دايفيد شوتر باحث مستقل عمل لمدة ثلاثين عامًا مسؤولًا حكوميًا مدنيًا في إصلاح قطاع الأمن وإدارة الدفاع. وهو مؤلّف كتاب "حوكمة وإدارة قطاع الأمن" (المترجم من الإنكليزية Governing and Managing the Defence Sector)، الذي يتناول أُسس صياغة السياسات الدفاعية والأمنية وتنفيذها وتنظيمها من منظور عملي. أجرت "ديوان" مقابلة مع شوتر في منتصف كانون الثاني/يناير بمناسبة صدور النسخة العربية من الكتاب في 8 شباط/فبراير، ويمكن قراءتها هنا.
نيثان تورونتو: ما الذي دفعك إلى تأليف كتاب "حوكمة وإدارة قطاع الأمن"؟ وما الحاجة التي يلبّيها الكتاب؟
دايفيد شوتر: وضعتُ هذا الكتاب، في الأساس، لأنه طُلِب مني ذلك. عملتُ في الحكومة البريطانية، ثم في الحكومة الفرنسية، لمدّة تفوق ثلاثين عامًا في منصب مسؤول دفاعي مدني. وخلال تلك المرحلة، لا بل أيضًا بعد تقاعدي، وُجِّهت إليّ دعوات عدة لإلقاء محاضرات وللتدريس في بلدان مختلفة، تارةً في إطار رسمي وطورًا غير رسمي من خلال الجلوس مع وزراء أو جنرالات، والحديث عن بعض المشكلات التي تواجههم. وكانت لي محطات كثيرة مماثلة في مختلف أنحاء العالم، ولا سيما خارج أوروبا، وبصورة خاصة في أفريقيا وآسيا، وكذلك في العالم العربي في الأعوام الأخيرة، وتحديدًا في بلدان مثل الجزائر ولبنان والسودان.
وقد لمستُ أن الأسئلة نفسها تُطرَح مرارًا وتكرارًا، وبعد انقضاء سنوات عدة، بدأ الأشخاص يسألونني "هل ما تقوله مدوَّن كتابيًا؟ ما تقوله مثير جدًّا للاهتمام، لكن هل يمكننا قراءته في مكان ما؟" وهكذا تلقّيتُ طلبات لكتابة مقالات، ثم ألّفتُ كتابًا صغيرًا قبل نحو عشرين عامًا، ومؤخرًا وضعتُ هذا الكتاب الذي هو بمثابة محاولة منّي لتدوين ملخّص أو لمحة عامة عن الأسئلة العملية التي تلقّيتُها على مدى زهاء 25 عامًا، والإجابات العملية التي حاولت أن أقدّمها في عدد كبير من البلدان حول العالم.
تورونتو: هل الهدف من الكتاب أن يشكّل دليلًا حول كيفية تحقيق الحوكمة الديمقراطية للقوات المسلحة؟
شوتر: لا يرمي الكتاب إلى تقديم مجموعة من التوجيهات، ولن تعثروا بين صفحاته على قائمة عن "الممارسات الفضلى"، أو عن الإجراءات التي ينبغي اتّخاذها أو تلك التي ينبغي تجنّبها. ولا يُملي الكتاب بأي شكل معايير معيّنة يجب اتّباعها، ولا يطرح أي فرضيات عن المنظومة السياسية التي يُدار فيها القطاع الدفاعي، ولا عن تاريخ أو ثقافة أو أصول القوات العسكرية التي يتولّى هذا القطاع إدارتها. هذا كتابٌ بعيدٌ عن الحتميات، وليس كتيّب تعليمات.
الكتاب هو بصورة أساسية مجموعة من النقاشات البراغماتية عن أمورٍ نجحت إلى حد كبير في أجزاء مختلفة من العالم، وأمور أخرى ربما لم تنجح بالقدر نفسه، مع مراعاة السياقات الثقافية والتاريخية والسياسية الشديدة الاختلاف. وثمة تجارب كثيرة حول العالم يُستلهَم منها. لطالما قلتُ إن البريطانيين مثلًا لا يُصيبون في مسائل كثيرة، ولكنهم يرتكبون الأخطاء منذ 350 عامًا، ونأمل بأنهم يتعلّمون منها أيضًا.
الهدف من الكتاب هو عرض تجارب وخيارات مستمدّة من مختلف أنحاء العالم، إذ لطالما قاومتُ المحاولات الرامية إلى حل مشكلات الآخرين بالنيابة عنهم. لا أملك الإجابات الشافية، لكن لديّ بعض التوجيهات العملية التي تشير إلى أن أمرًا ما قد يتكلّل بالنجاح في حين أن أمرًا آخر قد لا ينجح بالدرجة نفسها، نظرًا إلى مدى الاختلاف في إدارة القطاع الدفاعي وحوكمته حول العالم. وإن دلّ مفهوم العلاقات المدنية العسكرية على شيء فهو يدلّ على طريقة اندماج القطاع الدفاعي والجيش في الدولة ككل، وهذا ما يتناوله الكتاب بطريقة عملية تمامًا، من دون أي افتراضات مسبقة على الإطلاق.
يتحدّث الكتاب عن "النموذج المتقدّم"، كما أسميتُه مع اللواء الركن الأردني المتقاعد محمد فرغل في الدليل البحثي الصادر في عام 2018 عن برنامج العلاقات المدنية العسكرية في الدول العربية. فالقطاعات الأمنية والدفاعية تشقّ طريقها تاريخيًا نحو هذا النموذج وتعتمده، أو تسير في هذا الاتجاه. وهذا نموذج عملي تمامًا. مع مرور الوقت، تتطوّر القطاعات الدفاعية عادةً بطريقة معيّنة، والكتاب يتمحور حول هذا النموذج، بقدر ما يمكن الحديث عن نموذج، مع الإشارة طبعًا إلى أن هذا الأمر يختلف اختلافًا شديدًا باختلاف السياقات التاريخية والسياسية.
تورونتو: إن لم تكن الغاية من الكتاب تحديد إجراءات معيارية، فماذا يجب أن يكون الهدف من حوكمة القطاعات الدفاعية؟ ولماذا علينا أن نكترث لهيكلية العلاقات المدنية العسكرية؟
شوتر: قلتُ قبل قليل إن المقاربة براغماتية الطابع، وإذا سلّمنا بأنها تستند إلى نموذج ما، فهو ما أسميته مع اللواء الركن فرغل "النموذج المتقدّم"، أي النموذج الذي تشقّ معظم البلدان طريقها إليه، عمليًا، خلال فترة زمنية معيّنة. قد لا يكون واضحًا لماذا يعاني العسكريون تحديدًا هذه المشكلة بالذات، ولماذا علينا حتى الحديث عن هذا "النموذج المتقدّم"، ولكنه يتأتى، في نهاية المطاف، عن واقع أن جميع الحضارات التي عرفها العالم كان جيشها إلى حدٍّ بعيد عبارة عن جهاز حرس شخصي موسَّع للملك. فعلى سبيل المثال، كانت وظيفة الجيش في مصر قبل 5000 عام تتمثّل في إبقاء الملك على العرش وإبقاء النظام في السلطة. وينطبق ذلك على تجارب جميع الدول.
الفكرة المهمة في هذا الصدد هي التطبيع، أي أن تصبح الوظيفة الدفاعية، التي تُعتبَر خاصة جدًّا وبغاية الصعوبة، جزءًا طبيعيًا من عملية إدارة الدولة، تمامًا مثل وظائف الدولة الأخرى، كتوفير الرعاية الصحية أو التعليم. ما من حل سحري في هذا الإطار، ويستغرق الأمر وقتًا، ولكن الهدف هو أن يصبح الدفاع وظيفة طبيعية، وأن يجري التعامل معه داخل الحكومة مثلما يجري التعامل مع جوانب الحكم أخرى.
لنتوقّف قليلًا عند النموذج. تحدّثتُ عن وزارة الصحة أو وزارة التربية. يحدّد النموذج هنا وجود مستشارين فنيين لدى الحكومة، وكذلك أشخاص على الأرض يعملون على إنجاز الأمور، أي مدرِّسين أو أطباء أو ما شابه. يؤدّي العسكريون في منظومة متقدّمة وطبيعية هذا الدور بصورة أساسية، أي يقدّمون المشورة للحكومة، ويُحوِّلون أيضًا السياسة الحكومية العامة إلى تحرّك حقيقي على الأرض.
ولكنهم لا يتولّون إدارة تلك الوظيفة. فالأطباء لا يديرون وزارة الصحة، والمدرِّسون لا يديرون وزارة التربية. وقياسًا على ذلك، لا يدير العسكريون وزارة الدفاع. من الطبيعي تمامًا، مثلما هو الحال في ميادين الحكم الأخرى، أن يتولّى وزير مدني إدارة وزارة الدفاع. وأعتقد أن هناك مهمّات كثيرة على الوزارة القيام بها، وأن العسكريين ليسوا الأمثل لأدائها. يُقدّم هذا المثال صورةً عن وظيفة دفاعية متقدّمة وطبيعية تعمل إلى حدٍّ كبير كأي جزء آخر في الحكومة.
تورونتو: تعلم أن برنامج العلاقات المدنية العسكرية في الدول العربية يسعى إلى تعزيز قدرة المدنيين على المشاركة في الشؤون الدفاعية. أنت شخص مدني تتمتع بخبرة مهنية تبلغ ثلاثين عامًا في القطاع الدفاعي. أيّ موقع يشغله المدنيون في هذا المجال برأيك؟
شوتر: النقطة الأولى التي يجب الإشارة إليها هي أن الضباط العسكريين أنفسهم يقرّون بوجود أدوار كثيرة في المجال الدفاعي ليسوا بالضرورة الأنسب للاضطلاع بها. إن القطاع الدفاعي لا يقتصر فقط على العسكريين. فالضباط العسكريون الذين يلتحقون بالجيش لا يفعلون ذلك عمومًا لإدارة الشؤون المالية مثلًا. ومَن ينضمون إلى سلاح الجو لا يفعلون ذلك في الأغلب لكتابة رسائل موجَّهة إلى البرلمان. بعبارة أخرى، يضم المجال الدفاعي مجموعة كبيرة من الوظائف تُعتبَر أنسب للمدنيين. ويترافق ذلك بالطبع مع شرط أن المدنيين لن يحاولوا تأدية وظيفة العسكريين، وأن العسكريين لن يحاولوا القيام بوظيفة المدنيين.
يحتاج العديد من المجالات إلى نوع من الخبرات مختلف عن تلك التي يملكها العسكريون. وتضم وزارات وأجهزة أخرى في الحكومة، مثل وزارة المال ووزارة الداخلية والشرطة وأجهزة الاستخبارات ووزارة الخارجية، أنواعًا شتّى من الموظفين المدنيين المعنيين أيضًا بالشؤون الدفاعية. ويشكّل العسكريون جزءًا من هذه الهيكلية العامة.
هنا يأتي دور المدنيين، فهم يعملون في بيئة دفاعية جنبًا إلى جنب مع العسكريين. لقد عملتُ مع العسكريين، وعملتُ لحسابهم، واستعنتُ بهم في عملي، ويمكن أن يتكلّل ذلك بنجاح كبير.
أما في ما يتعلق بالمجتمع المدني، فلا شك أن للجميع الحق في تبنّي رأي معيّن حيال الشؤون الدفاعية، وفي التعبير عن هذا الرأي. ولكن إذا أراد أحدهم الذهاب أبعد من ذلك، أي إذا أراد صحافيون أو باحثون أكاديميون أو منظمات غير حكومية مثلًا الانخراط في العمل مع العسكريين، فعليهم أن يحذوا حذوي كي يأخذهم العسكريون على محمل الجد. عليهم أن يقتدوا بما يجب أن يفعله أي موظف مدني يعمل مع العسكريين، أي أن يصبحوا مُلمّين في الشؤون الدفاعية. ليس المطلوب أن يغدوا جنودًا، بل أن يتمكّنوا من تبادل أحاديث ذكية مع العسكريين حول مواضيع عملهم.
لقد حضرتُ دروسًا في الكليات العسكرية، وصعدت على متن طائرات العسكريين، وأبحرت في سفنهم، لذا يمكنني أن أتبادل حديثًا ذكيًا معهم. صحيحٌ أيضًا أنني صاحب خبرة لا يمتكلونها، وفي ضوء تجربتي، أدرك أن العسكريين يولون احترامًا وتقديرًا للخبرة. إذا كنت تملك خبرة، سوف يأخذك الضباط العسكريون على محمل الجد، ويرحّبون بك.
نظريًا أو عمليًا، ما من سببٍ يحول دون مشاركة المدنيين في الشؤون الدفاعية، داخل المنظومة وخارجها. لكن الشرط الأساسي أن يكونوا قادرين على إثبات أنفسهم، وأن يكون لديهم ما يُقدّمونه، والأهم من ذلك، يجب أن يعرفوا جيّدًا عمّا يتكلمون.