المصدر: Getty
مقال

بحّارة بلا بحر

يعاني السائقون الأردنيون بين الرمثا ودرعا الأمرّين بسبب إغلاق الحدود مع سورية، لكن الجهود المبذولة لاستئناف العلاقات التجارية غير الرسمية مستمرة.

 أرميناك توكماجيان و ليث قرباع
نشرت في ٢٩ أبريل ٢٠٢١

خلال العقد الماضي، لم تتسبب الحرب في سورية بإعادة رسم معالم المناطق الطرفية الحدودية للبلاد وحسب بل بلغت حدود الدول المجاورة لها أيضًا. وكانت لها تأثيرات بالغة للغاية في مدينة الرمثا، الواقعة شمال الأردن على بُعد 10 كيلومترات فقط من مدينة درعا الجنوبية السورية.

قبل العام 2011، كانت تربط الرمثا ودرعا علاقات تجارية. فدرعا كانت تزوّد الرمثا بالسلع، التي بدورها أصبحت مركزًا لبيع المنتجات السورية في شمال الأردن. وبعد مرور عقد من الزمن، لدى كلّ من المدينتين حكايتها الخاصة. كانت درعا شاهدةً على تدمير الحرب السورية الحياة الاقتصادية من المدينة، بينما أدّى إغلاق الحدود مع سورية أو إعادة فتحها بشكل جزئي إلى إنهاك الرمثا اقتصاديًا، التي تعتمد إلى حدّ كبير على التجارة عبر الحدود.

وينشط في هذه التجارة العابرة للحدود السائقون الأردنيون، المعروفون بـ"البحّارة"، الذين يعملون بين الرمثا ودرعا،  ويجسّدون هشاشة المجتمعات الحدودية، ومتانة العلاقات العابرة للحدود. وتُعتبر مهنة البحّار ثقافة في حدّ ذاتها، إذ تتطلّب أساليب وسلوكيات يتمّ توارثها أبًا عن جد، من بينها الشجاعة وسرعة البديهة ومهارة التنقل عبر المعابر الحدودية والتعامل مع السلطات الحدودية.

استندت تجارة البحّارة العابرة للحدود على ظروف السوق والعمل والإنتاج المختلفة في سورية والأردن. وكانت معظم السلع في سورية أرخص ثمنًا وتحظى بطلب مرتفع في الأردن، ما منح البحارة فرصة مثالية لتحقيق الربح من خلال شراء المنتجات في سورية وبيعها من جديد في الأردن.

في الأيام العادية، لا تستغرق الرحلة إلى درعا ذهابًا وإيابًا سوى بضع ساعات. فبعد مسافة قليلة من معبر الرمثا-درعا، يجد البحارة الأردنيون أنفسهم يتسوقون في استراحات درعا العديدة، التي تعرض مختلف السلع التي يطلبها الأردنيون. وبينما نادرًا ما يضطر البحّارة للدخول إلى العمق السوري، كانت البضائع تُنقل من المناطق الداخلية السورية إلى درعا قبل نقلها إلى الأردن.

وشرح أحد التجار الأردنيين الوضع قائلًا: "قبل العام 2011، كنتُ أذهب إلى حلب لشراء السلع. وبعد انتقاء ما أريده، أطلُب من المنتِج شحنها إلى استراحات درعا". إذًا، لم تكن درعا مجرد سوق، بل كانت أيضًا "ميناء" للتصدير إلى الأردن بفضل البحارة. لمَ اللجوء إلى الشحن مباشرةً من حلب إلى الأردن بينما يمكن تفويض المهمة إلى البحّارة حيث تكون عملية الشحن أسرع، والأهم أقل كلفةً؟

وتشير البيانات الأردنية الرسمية إلى أنه قبل العام 2011، وصل عدد السيارات المرخَّصة للعمل بين البلدين إلى نحو 800 سيارة، معظهم من الرمثا. وكان البحارة يقودون سياراتهم المرخّصة بشكل قانوني لنقل الركاب والمسافرين بين البلدين من مختلف المدن الأردنية. ولكن في الواقع العملي لم تكن كل أعمالهم قانونية بالمعنى الكامل، حيث أن الربح الحقيقي كان يتأتى من نقل السلع من درعا في طريق عودتهم. وكان البعض يفضّل عدم المخاطرة، ونقل كميات صغيرة من المواد مثل الحلويات أو السجائر أو مواد التنظيف، والتي كانت سلطات تغضّ الطرف عنها وتسمح بمرورها أحيانًا كثيرة.

وباتت هذه التجارة البسيطة تدرّ أرباحًا أكبر حين أصبح البحارة ينقلون كميات أكبر من المسموح من دون دفع أي رسوم جمركية أو مقابل رسوم منخفضة. وأدّت هذه الممارسة إلى نشوء اقتصاد غير رسمي ملحوظ قبل العام 2011. وعلى الرغم من أنها كبّدت الدولة خسائر من حيث عائدات الاستيراد، تمّ التسامح معها لأنها حرّكت النشاط الاقتصادي في الرمثا. وكان البحارة يفتخرون بكسب دخل من دون الاعتماد على القطاع العام المتضخم في الأردن، ويدخلون في الوقت نفسه سلعًا رخيصة إلى السوق. علاوةً على ذلك، جعلوا من الرمثا مركزًا لإعادة توزيع السلع السورية في جميع أنحاء الأراضي الأردنية. فعلى سبيل المثال، كانت بلدة الأزرق الواقعة على مقربة من الحدود الأردنية السعودية إحدى هذه الوجهات. كانت الاستراحات في هذه البلدة تعرض على المسافرين إلى السعودية الأجبان والحلويات السورية من بين مجموعة من السلع الأخرى.

وأدّت عقود من التجارة عبر الحدود إلى بناء علاقات تجارية متينة، تحوّلت في بعض الأحيان إلى علاقات صداقة، حتى توارثها البحارة الشباب. وعلى الرغم من الحرب التي اندلعت والدمار الذي لحق بدرعا إضافةً إلى إغلاق الحدود السورية الأردنية أو فرض قيود على حركة عبورها، تمكّنت هذه العلاقات من الصمود وسمحت للسائقين بالتأقلم مع الظروف الجديدة. فعلى سبيل المثال، بعد أن أصبح السفر إلى درعا يشكّل خطرًا على البحارة في العام 2011، عمد التجار السوريون إلى إحضار السلع التي يطلبها الأردنيون إلى داخل المعبر. وبهذه الطريقة، تمّكن البحارة الأردنيون من استلام بضائعهم ونقلها من دون الحاجة إلى المغامرة بالسفر إلى درعا.

لكن للصمود والإبداع حدود أيضًا. ففي العام 2013، بات من الصعب جدًا، أو حتى مستحيلًا، على الأردنيين عبور الحدود إلى سورية، واستمر الوضع على هذه الحالة طيلة خمس سنوات حتى أعيد فتح الحدود في أواخر العام 2018. وخلال هذه الفترة، لحق بالجنوب السوري، ولا سيما بمحافظة درعا، دمار مادي واقتصادي واجتماعي هائل، فضلًا عن نزوح رؤوس الأموال والموارد البشرية. وبعد ذلك، لم تعد سورية كسابق عهدها. لكن عندما أعيد فتح الحدود عند معبر نصيب-جابر (بقي معبر درعا-الرمثا مغلقًا)، استؤنفت الحركة التجارية وتجدّدت العلاقات القديمة. وأشار أحد السائقين إلى أن "استراحات درعا انتقلت إلى مدينة نصيب. وكان أول التجار الذين رحبّوا بنا هناك في العام 2018 من درعا. حتى إننا استطعنا أخذ السلع بالدين، تمامًا كالأيام الخوالي. ومع مرور الوقت، استطعنا إقامة علاقات جديدة".

على الرغم من صمود بعض العلاقات القديمة، حصل تغيّر جذري في البيئة الاقتصادية والتجارية. لا تزال السلع تأتي من مناطق مختلفة من سورية، إلا أن الكميات باتت أصغر وفترات التأخير أطول. لم يكن الدخول إلى سورية بهذه الصعوبة، لكن العودة منها باتت كابوسًا. وقد أخبرنا أحد البحارة أن سلطة الدولة غائبة تمامًا  في معبر نصيب، في ظل انشار الفساد وغياب القانون. بات المعبر أحد الأماكن القليلة الناشطة اقتصاديًا في سورية والتي تسمح للميليشيات الموالية للنظام بجني الأموال. ووصف أحد البحارة الوضع الجديد قائلًا: "قبل العام 2011، كنا نعطي مسؤولي الجمارك بقشيشًا صغيرًا، لكن الذين يسيطرون على المعبر الآن يريدون حصة من دخلنا".

على الجانب الأردني، كانت الأمور سلسة في البداية. ولكن أُجبرت السلطات الأردنية على اتخاذ تدابير أكثر صرامة على نحو متزايد، وذلك بسبب جملة من العوامل. في هذا الإطار، كان الأردن يخضع لضغوط من الولايات المتحدة لعدم فتح العلاقات التجارية مع سورية. بالإضافة إلى ذلك، بات يواجه تحديات أمنية مثل تهريب المخدرات والأسلحة، ما أرغمه على اتخاذ تدابير مشدّدة على الحدود. على المستوى التشغيلي، انخفض عدد الموظفين وعدد ساعات عملهم وحتى عدد المسارب في المعبر مقارنةً مع ما كان عليه الأمر في السابق. كلّ ذلك أرغم الأردن على تغيير سياساته المتعلقة بالحدود، ما وضع المزيد من العقبات أمام البحارة. وبغضّ النظر عما إذا كان ذلك مقصودًا أم لا، فقد ألحق الضرر بتجارة البحارة فباتت بالكاد تدّر الربح.

وكانت النتيجة تراجع النشاط الاقتصادي مرة أخرى في الرمثا، ما أدّى في نهاية المطاف إلى اندلاع اضطرابات اجتماعية غير مسبوقة في آب/أغسطس 2019، أي بعد أقل من عام واحد على إعادة فتح معبر نصيب. أضف إلى ذلك تفشّي فيروس كورونا في المنطقة في آذار/مارس 2020، ما أرغم الأردن على إغلاق الحدود مرة أخرى، من دون حدوث اعتراض شعبي. ومنذ ذلك الحين، انتظر البحّارة، وسكان الرمثا أيضًا، بفارغ الصبر استئناف النشاط التجاري مع سورية.

واليوم، يجد بحارة الرمثا أنفسهم من دون بحر. لكن ما يمكن استخلاصه من قصتهم هو قدرتهم المُلفتة على انتهاز أي فرصة من أجل إعادة إحياء العلاقات القديمة، وإقامة علاقات جديدة، والاستفادة من الاختلافات في السوق بين سورية والأردن.

تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK Aid التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.