المصدر: Getty
مقال

التواطؤ مع المفسدين

يقول ديفيد لينفيلد، في مقابلة معه، إن الجهات المانحة الدولية تصبّ في صالح هيكليات السلطة القائمة في الشرق الأوسط.

نشرت في ٢ فبراير ٢٠٢١

ديفيد لينفيلد باحث زائر في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. هو في إجازة بحثية من وزارة الخارجية الأميركية حيث يشغل منصب مسؤولٍ متمرّس في مكتب الخدمة الخارجية. كتب لينفيلد مؤخرًا مقالًا لمؤسسة كارنيغي بعنوان "الجهات المانحة الدولية متواطئة في لعبة النخب الشرق أوسطية".

أجرت "ديوان" مقابلة معه في منتصف كانون الثاني/يناير لمناقشة مقاله، وللحديث بصورة عامة عن المشاعر المناهضة للنخب التي تسلّلت إلى الاحتجاجات في مختلف أنحاء الشرق الأوسط خلال العام المنصرم، ولا سيما في العراق والأردن ولبنان. الآراء التي أدلى بها لينفيلد تعكس وجهة نظره الخاصة، ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الحكومة الأميركية.

مايكل يونغ: نشرت لك مؤسسة كارنيغي، منذ فترة وجيزة، مقالًا بعنوان "الجهات المانحة الدولية متواطئة في لعبة النخب الشرق أوسطية". ما هي وجهة النظر التي تعرضها في المقال؟

ديفيد لينفيلد: وجهة نظري هي أن الولايات المتحدة وسواها من الجهات المانحة الدولية مارست نفوذًا كبيرًا وخصّصت موارد طائلة من أجل الدفع باتجاه التحرير الاقتصادي في الشرق الأوسط، في حين أنها أبدت تردّدًا في التركيز بالدرجة نفسها على الإصلاحات السياسية. وما أقصده بالإصلاحات السياسية هو تعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد، وتعزيز صلاحيات المسؤولين المنتخَبين. وقد برّر الأفرقاء الدوليون لجوءهم إلى هذه المقاربة عبر الإشارة، من جملة تبريرات أخرى، إلى أن الإصلاحات الاقتصادية تُشكّل وسيلة أفضل لإرساء الاستقرار، وإلى أنها تنطوي على مخاطر أقل مقارنةً مع التغييرات السياسية. ولكنني أرى أن الأحداث الأخيرة في المنطقة تشي بأن هذه السياسات تزيد احتمالات حدوث تغيير عنيف وفجائي بدلًا من خفضها.

عند تطبيق إصلاحات اقتصادية، مثل الخصخصة، في سياق أنظمة سياسية سلطوية، عادةً ما تعود هذه الإصلاحات بالفائدة على هيكليات السلطة القائمة، ما يؤدّي إلى تفاقم اللامساواة الاقتصادية والتشنجات بين المواطنين والدولة. حاليًا، تصنّف قاعدة بيانات اللامساواة العالمية منطقة الشرق الأوسط في المرتبة الأسوأ عالميًا لناحية التفاوت الاجتماعي. فاللامساواة الاقتصادية تراجعت على الصعيد العالمي منذ التسعينيات، ولكنها تحافظ على المستويات نفسها في الشرق الأوسط.

وقد دعمت الجهات المانحة الدولية سياسات تسبّبت، عن غير قصد، باستفحال اللامساواة، فيما أهملت الإصلاحات السياسية، فساهمت بذلك في تغذية مشاعر الإحباط لدى المواطنين المستائين من أوضاعهم الاقتصادية، وتركتهم في الوقت نفسه من دون وسائل مؤسسية سلمية للتعبير عن مظالمهم. وهذا كلّه يقود إلى زعزعة الاستقرار، أي نقيض ما تريده الجهات المانحة.

يونغ: كتبتَ أن "التضامن الناشئ بين مجموعات كانت تتنافس مع بعضها البعض في السابق، والمتجذّر في [اللامساواة الاقتصادية]" هو من سمات السخط المتنامي من النخب في الشرق الأوسط. هل تلمّح إلى أننا نشهد، بحسب المصطلحات الماركسية، ظهور نوعٍ من الوعي الطبقي في بعض البلدان قد يحمل في طياته نبضًا ثوريًا؟

لينفيلد: ركّزت معظم الاحتجاجات في الشرق الأوسط منذ العام 2018 على اللامساواة الاقتصادية والفساد. وفي حين أن التظاهرات السابقة في المنطقة كانت تتألف عادةً من مجموعة إثنية واحدة، سواءً كانت هذه المجموعة تنتمي إلى مذهب ديني معيّن، أو منطقة أو مجموعة قبائل معيّنة، بات المشاركون في التظاهرات مؤخرًا أكثر تنوّعًا في انتماءاتهم.

يبدو أن مشاعر الإحباط المشتركة من اللامساواة دفعت بالأشخاص في المجتمعات ذات الدخل المتدنّي إلى التظاهر دعمًا لقضية مشتركة، وإن بشكلٍ متقطّع ومتردد، في مواجهة ما يعتبرونه نخبةً فاسدة ومنتمية إلى طوائف متعددة خذلتهم. وخير مثال على ذلك ما حدث في العراق والأردن ولبنان.

تُشير بعض الشعارات المستخدَمة في الاحتجاجات الأخيرة في البلدان المذكورة، إلى ظهور وعيٍ طبقي. فحينَ هدّدت نقابة المعلمين الأردنيين بالإضراب في صيف 2020، وُضعت معاناتها في إطار الصراع الطبقي في مواجهة مَن "نهبوا مقدّرات البلاد". ورفعت الاحتجاجات اللبنانية في العام 2019 شعارات من قبيل "يسقط حكم الأزعر". وقال المتظاهرون العراقيون في 2019 و2020 لوسائل الإعلام إن نضالهم هو من أجل استعادة البلاد من "اللصوص".

يونغ: على ضوء تقييمك للأوضاع، ما الدور الذي أدّته خطوط الصدع التقليدية بين شعوب الشرق الأوسط - وأعني بذلك الانقسامات المذهبية أو القبلية أو المناطقية التي أجّجتها الأنظمة للاحتفاظ بالسلطة - في بيئةٍ تصفها بالمتغيِّرة؟

لينفيلد: لا تزال خطوط التصدع التقليدية في مجتمعات الشرق الأوسط حاضرة بقوة. فالتشنجات الطبقية الناشئة لم تحل بصورة كاملة محل الانقسامات على أساس الانتماءات الإثنية والدينية والقبلية، لا بل باتت تترافق معها أكثر من أي وقت مضى. لكن الاتجاهات التي تطرّقتُ إليها آنفًا تشي بأن أهمية الانقسامات الطبقية ستزداد نسبيًا، وستنجح في إعادة رسم معالم التحالفات والانقسامات السياسية القائمة.

إضافةً إلى التظاهرات التي أشرتُ إليها آنفًا، من المؤشرات الأخرى على قوة التضامن الطبقي دراسة أجراها باحثون من جامعة بيتسبرغ والمركز اللبناني للدراسات في العام 2019. وقد توصلت الدراسة التي وزّعت مئات اللبنانيين على مجموعات نقاش مختلفة تتنوّع انتماءاتها المذهبية والطبقية، إلى أن دعم اللبنانيين للسياسة المذهبية يكون أقل على نحوٍ ملحوظ عند اجتماعهم بأشخاص من الطبقة الاجتماعية نفسها.

لا يزال من السابق لأوانه وضع تقييمٍ شامل للمنحى الذي سيسلكه التفاعل بين التشنجات الطبقية الناشئة والانقسامات المجتمعية القائمة منذ أمد بعيد في الشرق الأوسط. ومن الأسباب التي تستدعي الانتظار لوقت أطول ومراقبة ما ستؤول إليه الأوضاع هو أن جائحة كوفيد 19 حوّلت التركيز على نحوٍ كبير من التحديات السياسية والاقتصادية إلى الأزمة الصحية. ولكن نظرًا إلى أن الجائحة فاقمت اللامساواة الاقتصادية، إذ تتحمّل الفئات ذات الدخل المتدنّي الوطأة الأكبر للتداعيات الاقتصادية الناجمة عن الوباء، لن ينقضي وقت طويل على الأرجح قبل خوض النقاشات الطبقية من جديد.

يونغ: إذا كانت المشكلة تتمثل في أن التحرير الاقتصادي عزّز مكانة النخب، ما هي برأيك المقاربة البديلة التي يجب أن تعتمدها الجهات المانحة الغربية؟ وعلامَ تعوِّل للقول إن هذه المقاربة تملك حظوظًا بالنجاح؟

لينفيلد: المقاربة البديلة التي أوصي بها هي أن تُدرج الجهات المانحة الدولية إجراءات لتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد في الجهود القائمة للتحرير الاقتصادي. فهذه الإصلاحات السياسية مؤاتية أيضًا لنمو الأعمال والاقتصاد، وفقًا لما ورد في تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي استشهدتُ بها في مقالي. يُشكّل إصرار صندوق النقد الدولي مؤخرًا على قيام السلطات اللبنانية بمعالجة الفساد قبل حصولها على قروض إضافية، خطوةً إيجابية نحو دعم تحاليله وآرائه بإجراءات عملية وفعّالة.

من الخطوات المفيدة الأخرى الدفع باتجاه تعزيز دور الهيئات التشريعية التي يعاني عدد كبير منها من الضعف في مختلف أنحاء المنطقة كي لا يقتصر عملها على المصادقة تلقائيًا على السياسات، إذ من شأن ذلك أن يُقدّم للجماهير الغاضبة بديلًا عن الاحتجاجات. وإذا استخدمت الجهات المانحة الدولية الزخم نفسه لدعم الحوكمة الجيدة مثلما تفعل في دعم التحرير الاقتصادي، فسوف تعزّز احتمالات تحقيق تقدّم سلمي ومستدام في الشرق الأوسط.

يونغ: ألا تبالغ بعض الشيء في قراءتك لمدى تأثير التضامن المناهض للنخب؟ ففي نهاية المطاف، تُظهر تجربة دول المنطقة أنها ستلجأ إلى العنف من أجل الحفاظ على بقائها، وأن المجتمعات غالبًا ما تلتزم الصمت من جديد. لماذا تعتقد أن ذلك سيتغيّر؟

لينفيلد: لقد برهنت النخب الحاكمة في المنطقة أنها مستعدة للذهاب إلى أقصى الحدود من أجل الحفاظ على مكتسباتها. لا أقول إن النخب ستقرر أن عليها التفكير في الآخرين بعيدًا من الأنانية وتبدأ بتشارُك الموارد مع باقي مكوّنات المجتمع. بل ما أقصده، وهو ما يُفهَم ضمنًا من سؤالك، أن سلوك النخب القائم على تركيز السلطة والموارد في أيدي الفئات النخبوية هو استراتيجية غير مستدامة ستؤدّي في نهاية المطاف إلى تأجيج العنف وإلحاق الضرر بمصالح الجميع، بما في ذلك مصالح النخبة.

تلجأ الأنظمة السلطوية عادةً إلى العنف حين تشعر بأن ما من خيارات أخرى أمامها، لكنها تعوّل في معظم الأحيان على الإكراه والترهيب غير العنيفين من أجل الحفاظ على سيطرتها اليومية. وعندما تتحوّل الأنظمة نحو العنف، يشكّل ذلك مقدّمة لفقدانها السيطرة، أو تكون قد بلغت مرحلةً قريبة من فقدان السيطرة.

لم تنجح الاستراتيجية التي تعتمدها الجهات المانحة الدولية من خلال تركيز نفوذها ومواردها على التحرير الاقتصادي بدلًا من الحوكمة الجيدة في تثبيت دعائم الاستقرار وتوطيد العلاقات بين المواطن والدولة، بل تسبّبت باستفحال التشنجات الطبقية وتفاقم الظروف المؤدّية للاضطرابات.

ليست هذه الاتجاهات متّسقة، فالتظاهرات في المنطقة ضد اللامساواة الاقتصادية والفساد شهدت مدًّا وجزرًا. ولا تزال النخب الحاكمة مصمّمة على القيام بكل ما في وسعها من أجل الالتفاف على التحديات الأخيرة بما يصب في مصلحتها الخاصة. هذا فضلًا عن أن التشنجات المجتمعية القديمة القائمة على المذهب والمنطقة والقبيلة لا تزال تعتمل وتبقى عرضة للاستغلال من النخب. ولكن الاتجاه الإجمالي للمنطقة لا يزال نحو التحرير الاقتصادي في خضم ترسيخ النزعة السلطوية. وما دام الوضع على هذه الحال، فسيتعزز التضامن ضد النخب على الأرجح. وتساهم الجهات المانحة الدولية، عن غير قصد، في تأجيج هذه التشنجات المتنامية بين المواطن والدولة، فيما كان يمكنها الدفع باتجاه تغييرٍ أكثر ديمومة يضفي على المنطقة قدرًا أكبر من الاستقرار والازدهار اللذين يشملان الجميع.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.