المصدر: Getty
مقال

مأساة التقاعس

مقاربة لبنان المرتجَلة لصدماته الاقتصادية المتعددة ستخلّف ندوباً لن تندمل في القريب العاجل.

 عامر بساط
نشرت في ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٠

منذ قرابة العام، أعدّت مجموعة من الخبراء "خطة عمل من عشر نقاط لتفادي عقد ضائع"، حذّرنا فيها من أن "الاستمرار في النهج الحالي المرتجَل لصنع السياسات سيدفع لبنان إلى الانفجار والتشظي السياسي". للأسف، بعد انقضاء عام على نشر تلك الوثيقة، تحولت أسوأ مخاوفنا إلى حقيقة.

لم يكن من المستحيل التنبؤ بانفجار الأزمة الاقتصادية في لبنان إذ إن الفراغ السياسي/الاقتصادي يولّد نتائج وخيمة للغاية. فالاقتصاد أشبه بكائن حي: إن لم يُعطَ الترياق اللازم، يتولّى جهاز المناعة محاربة الفيروس. والحرارة المرتفعة هي من أعراض مقاومة الجسد لهذا الالتهاب. فتارةً يكسب الجسم هذه المعركة، وطوراً يخسرها، ولا سيما إذا كان المرض شديداً أو مناعة الجسم ضعيفة. إن الحمى، لا الفيروس، هي التي تودي بالجسم.

لبنان اليوم يشهد هذا السيناريو القاتم. فقد تعرّض البلد لصدمات قوية في حين أن أوجه الهشاشة حادة، بيد أن أزمته تُدار بشكل خاطئ. ‏نتيجةً لذلك، بات الاقتصاد يتكيف ‏عضوياً مع الواقع الجديد. لكن عواقب هذا التكيف "الذاتي" وخيمة. فقد بدأ الانهيار الاقتصادي يظهر جلياً، ولن تندمل ندوب هذه المحنة قريباً.

قبل الغوص في ‏تفاصيل هذا التكيف التلقائي والهبوط الحاد للاقتصاد، ‏إنه لأمر مستغرب إلى درجة الذهول أن الطبقة السياسية لم تحرّك ساكناً لاحتواء الأزمة. ثمة ثلاثة تفسيرات محتملة لهذه اللامبالاة. أولاً، الانعدام التام للكفاءة. ‏والتفسير الثاني يتعلق ببيئة سياسية ‏مستعصية يكاد يتعذّر فيها التوصّل إلى قرار جماعي، ولا سيما نظراً إلى حجم الخسائر التي ينبغي تقاسمها بين الأفرقاء. وثالثاً، قد تُعزى هذه اللامبالاة إلى قرار واعٍ اتّخذته الطبقة السياسية بعدم التحرك، نظراً إلى أن ‏الانفجار يلقي بعبء الخسائر على كاهل المواطنين مما يتيح بالتالي صون المصالح الخاصة ‏للسياسيين. بغضّ النظر عن ‏التفسير الصحيح، تكمن المفارقة في أن الإهمال السياسي ينذر بتحولات سياسية مُزلزلة قد تلقي بظلالها على الطبقة الحاكمة ‏‏بذاتها. ولعلّ المسعى الذي يبذله السياسيون راهناً من أجل تشكيل حكومة على جناح السرعة نابعٌ من إدراكهم بأن الانهيار الاقتصادي سيقوّض على الأرجح ‏بقاءهم السياسي.

‏للإضاءة على كيفية ‏مباشرة الاقتصاد ‏بالتكيف من تلقاء نفسه، سوف نتوقف عند العناصر الأربعة للأزمة الاقتصادية اللبنانية. بحلول أواخر العام 2019، ‏شهدت البلاد ‏اختلالات كبيرة في التوازن بين الطلب ‏والعرض ‏على الدولار، ترافقت مع شبح الدين غير المستدام، ومع قطاع مصرفي متضخّم ومفلس، وقطاع عام غير فعّال يُفاقم العجوزات. ‏وبعد مرور عام على اندلاع هذه الأزمات، يجري التعامل مع المشكلات الأربعة، إنما خلسةً. لكن العوامل التلقائية التي ‏تتيح هذا التكيف خطيرة ‏وتترتب عنها تداعيات مضرّة بآفاق البلاد في المدى الطويل.

لنبدأ أولاً بميزان المدفوعات. لقد بلغ صافي حاجات لبنان التجارية بالدولار الأميركي 12 ملياراً في العام 2019. وتقلّصت هذه الحاجات إلى نحو 4 مليارات في العام 2020، وهذا أمر جيّد في حدّ ذاته. لكن هذا التكيف يخبّئ خلفه ‏تدهوراً ‏‏بنسبة 50 في المئة في قيمة الواردات. ‏وهذا التدهور ناجم بدوره عن الانهيار الكبير في قيمة العملة والركود الشديد الذي حرم ‏المجتمع من الدخل الضروري لاستيراد السلع. بعبارة أخرى، ‏‏يتكيف ميزان المدفوعات بالفعل مع الأزمة، لكن ‏السبب ‏الرئيسي هو اضمحلال إيرادات المجتمع وثرواته.

‏العنصر الثاني للأزمة هو تراكم الديون الطائلة في القطاعَين العام والخاص، والتي بات من المستحيل تمويلها وخدمتها. سوف توصي جميع برامج التعافي طبعاً ‏بتقليص الديون إلى مستوى يستطيع الاقتصاد تحمله. ‏ولكن يُفترَض بعملية خفض الاستدانة أن تتّبع نهجاً منظّماً يمكنه تحقيق التوازن بين مصالح المقرضين من جهة (من أجل زيادة القيمة المُستردة لقروضهم)، والمدينين من جهة أخرى (من أجل تقليص عبء ديونهم بما يكفي ‏لإعادة ‏إنعاشهم و‏نهوضهم). ولكن في ظل غياب إدارة فعّالة للأزمة، يجري ‏التعامل مع المديونية بطريقة بدائية تعني ‏فعلياً ‏تفشي حالات التخلّف ‏غير المنظم عن سداد الديون وإشهار الإفلاس.

‏القطاع المصرفي هو العنصر الثالث في الأزمة الاقتصادية. ‏فقد عملت المصارف طوال عقود على استقطاب الودائع ومن ثم إقراضها للدولة مما ‏حوّل القطاع المصرفي إلى عملاق هائل ‏لا يستطيع الاقتصاد تحمّل حجمه. ‏إضافةً إلى ذلك، تسبب ‏ ‏تخلّف& الدولة عن سداد الديون و الركود ‏الاقتصادي العميق ‏بإفلاس القطاع. ومنذ ذلك الحين، ‏باشر القطاع بالتقلّص تلقائياً و"تنظيف" نفسه ‏بنفسه. ‏ومما لا شك فيه أن هذه العملية صحّية في جزء منها ‏حيث إن قسماً من المقترضين باع أصوله العقارية إلى مودعين آخرين واستخدم تلك الأموال لإطفاء ديونه.

ولكن ثمة أجزاء أخرى غير سليمة في إطار عمليات توطيد القطاع المصرفي. وفي طليعتها ظاهرة ‏السحوبات المالية الكبيرة في محاولةٍ للالتفاف على القيود المفروضة على حركة الرساميل ‏أو ما يُعرَف بالكابيتال كنترول. وتلك السحوبات تُموَّل من احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية والذي يعاني من نزف مستمر. أما الظاهرة الثانية ‏فتتمثل بالـ haircut الطوعي الذي يمارسه المودعون على أنفسهم من خلال قيامهم بسحب ودائعم الدولارية ولكن بالليرة اللبنانية مقابل سعر صرف مصطنَع وغير حقيقي. ‏وهذه "الليرلة" المفروضة بحكم الأمر الواقع تتسبب بانخفاض قيمة الودائع جراء التضخم. ‏ـإذاً ‏يمكن القول إن ما يحصل فعلياً هو عملية "تنظيف" ‏القطاع المصرفي لنفسه. لكن مَن يتكبّد الخسائر هم المودعون والاحتياطيات الأجنبية لمصرف لبنان ‏وليس المساهمون في المصارف.

والعنصر الرابع للأزمة هو القطاع العام. ‏لطالما كانت الدولة اللبنانية عاجزة عن ‏توليد عائدات أو ضبط الإنفاق. صحيح أن العائدات تدهورت خلال العام الماضي، لكن ‏المفارقة هي أن الجانب المتعلق بالإنفاق شهد ‏تحسناً. فالتضخم الذي يعكس في حدّ ذاته سياسة نقدية متساهلة بشكل غير مسؤول، ‏أحدث تراجعاً حاداً في القيمة الحقيقية للرواتب والمعاشات التقاعدية لموظفي الخدمة المدنية، ‏وأسفر، على نطاق أوسع، عن انخفاض كبير في الإنفاق العام على السلع والخدمات. وهنا أيضاً، ‏يجري التعامل مع خطيئة أصلية ‏عن طريق اللجوء إلى المواربة، ‏والنتيجة ‏للأسف هي إفقار الطبقة الوسطى والمجتمع ككل.

وفي هذا الصدد، يُتوقَّع أن يتراجع الناتج المحلي الإجمالي للبنان في العام 2020 وحده بنسبة 25 في المئة، وهو ‏رقم موازٍ لما سجّلته الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس من الكساد الكبير. ويُتوقَّع أيضاً أن تنهار القدرة الشرائية للاقتصاد اللبناني، عند قياسها بالدولار، بمقدار الثلثين. ‏ويُسجّل ‏التضخم الذي ‏يقضي باطراد على الدخل الحقيقي للمجتمع، ‏ارتفاعاً بنسبة مقلقة تصل ‏إلى 120 في المئة. يترافق ذلك مع انتشار الفقر ‏في البلاد حيث يعجز نحو مليونَي شخص عن تأمين الاحتياجات الأساسية.

لكن ما تخفيه هذه الأرقام هو التداعيات البنيوية التي ‏سيدوم ‏أثرها في المدى الطويل. ‏فمن جهة أولى، يعاني الرأسمال البشري من نزيف حاد بسبب الهجرة الكثيفة للأدمغة الشابة التي تغادر لبنان ‏أو تسعى إلى المغادرة. وما يثير القلق بالقدر نفسه هو خسارة القدرات الإنتاجية الفعلية الناجمة عن إغلاق الشركات في جميع أنحاء البلاد. ‏اأما مصدر القلق الأكبر فيتمثل في التداعيات الأمنية التي يمكن أن تترتب عن الانفجار الاقتصادي. فقد شهد لبنان على مر التاريخ ‏انقسامات مذهبية ‏أدّت في أحيانٍ كثيرة إلى اندلاع صراعات عنيفة. ومن شأن الانهيار الاقتصادي أن يفتح الباب على مصراعيه أمام عودة العنف.

أخيراً، لا بدّ من طرح سؤال: هل من سبيل أفضل للتعامل مع الأزمة؟ نعم بالطبع. فخارطة الطريق المُثلى لتحقيق التعافي معروفة جيداً، وكثيرون كتبوا عنها وشرحوا تفاصيلها. لكنني لن أتطرّق إلى هذه المسألة هنا، بل سأكتفي بالتشديد على أن الكيان اللبناني أضعف من أن يتحمّل الإهمال والشلل المُستشريَين راهناً. وإذا ما استمر الفراغ على مستوى السياسات، فسنواجه بالتأكيد عواقب ‏كارثية.

عامر بساط هو رئيس الأسواق السيادية والناشئة في مؤسسة "بلاك روك"، كان خبيراً اقتصادياً في صندوق النقد الدولي. يكتب بصفته الشخصية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.