المصدر: Getty
مقال

الناجي

يتحدث فيليب لانسون، في مقابلة معه، عن رحلته نحو التعافي بعد الهجوم الذي تعرّضت له "شارلي إيبدو".

 ريان الشواف
نشرت في ٢ ديسمبر ٢٠٢٠

في 7 كانون الثاني/يناير 2015، هاجم جهاديان مكاتب مجلة شارلي إيبدو الفرنسية الساخرة في باريس، والمعروفة على مر تاريخها بنشر رسوم كاريكاتورية استفزازية، ومنها رسوم للنبي محمد. وقد أسفر الهجوم عن مقتل اثنَي عشر شخصاً وإصابة أحد عشر آخرين بجروح. وبعد يومَين على ذلك، أقدم جهاديٌّ ثالث على قتل أربعة أشخاص وإصابة آخرين بجروح في متجر هايبر كاشير للأطعمة اليهودية الحلال في جزء آخر من المدينة. أُصيب فيليب لانسون بجروح بالغة في الاعتداء على شارلي إيبدو التي عمل فيها صحافياً لفترة طويلة، وأمضى نحو عامٍ في المستشفى، حيث قام اختصاصيون بترميم فكّه المحطّم. لاحقاً، وضع لانسون كتاباً عن الهجوم وعن مسيرته الطويلة نحو التعافي. وقد صدرت الترجمة الإنكليزية للكتاب بعنوان Disturbance: Surviving Charlie Hebdo (اضطراب: النجاة من ]هجوم[ شارلي إيبدو)، في الولايات المتحدة العام الماضي عن منشورات Europa Editions.

أجرت "ديوان" مقابلة مع لانسون بين أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر عبر البريد الإلكتروني للحديث عن تجربته. وقد ترجم إدواردو أندريوني، المحرّر في دار Europa Editions، أجوبته من اللغة الفرنسية إلى الإنكليزية.

ريان الشواف: بدلاً من السؤال البديهي عن الأسباب التي دفعتك إلى تأليف كتاب Disturbance، أودّ أن أسألك: كيف كتبته؟ هلاّ تخبرنا عن الجانب النفسي الذي انطوت عليه عملية الكتابة؟ أكان تأليف الكتاب مهمة شاقة أم وسيلة للتنفيس عن المشاعر، أم الأمرَين معاً؟

فيليب لانسون: ألّفتُ الكتاب بين حزيران/يونيو 2017 وكانون الثاني/يناير 2018، أي بعد سنتَين ونصف من وقوع الهجوم الإرهابي، أثناء مكوثي في إنكلترا واسكتلندا وروما. قبل ذلك، عندما كنت لا أزال في المستشفى ومباشرةً بعد خروجي منها، واظبتُ على كتابة مقال أسبوعي في مجلة شارلي إيبدو، لإطلاع القرّاء عما أمرّ به. كانت المقالات حكماً أقل حميمية، وأقل تعبيراً عن المشاعر الباطنية من الكتاب، لكنها شكّلت بلا شك خطوةً أولى نحو الكتاب، وإن لم أعرف آنذاك أنني سأكتب مذكّراتي عن تلك التجربة.

لكن تأليف الكتاب بعد انقضاء عامَين ونصف على الواقعة لم يعد فعلاً علاجياً، ولا خطوة للتعافي النفسي، بل شكّل بكل بساطة عملاً أدبياً أو فعل خلقٍ لم أستطع القيام به إلا بعد أن تعافيت. باختصار: بدأتُ الكتاب عندما توقّفتُ عن رؤية المعالِج النفسي، إذ بتّ أتحلّى بقدر كافٍ من الحرّية والقوة لاستكشاف ما مررتُ به وسرده وكأن شخصاً غيري عاش تلك الأحداث. أخذتُ المسافة اللازمة، وأصبح لديّ التجرّد الضروري للغوص في السرد. لذا، أرى أن الكتاب يخلو من النرجسية. فالشخص الذي كتبه لم يعد هو نفسه الشخص الذي اختبر الأحداث الواردة فيه.

الشواف: صدر الكتاب منذ عامين. هل كنتَ لتؤلّف كتاباً مماثلاً الآن، أم كنتَ لتقوم بالأمور على نحوٍ مختلف؟

لانسون: لا أعرف ما الكتاب الذي كنت لأضعه اليوم. لكن لا شك في أنه سيكون مختلفاً، لأنني أنا نفسي تغيّرتُ كثيراً منذ العام 2017، وتغيّر العالم من حولي. والأهم، تغيّرت ذكرياتي. فالذاكرة في تحوّل مستمر، وكذلك طريقتنا في تفسير ذكرياتنا واسترجاعها. أطرح على نفسي أحياناً السؤال الذي طرحتَه علي للتو. وجوابي الوحيد هو التالي: لو ألّفتُ الكتاب الآن، لكان أقصر حجماً وأكثر ألمعيّة. وكنتُ سأسعى من خلاله إلى إعادة اختراع تجربتي أكثر من إعادة سردها.

الشواف: في مستهل الكتاب، تستذكر زيارةً إلى بغداد عشية حرب العراق في العام 1991، وتتساءل عما كان ليحدث لو بقيت صحافياً يغطّي أخبار العالم العربي بدلاً من أن تصبح ناقداً ثقافياً في فرنسا. هل ما زلت تتابع الشؤون العربية، أقلّه الشؤون المتعلقة ببعض البلدان العربية؟

لانسون: لم أبقَ مواظباً على متابعة أنباء العالم العربي عن كثب. والسبب الأساسي أنه منذ العام 1993، توجّهتْ حياتي، لأسباب شخصية، نحو كوبا وأميركا اللاتينية. وغصتُ عميقاً في اللغة والثقافة الإسبانيتين وما زالتا تستحوذان على اهتمامي. لكنني سافرت إلى الجزائر مرات عدة في إطار عملي مراسلاً، ومنها زيارتي إلى هناك قُبيل الهجوم على شارلي إيبدو. ولطالما كانت أسفاري إلى الجزائر مصدر سرور كبير لي.

أما في ما يتعلق بالعراق، فقد كتبتُ أول مقال أدبي أساسي بعد الهجوم، عن الروائي العراقي علي بدر الذي يعيش في المنفى في بروكسل حيث زرته. كنتُ متعباً جدّاً آنذاك، ولم أكن قد خضعتُ بعد لعملية تركيب طقم أسنان في فكّي السفلي. دعاني علي إلى منزله لتناول العشاء، ومنزله عبارة عن استديو صغير في حي تقطنه الطبقة العاملة. كان قد أعدّ طبق المسكوف للعشاء ]سمك شبوط مشوي مع التوابل[! فذكّرني هذا الطبق، كما حلوى المادلين لـ]لروائي[ بروست، بالمطاعم الصغيرة عند ضفاف نهر دجلة حيث كنت أتناول الطعام في أواخر الثمانينيات. فقد ذهبتُ إلى بغداد للمرة الأولى في العام 1986، حين كنت لا أزال طالباً في الصحافة. لكن المشكلة أنّ الطبق كان يحتوي على عظام سمك علقت في الفتحات في نسيج لثّتي المرمَّم، ما تسبّب لي بالألم والإحراج. وبذلتُ قصارى جهدي كي أتمكّن من التحدث أثناء الأكل، من دون أن أشعر بالألم أو يسيل لعابي كثيراً. وقد أحضر علي، هذا العراقي الأصيل، بعض الجعة، ما أراحني قليلاً، وأكملنا احتساء المشروبات بعد ساعات قليلة في إحدى الحانات. كان علي مسلّياً جدّاً ومراعياً جدّاً، وأعاد إحياء ذكرياتي في بغداد.

الشواف: بدأَت في فرنسا محاكمة العديد من الأشخاص المشتبه بتواطئهم مع منفّذي الهجومَين على مجلّة شارلي إيبدو ومتجر هايبر كاشير. ما هو شعورك حيال ذلك؟ وهل تتابع إجراءات المحاكمة؟

لانسون: قررتُ عدم الإدلاء بشهادتي في المحكمة أو حتى حضور جلساتها، لأسباب شخصية وكذلك بسبب الإرهاق. كتبتُ عن قراري هذا في مجلة شارلي إيبدو. وأحد الأسباب هو أن كتابي حَظِي بنسبة كبيرة من القراءة والتعليقات في فرنسا، لذا لم أجد أي فائدة للمجتمع أو لي شخصياً من أن أكرّر لدقائق معدودة ما استغرقتُ وقتاً طويلاً للتفكير فيه والكتابة عنه.

الشواف: أشرتَ في كتاب Disturbance إلى "مكان وزمان" الهجمات، لكنك لم تحدّد إن كان ذلك حالةً شاذّة أم حالةً طبيعية جديدة في فرنسا. كيف تنظر إلى هذه المسألة اليوم؟

لانسون: تُظهر الأنباء الواردة مؤخراً من مدن نيس وليون وفيينا أن هجمات كانون الثاني/يناير 2015 كانت مجرّد تجلّيات أولى في فرنسا لظاهرة بدأت برأيي في إيران في العام 1979، وتفاقمت مع الفتوى التي صدرت بحق سلمان رشدي، وبلغت ذروتها الأولى في أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 المشؤومة. لا يخفى أن ظاهرة التطرف الإسلامي تتنامى باطّراد في كافة أرجاء العالم تقريباً، وإن اختلفت وتيرتها باختلاف البلدان، وفقاً للظروف المحلية. بطبيعة الحال، تُعتبر فرنسا من الأهداف الأولى لهذا التطرف، بسبب تاريخها الاستعماري ووجود أربعة ملايين مواطن مسلم على أراضيها.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.