المصدر: Getty
مقال

"الجزائر الجديدة" هي نفسها الجزائر القديمة

يسعى قادة البلاد إلى إنهاء الحراك الاحتجاجي الشعبي، لكن من دون نتيجة.

نشرت في ٩ نوفمبر ٢٠٢٠

في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، شهدت الجزائر استفتاءً شعبياً صوّت فيه الجزائريون على سلسلة من التعديلات الدستورية التي اقترحتها الحكومة. وقد مرّ الاستفتاء مرور الكرام ولم يكن له أيّ وقعٍ فعلي، بسبب تدنّي نسبة المشاركة. وجاء ذلك فيما يطالب المواطنون بانتقال سياسي في الجزائر، من خلال الحراك الذي انطلق في شباط/فبراير 2019.

وقد غطّت التعديلات، وعددها 73 تعديلاً، مجموعة واسعة من المسائل، من بينها فصل السلطات، والحقوق الأساسية والحريات العامة، وإنشاء هيئة انتخابية وطنية مستقلة، واستقلالية القضاء، ومكافحة الفساد، وإلغاء المجلس الدستوري واستبداله بمحكمة دستورية.

يُعزى فشل الاستفتاء إلى سببَين أساسيين. فالحكومة والغرفتان العليا والدنيا في مجلس النواب تبنّت التعديلات الدستورية قبل شهرَين تقريباً، وتحديداً في 11 أيلول/سبتمبر الماضي. وكانت هذه المرة الثانية التي يطلب فيها النظام من المواطنين التعبير عن رأيهم. فالمرة الأولى كانت في كانون الأول/ديسمبر الماضي عندما طُلِب من الجزائريين انتخاب رئيس جديد، وحدث الاستفتاء وسط أجواء من الشك في نوايا النظام. وقد كانت نسبة المشاركة في الاستفتاء متدنّية جدّاً (23.7 في المئة)، ولكن هدف النظام المعلَن كان استخدام الاستفتاء كخطوة نحو بناء "جزائر جديدة"، ما يعني أنه رأى في الاستفتاء سبيلاً للخروج من المأزق مع الحراك.

يرمي النظام، من خلال الاستفتاء والدستور الجديد، إلى القضاء على زخم الحراك الشعبي عبر محاولة تبنّي أهدافه ونسبها لنفسه. فعلى سبيل المثال، ورد في الديباجة أن الدستور يستجيب لـ"إرادة الشعب" المعبَّر عنها من خلال "الحراك المبارك الأصيل" الذي "وضع حدّاً لأخطاء [سابقة]...". بعبارة أخرى، الاستفتاء هو بمثابة حل أوجده النظام للمضي قدماً، وإتاحة المجال أمام ظهور جزائر جديدة وإنهاء الحراك.

لم يقتنع الجزائريون بالمجهود الذي بذله النظام لاستعادة الشرعية الشعبية. لا بل فاقم ذلك أزمة الشرعية العميقة التي تعاني منها البلاد. لماذا؟ أولاً، بسبب اعتراض عدد كبير من الجزائريين على انتخاب عبد المجيد تبون رئيساً للبلاد، ولا سيما أن انتخابه لقي مقاطعة واسعة وصدامات مع الشرطة. فوفقاً للأرقام الرسمية، بلغت نسبة مقاطعة الانتخابات 58 في المئة، ما قضى على المجهود الأول الذي بذلته السلطات لإظهار أنها تحمل راية الديمقراطية.

والسبب الثاني لتفاقم أزمة الشرعية جرّاء الاستفتاء على الدستور الجديد هو أن الاستفتاء اتّبع نمطاً مألوفاً جدّاً للجزائريين. فعلى مر التاريخ الجزائري الحديث، استخدم النظام الاستفتاءات والانتخابات الدورية للحفاظ على واجهة ديمقراطية، فيما لم يبذل أي مجهود يُذكَر لإصلاح المنظومة وتعزيز طابعها التمثيلي. وقد رأى كثرٌ داخل البلاد أن هذه مجرد خطوات عقيمة هدفها الحفاظ على ديمومة النظام.

بموجب الدستور الجديد، لن يتمكّن الرئيس مثلاً من البقاء في منصبه لأكثر من ولايتَين متتاليتين. ويُعيَّن رؤساء الوزراء بأصوات أكثرية النواب، إنما يحتفظ الرئيس بصلاحية إقالتهم من منصبهم. وكانت القيادة العليا في الجيش الجزائري هي التي دفعت باتجاه خيار تركيز السلطة في يد الرئاسة الخاضعة فعلياً إلى سيطرتها. وبهذه الطريقة نجحت القيادة العسكرية في إحكام قبضتها على الحياة السياسية منذ استقلال الجزائر في العام 1962.

وكذلك في ما يتعلق بحقوق الإنسان، يثمّن الدستور الجديد حرية التعبير والتجمّع. وهو أمر غريب جدّاً نظراً إلى أن النظام يعمد راهناً إلى تكثيف القمع الذي يمارسه بحق المواطنين. فما زال الصحافيون والمدوّنون والناشطون والمواطنون العاديون يُزَجّون في السجون، وتُواصل السلطات شنّ حملات اعتقال تعسّفية وحظر الوصول إلى مواقع إخبارية إلكترونية مثل RadioM، وMaghreb Emergeant، وInterlignes، وTout sur l’Algérie.

ثالثاً، تسبّبَ الاستفتاء باستفحال أزمة الشرعية التي يعاني منها النظام لأنه تجنّبَ إجراء التغييرات السياسية المنهجية التي طالب بها الجزائريون، مثل تعزيز الشفافية في صناعة القرارات وفي الحوكمة. فعلى سبيل المثال، أخفت السلطات أن نتيجة اختبار كوفيد-19 الذي خضع له تبون جاءت إيجابية، ولم يعلم الجزائريون بالأمر إلا من خلال تغريدة نشرها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. يشعر الجزائريون بأن المعنيّين يستمرون في الكذب عليهم، ما يذكّرهم بـالتكتّم الذي طبع التصريحات العلنية عن صحة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. لن يقبل الجزائريون بعد الآن حالة غياب الشفافية والتعاطي معهم بازدراء.

ليس تنظيم السلطات الجزائرية استفتاءً على الدستور بالأمر الجديد. فقد سعى جميع الرؤساء إلى ترك بصمتهم من خلال هذه الاستفتاءات. وهذا ما فعله بوتفليقة أيضاً. لكن الفارق بينه وبين تبون تمثّل في قدرة بوتفليقة على تحسين مستويات معيشة ملايين الجزائريين، فيما أخضع طبقة رجال الأعمال لسلطته. أما تبون فيرزح تحت وطأة الظروف الاقتصادية القاسية في البلاد، والتي تزيد جائحة كوفيد-19 من حدّتها، ما يجعل من الصعب على الرئيس كسب التأييد في أوساط الجزائريين.

والأهم من ذلك، يصعب على تبون إقناع الجزائريين بأنهم على موعد وشيك مع حلول "جزائر جديدة". فالجزائريون لم يعودوا مستعدين للقبول بقادة متقدّمين في السن يستخدمون مظهر الديمقراطية الخادع للبقاء في الحكم. بل هم يريدون نموذجاً قيادياً يستمد شرعيته من الإصلاحات الحقيقية لا من التبعية، وهو ما قد يصعب تحقيقه في السنوات المقبلة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.