في 13 تشرين الثاني/نوفمبر، أدّت الاشتباكات حول حركة المرور في معبر الكركرات الحدودي بين الصحراء الغربية وموريتانيا إلى خرق اتفاق وقف إطلاق نار دام حوالى ثلاثة عقود وأنهى صراع الصحراء الغربية بين الرباط وجبهة البوليساريو. صرّح المغرب من جهته، بأنه أطلق النار على مقاتلي البوليساريو ردّاً على إقفالهم الطريق لأيام عدّة، وإعاقة مرور نحو 200 شاحنة وتعريض الحركة التجارية مع موريتانيا للخطر. بدورها، قالت جبهة البوليساريو إن بعض السكان المحليين تجمعّوا قبل الحادثة للاحتجاج بطريقة سلمية على تواجد المغرب في المنطقة.
يسيطر المغرب على أجزاء من الطريق المؤدية إلى المعبر بحكم الأمر الواقع، فيما تقع أجزاء أخرى ضمن المنطقة العازلة المحدودة التي تسيطر عليها بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية. في هذا الإطار، تبرز مخاوف من أن تؤدي هذه الحادثة إلى إعادة إشعال فتيل الصراع المسلح بين المغرب وجبهة البوليساريو، ما قد يفاقم انعدام الاستقرار في شمال أفريقيا والساحل، إلى جانب الحرب في ليبيا والتمرّد في مالي.
صرّحت جبهة البوليساريو، عقب الاشتباكات الأخيرة، بأن الخطوات المغربية تمثّل انتهاكًا لاتفاق وقف إطلاق النار، وأعلن أمينها العام إبراهيم غالي الحرب على المملكة. في الوقت نفسه، لم يُظهر المغرب أي مؤشرات على أنه يسعى إلى تصعيد الوضع. ووصفت الحكومة المغربية تدخلها على أنه خطوة ضرورية لضمان حرية تنقل الأشخاص والبضائع عبر الطريق الوحيد الذي يربطها بموريتانيا. وقد حظي المغرب بدعم الكثير من حلفائه التقليديين، ومن بينهم دول الخليج، بيد أن شركاءه الأوروبيين وفرنسا والاتحاد الأوروبي كانوا أكثر حذرًا، إذ أيّدوا الخطوات المغربية ضمنيًا وحسب. ويُعزى ذلك على الأرجح إلى الرغبة في تجنُّب تنفير الجزائر الداعمة الأساسية للبوليساريو، واستعداء مجموعات الناشطين في أوروبا التي يعلو صوتها أكثر فأكثر تنديدًا باحتلال المغرب للصحراء الغربية وانتهاكات حقوق الإنسان المُرتبكة هناك.
صحيحٌ أن معبر الكركرات شكّل لفترة طويلة مصدر توتر بين الطرفين، إلا أن الطريق التي تتمتّع بأهمية استراتيجية غير خاضعة إلى سيطرة المغرب بالكامل، وهذا ما توّد الرباط تغييره. لكن الكثير من الصحراويين يعتبرون أن الوضع القائم حاليًا ناجم عن خيبة أملهم الكبيرة إزاء فشل كلٍّ من المغرب والبوليساريو والمجتمع الدولي في حلّ للصراع الذي طال أمده في إقليم الصحراء الغربية، هذه المستعمرة الإسبانية السابقة المتنازع عليها منذ العام 1975، حين عمد المغرب إلى ضمّ المنطقة إلى أراضيه قبل انسحاب إسبانيا.
خاضت المغرب وجبهة البوليساريو صراعًا مسلحًا بين العاميْن 1976 و1991، انتهى بتوسط الأمم المتحدة لإبرام اتفاق وقف إطلاق النار، بناءً على تعهد بأن تليه عملية سياسية تشمل تنظيم استفتاء يُعطي الصحراويين الحق في تقرير مصير الإقليم. وأدّت الخلافات حول هوية من يحق له المشاركة في الاستفتاء ومكان مشاركته إلى طريق مسدود. وخلال السنوات القليلة الماضية، تخلّى المغرب عن فكرة الاستفتاء، وتقدّم بدلًا من ذلك بخطة تُعطي أقاليم الصحراء الغربية نوعًا من الحكم الذاتي الموسع.
ويميل المغرب إلى تصوير القضية على أنها معلّقة، في ظل بقاء الجانبين على طرفي نقيض. فمن جهة، لن تقبل الرباط سوى بمنح حكم ذاتي ضمن السيادة المغربية، في حين أن جبهة البوليساريو، من جهتها، لن توافق إلا على الاستقلال الكامل. مثل هذه الآراء الراسخة تزيد صعوبة الوضع القائم، الذي يراه المغرب حلًا مقبولًا.
أما الجزائر فقد حصدت بدعمها لجبهة البوليساريو مزايا فلسفية وعملية على السواء، ما جعلها طرفًا غير مباشر، إنما يلعب دورًا مهمًا، في الصراع. وقد دفعها موقفها المناهض للاستعمار طيلة عقود إلى التعاطف مع قضية الصحراويين، واعتبار الصراع في الصحراء الغربية إنهاء للاستعمار. بيد أن الجزائر نظرت إلى جبهة البوليساريو أيضًا على أنها ورقة ضغط مفيدة في العلاقة المتوترة التي تربطها بالمغرب. وتواصل المملكة المغربية تصوير الصراع في الصحراء الغربية كمصدر للشرعية والشعبية، على اعتبار أنه النضال الكبير الذي يوحّد المغاربة. علاوةً على ذلك، لم يمنعها الصراع القائم من تطوير المنطقة كما تفعل في أي شبر من أراضيها، وحتى بدرجة أكبر.
ربما يشي استعداد جبهة البوليساريو إلى إعلان الحرب على المغرب في الوقت الراهن برغبة في توفير زخم لحل قضية الصحراء الغربية على خلفية التحديات الداخلية التي تواجهها الجبهة والتغييرات التي تطرأ في الجزائر. واقع الحال أن قيادة البوليساريو تواجه استياءً من داخل وخارج مخيمات اللاجئين التي تسيطر عليها في الجزائر. فالسكان الخاضعون إلى حكم البوليساريو في المخيمات الصحراوية وأولئك الذين يدعمونها داخل الأراضي الخاضعة إلى سيطرة المغرب، عانوا الأمرّين طوال سنوات، في انتظار التوصّل إلى حل سياسي، لكن الخطوات التي لجأت إليها البوليساريو لم تُحدث أي تغيير على هذا الصعيد. علاوةً على ذلك، تبدّلت الظروف داخل الجزائر بشكل كبير خلال العام الماضي، وبات من الصعب تقييم ما إذا كان دعمها لجبهة البوليساريو سيبقى على حاله إلى أجل غير مُسمى، أم سيتغيّر.
كذلك الأمر بالنسبة إلى المغرب الذي اعتبر الوضع بمثابة فرصة لا بدّ من انتهازها لاكتساب أفضلية في الصراع. فقد سبق له أن تحرّك لتأمين سيطرته على معبر الكركرات، وبناء حاجز في الممر الضيق الذي يربط المغرب بموريتانيا، استكمالًا للجدار الرملي الذي كان أقامه لفصل المناطق الخاضعة إلى سيطرته عن تلك التي تسيطر عليها البوليساريو.
أما مسألة إن كانت خطوة المغرب قانونية أم لا فلم تتطرّق الأمم المتحدة إليها بشكلٍ علني بعد لصعوبتها. وفي حين ينصبّ تركيز المجتمع الدولي على مكافحة تفشّي وباء كوفيد-19، ويشعر الأفرقاء المنخرطون في صراع الصحراء الغربية الذي طال أمده بالإرهاق، وتختبر الولايات المتحدة عملية انتقال سياسي صعبة، قد يرى المغرب الفرصة سانحةً أمامه للمضي قدمًا في تنفيذ أجندته. ففي حال ضغطت إدارة ترامب من أجل إبرام اتفاقات سلام بين الدول العربية وإسرائيل قبل تسليمها مقاليد الحكم لإدارة بايدن، قد يخطو المغرب مثل هذه الخطوة إن أدّت في نهاية المطاف إلى اعتراف أميركي بسيطرته على الصحراء الغربية.
وفيما يُرجّح أن يستأنف الطرفان الصراع المسلح، تواصل المنطقة معاناتها من جرّاء تداعيات تفشي فيروس كوفيد-19، والضغوط الاقتصادية التي تسبّب بها لاقتصادات متداعية أساساً، ومواطن الضعف الاجتماعية والسياسية التي كشف عنها. بيد أن انخراط المغرب في الصراع سيزيد الطين بلّة، إذ إنه يواجه أساسًا جملةً من التحديات الاجتماعية والاقتصادية. بدورها، تواجه الحكومة الجزائرية ضغوطًا اقتصادية كبيرة من جرّاء تراجع عائدات النفط والغاز، وانعدام شرعيتها لدى شعب يُطالب بإصلاحات أوسع. صحيحٌ أن مثل هذه المشاكل تؤدي في حالات معينة إلى نشوب صراع، إلا أن تكاليف هكذا مواجهة ستفوق اليوم المكاسب التي يمكن أن يحققها كلٌّ من المغرب والجزائر على السواء، ولا سيما أن الطرفان يستفيدان من الوضع السائد حاليًا. باختصار، لا يزال مصير الشعب الصحراوي معلّقًا في حبال الهواء.
حتى الآن، تنخفض وتيرة التطورات في المنطقة باطّراد مقارنةً مع ما كان عليه الوضع خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم. وفي 15 تشرين الثاني/نوفمبر، تحدّثت تقارير عن سماع إطلاق نار في بعض المواقع على طول الجدار الرملي، بيد أن الجيش المغربي لم يُفصح سوى عن معلومات قليلة جدّاً حول الحادثة. من جهته، أعلن المتحدث باسم جبهة البوليساريو، ولد السالك، أن مجموعته تعمل على حشد "آلاف المتطوعين". وأشار المغرب بدوره إلى أنه لن يبخل بالردّ. في الوقت نفسه، صدر بيان عن الجيش الجزائري الأسبوع الفائت يحثّ كلا الطرفين على ضبط النفس، ما اعتُبر ردًّا خجولًا نوعًا ما مقارنةً مع التصريحات السابقة.
مع ذلك، تُعتبر حادثة الحدود، أو الصراع ككل، تذكيرًا بالمخاطر التي قد تنجم عن هذا الصراع في الصحراء الغربية، إن بقي من دون حل. وتسلّط الضوء. كذلك على حجم الخلل في العلاقة بين المغرب والجزائر، وغياب التنسيق على المستوى الأمني أو السياسي بين دول شمال أفريقيا.