بعد أن عرضت تركيا بدايةً أن تتولّى حماية أمن مطار كابل وتشغيله، تسعى راهنًا إلى لعب دور في أفغانستان بعد الانتصار الكاسح الذي حققته حركة طالبان، وعمليات الإجلاء الضخمة للمدنيين والعسكريين التي انتهت في 30 آب/أغسطس. لكن من غير الواضح بعد ما ستتمكن أنقرة من تحقيقه في البلاد وبأي ثمن.
أطلقت تركيا، على هامش القمة التي عقدها قادة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل في حزيران/يونيو الفائت، فكرة السيطرة على مطار كابل بعد انسحاب القوات الأميركية وسائر قوات الناتو، من أجل تأمين الدخول إلى العاصمة الأفغانية. هذا العرض الطموح مدفوعٌ لا شك بحاجة أنقرة إلى ترميم علاقتها مع إدارة بايدن، والتعويض، جزئيًا على الأقل، عن التداعيات الفادحة الناجمة عن شرائها لمنظومة الدفاع الصاروخية الروسية من طراز إس-400.
بغضّ النظر عن جرأة الاقتراح التركي وأهميته للإدارة الأميركية آنذاك، لم تعد هذه الفكرة واردة بعد الآن بصورتها الأولية، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الانتصار العسكري والسياسي الكاسح الذي حصدته طالبان لا يشي بأن لديها أي حافز على التفاوض بشأن التوصل إلى تسوية مع دول الناتو. وعلى الرغم من العلاقات القائمة أصلًا بين طالبان وتركيا، ومن رفض أنقرة الاضطلاع بمهام قتالية في إطار عمليات قوات الناتو في أفغانستان خلال السنوات العشرين الماضية، تعتبر طالبان أن القوات التركية جزءٌ من قوات الناتو، ولن تقبل ببقاء جنودها وعتادهم في كابل، حتى لو لحراسة المطار فحسب.
على الصعيد السياسي، تغيّرت المعادلة على ضوء بسط طالبان سيادتها وسعيها إلى الانتقام من الولايات المتحدة والناتو. فقد أعلنت الحركة عن حكومتها الجديدة في 7 أيلول/سبتمبر وأشارت إلى إمساكها زمام الأمور بالكامل في أفغانستان، ولا سيما على المستوى الأمني. ومن المتوقع أن تسعى طالبان في الفترة المقبلة إلى تطبيق هذه المعطيات الجديدة على الأرض، ولا سيما في مطار كابل. يُمثّل المطار نافذة جيّدة على سيادة طالبان، إذ تستعرض هناك نخبة قواتها المدجّجة بالأسلحة والمعدات الأميركية الصنع، وتسيطر على كافة أنشطة وسائل الإعلام على المستوى الوطني، وتحدّد الطائرات التي يمكن أن تقلع أو أن تهبط.
في خضم هذا الواقع السياسي الجديد، وبعد الدور البارز الذي أدّته قطر في التوصل إلى الاتفاقية التي أُبرمت بين الولايات المتحدة وطالبان، أصبحت القيادة القطرية طرفًا أساسيًا في المحادثات مع طالبان، وهي تحصد راهنًا منافع هذا الدور المتنامي. وقد تجلّى ذلك بأوضح صوره حين سيّرت الخطوط الجوية القطرية أول رحلة دولية إلى كابل في 9 أيلول/سبتمبر حملت على متنها 113 شخصًا تم إجلاؤهم من أفغانستان باتجاه الدوحة. وقد وصلت هذه الطائرة إلى كابل محمَّلة بالمساعدات الإنسانية. ثم نُظّمت رحلة ثانية في 10 أيلول/سبتمبر.
سيكون واهمًا من يتوقع أن تؤدي تركيا أكثر من مجرّد مهام تقنية وفنية في عمليات مطار كابل. فالوفد القطري الذي يعمل على تحقيق الشروط اللازمة لإعادة فتح المطار أمام الرحلات الجوية الدولية يضم خبراء تقنيين أتراك. وتُعتبر هذه المهام بالغة التعقيد، إذ لا تقتصر على المتطلبات التقنية الاعتيادية وحسب، كالعمليات المتعلقة بالرادار وبرج المراقبة، والاهتمام بالطائرات، وإتمام الإجراءات الخاصة بالركاب والشحن، وتعزيز مهام فرق الإطفاء والإنقاذ وغيرها، بل تشمل أيضًا الضمانات الأمنية التي ستحتاج سلطات طالبان إلى تقديمها والتي تقضي بعدم شنّ هجمات تستهدف الطائرات ولا سيما من البر. وستضع الحكومات وشركات الطيران الغربية وشركات التأمين التي تعمل معها شروطًا صارمة في هذا الشأن.
لا تزال المفاوضات متواصلة حتى تاريخ كتابة هذا المقال. من شأن التوصّل إلى اتفاق قابل للتنفيذ لتشغيل مطار كابل بين أفغانستان وتركيا وقطر أن يصبّ في مصلحة كلٍّ من هذه الأطراف الثلاثة. وسيسهم أيضًا في تلبية حاجات الشعب الأفغاني من جهة عبر السماح بوصول المساعدات الإنسانية، وحاجات الدول الغربية من جهة أخرى لأنه سيمكّنها من إجلاء رعاياها من البلاد. وبهذه الخطوة، تقدّم قطر وتركيا خدمة إلى المجتمع الدولي.
ثمّة أسباب ثلاثة تدفع تركيا إلى المشاركة في تشغيل مطار كابل. أولًا، إن التأثير في القضايا الملحة والمهمة للقوى الكبرى سيحسّن سمعة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فبعد الخطوات التخريبية التي اتّخذتها تركيا في العام 2020، على الحدود البرية مع اليونان وفي ليبيا وشرق المتوسط، من مصلحتها الآن اتّخاذ موقف أكثر تعاونًا يليق بقوة متوسطة. وهذا يتماشى أيضًا مع رغبتها في اعتماد سياسة خارجية أكثر استقلالية عن الغرب.
ثانيًا، سيشكّل إحراز تقدّم في كابل جزءًا من توجّه أوسع للسياسة الخارجية، على ضوء أحداث العام 2020. فتركيا تسعى إلى تحقيق المصالحة مع كلٍّ من أرمينيا ومصر واليونان والإمارات العربية المتحدة، وإلى إعادة فتح الحوار مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي. صحيحٌ أن هذه المبادرات قد لا تفضي إلى نتائج سريعة وإيجابية، لكنها مهمة لتحسين صورة أردوغان في الداخل التركي.
ثالثاً، من شأن تحقيق النجاح في الخارج أن يمنح أردوغان الزخم اللازم على الساحة السياسية المحلية. فالاقتصاد التركي في حالة يُرثى لها، ولم يعد من الممكن إخفاء مشاكله الضخمة من خلال عمليات المحاسبة الإبداعية والسرديات المبتكرة. وفيما لا تبدو الطريق سهلةً نحو إعادة انتخاب أردوغان أو فوز التحالف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية بغالبية برلمانية يُعتد بها، قد يسهم تحقيق النجاح على صعيد السياسة الخارجية في قلب هذه الموازين.
مع ذلك، لا ينبغي المبالغة في تقدير أهمية الجهود القطرية-التركية لتشغيل مطار كابل. وإذا ما افترضنا أن هذا الأمر مستدام من الناحية التقنية على المديَين المتوسط والطويل، وأن الظروف الأمنية مناسبة لاستئناف الرحلات الجوية التجارية وتلك الأدنى كلفة، لن يُحدث تدخّل الدوحة وأنقرة أي تغيير يُذكر في المشهد السياسي المحلي في أفغانستان.
يُعدّ انتصار طالبان بمثابة انتقام من الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، وعودة إلى تكريس الشريعة الإسلامية (وبالتالي تراجع دور المرأة ومنظمات المجتمع المدني والنظام التعليمي)، وتأكيد سيطرتها الكاملة على الشؤون الأمنية والقرارات السياسية. لذا، غالب الظن أن يقتصر أي ترتيب بشأن مطار كابل على المسائل التقنية البحتة.
لكن من غير المعروف بعد ما إذا سترغب طالبان، من خلال الموافقة على إبرام اتفاقية لتشغيل المطار وتطبيقها، في انتزاع تنازلات سياسية من تركيا ووضعها في مواجهة مع حلف الناتو.