغيرهما كثر وقفوا في ساحات صيدا العامة محاولين سكب الوقود على أنفسهم لإنهاء حياتهم.

لكن هذا لم يمنع الحراك الصيداوي من متابعة مسيرته، التي يؤكد ناشطون فيها إنهم مستمرون على الرغم من الظروف المحيطة، وانحسار الأعداد المشاركة في الساحات واللقاءات، بسبب الخوف من تفشي وباء كوفيد-19. وفي الآونة الأخيرة، برزت مجموعة نشاطات للحراك الصيداوي كان أغلبها أمام مرافق عامة، كشركة الكهرباء والمياه وشركة أوجيرو المسؤولة عن الاتصالات والانترنت. وكان آخرها وقفة احتجاجية أمام مبنى البلدية اعتراضاً على أدائها تجاه معمل النفايات في صيدا، الذي أُنجز منذ سنوات لحلّ أزمة النفايات، إلا إنه لا يزال مقفلاً نتيجة إشكالات ومحاصصات سياسية. بما أن صيدا لا تضمّ وزارات ومراكز أساسية كما العاصمة بيروت، يتركّز أغلب الاعتصامات أمام مبنى البلدية، الممثّل الأساسي لسلطة الدولة.

تكمن المفارقة في الغياب التام للتغطية الإعلامية لهذه التظاهرات. فبعدما كثّفت القنوات اللبنانية تغطيتها لصيدا في أوج الانتفاضة، وتحديداً في الأشهر الثلاثة الأولى منها، غابت كلياً عن المشهد مؤخراً، ما دفع الكثير من الصيداويين إلى تغيير أساليبهم. فعدد المشاركين في أي تحرّك حالي لا يتعدّى المئة، فيما كان يتجاوز الألف سابقاً. لذا، الحراك الصيداوي الآن لا يعوّل سوى على صفحته الرسمية على فايسبوك "صيدا تنتفض"، لنشر أبرز الأخبار والنشاطات.

مرّ الحراك الصيداوي بمحطات أساسية غيّرت مجرى الاحتجاجات. فقد طرأ عليها انعطافة عنيفة عندما هجم المحتجّون على المصارف التي تحجز على ودائعهم، ما دفع قوى الأمن إلى استخدام المزيد من العنف ضد المتظاهرين. المحطة الأولى هي تفجير فرع مصرف فرنسبنك في صيدا في 25 نيسان/أبريل اعتراضاً على استمرار المصارف باحتجاز أموال المودعين ولاسيما بالدولار. وقد اتّهم بتنفيذ هذا التفجير ناشطان في حراك "صيدا تنتفض"، هما وضاح غنوي ومحمود مروّة، بعد تفقّد كاميرات المراقبة.

أما المحطة المهمة الثانية فتمثّلت في ممارسات قوى الأمن القمعية بحق الناشطين، والتي وصلت إلى حدّ الضرب المباشر، والإخفاء القسري، وصولاً إلى التعذيب بالأسلاك الكهربائية. وكان الناشط الصيداوي علاء عنتر، وهو واحد من سبعة شباب اعتقلوا في نيسان/أبريل الماضي بالقرب مبنى بلدية صيدا، وتعرّضوا للتعذيب على مدى أربعة أيام على خلفية الاحتجاجات الأخيرة، قد روى في فيديو مصوّر، نُشر على الإنترنت، وقائع الاعتداء الذي تعرض له على يد الجيش اللبناني مع عددٍ من الناشطين الذين جرى توقيفهم في حراك صيدا. وقال: "باشروا بضربنا منذ لحظة اعتلائنا سيارة الجيش. تفنّنوا في تعنيفنا ونحن معصوبو العينين، حتى أن أحد العسكريين بلّل أحد جاربيّ ثم صعقني بالكهرباء. ضربونا بوحشية، وأهانونا بشتّى الوسائل".

في هذا السياق، لفتت لجنة الدفاع عن المتظاهرين في بيان إلى أن عدداً من الموقوفين "يتعرضون للعنف الشديد خلال إلقاء القبض عليهم وداخل آليات النقل وأماكن الاحتجاز التابعة لمخابرات الجيش، وذلك وفقاً لشهادة المحامين الذين قابلوا الموقوفين، وشهادة الذين أُفرج عنهم لغاية الآن". [هذا العنف] "يهدف إلى انتزاع المعلومات ومعاقبة الموقوفين، وقد يرقى إلى جرائم التعذيب".

يشار إلى أن هذه الممارسات العنيفة الصادرة عن جهات أمن رسمية ازدادت مؤخراً، وتحديداً في المرحلة التي تلت خطة التعبئة العامة لاحتواء فيروس كوفيد-19، مع العلم بأنها تخالف قانونيْ تجريم التعذيب (الرقم 65/2017) والإخفاء القسري (الرقم 105/2018)، وكذلك المواثيق الدولية التي وقّعها لبنان.

وثّقت مجموعات حقوقية الاعتداءات وأعمال العنف التي مارستها قوى الأمن ضدّ الناشطين. ويوحي ذلك بوجود قرار سياسي بقمع التظاهرات، من خلال إرساء نظام بوليسي يهدف إلى إقصاء أي شكل من أشكال التغيير التي قد تهدّد السلطة أو الأوليغارشية الحاكمة. من جهتها، دعت منظمة العفو الدولية، في بيان لها، السلطات اللبنانية إلى اتخاذ جميع الإجراءات الممكنة لضمان حماية المتظاهرين السلميين، واحترام حقهم في حرية التجمع، بما في ذلك إغلاق الطرق، والامتناع عن محاولة فضّ التجمعات السلمية بالقوّة.

في المحصّلة، راكم الشارع الصيداوي وعياً طيلة الأشهر الماضية بدءاً من 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 عبر حلقات حوارية وندوات تميّزت بتنوّع المشاركين فيها، بين شيوعيّ وإسلامي، وناصريّ وحريريّ - وهؤلاء لم يكونوا ليلتقوا أبداً قبل الانتفاضة. ولعلّ عزيمة المتظاهرين هذه تتجسّد في عبارة واحدة تتردّد على ألسنة أغلب الصيداويين، وهي: "مستمرّون".

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.