إحدى الخلاصات التي يمكن استنتاجها من الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق، التي أُجريت في 10 تشرين الأول/أكتوبر، هي أن نتائج التصويت مهمة على الرغم من أنها لا تحدد لوحدها مَن سيحكم البلاد.
كان الخبر الأساسي في هذا الإطار تدنّي نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع، التي أشارت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق إلى أنها بلغت 41 في المئة، مستخدِمةً في تقديرها هذا معادلة حسابية مشكوكًا فيها رفضتها معظم منظمات الرقابة الدولية والمحلية. وقد ذكر تحالفٌ من هذه المنظمات أن نسبة الاقتراع بلغت 38 في المئة فقط بحسب تقديراته. بغض النظر عن الرقم الأكثر دقة بين الاثنَين، أتى حجم المشاركة منسجمًا مع النمط الذي تشهده البلاد منذ العام 2018، ما يُظهر أن العراقيين بمعظمهم مستاؤون من المنظومة السياسية، وليس لديهم أمل حقيقي بأن الانتخابات ستحدث فرقًا.
كانت الغاية من الانتخابات، التي اعتُبِرت وسيلة للخروج من الأزمة التي أعقبت الاحتجاجات الكبرى في العام 2019، منح النظام الشرعية من جديد، وإفساح المجال أمام توافر شروط أفضل للمنافسة الحرة والنزيهة. ولكن لم تُستوفَ هذه الشروط على نحوٍ كامل. فقد استمرت المجموعات المسلّحة في اغتيال النشطاء وترهيبهم، في ظل غياب أي قواعد عملية لكبح هذه المجموعات، ولا لمراقبة تمويل الأحزاب السياسية الكبرى. وقد دفع هذا الواقع الكثير من الأحزاب الجديدة المرتبطة بالحراك الاحتجاجي إلى مقاطعة الانتخابات.
مع ذلك، سُجِّل تحسّنٌ كبير في الإجراءات الآيلة إلى منع التزوير والمخالفات الانتخابية. هذا فضلًا عن أن النظام الانتخابي الجديد الذي يستند إلى الدوائر المتعددة في كل محافظة وإلى الصوت الواحد لمرشّح واحد، ولّد وضعًا أكثر التباسًا للأحزاب السياسية. وهكذا، بات من الصعب عليها أن تكتفي بتكرار سلوكها الانتخابي السابق حين كانت تستخدم قوائم المرشحين.
وقد عكست هذه النتائج مزيجًا من العوامل. فمن جهة، بدا أن الأحزاب الكبرى مثل تلك التابعة لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، والرئيس السابق لإقليم كردستان مسعود بارزاني، هي الرابحة الأساسية. ومن جهة أخرى، أتيح مجال أكبر أمام المستقلين والوجوه الجديدة للفوز بعدد أكبر من المقاعد في الانتخابات الأخيرة مقارنةً مع الجولات الانتخابية السابقة؛ ولو سُجِّلت نسبة اقتراع أعلى، لفازوا في الواقع بحصة أكبر من المقاعد.
على سبيل المثال، يُتوقَّع أن يفوز حزب "امتداد" المرتبط بالحراك الاحتجاجي، بتسعة مقاعد على الأقل، متخطّيًا بذلك العدد الذي حصل عليه التحالف بين الشخصيتين السياسيتين المخضرمتين، عمار الحكيم، رئيس "تحالف قوى الدولة"، ورئيس الوزراء السابق حيدر العبادي. إذا التقت مجموعات كانت داعمة للاحتجاجات، وكذلك نوّاب أفراد، حول أجندة موحّدة، فقد يشكّلون معًا كتلة كبيرة من 30 إلى 40 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا في مجلس النواب. قد يعني ذلك، عمليًا، أن الحراك سيكون مشاركًا في معادلة الحكم في العراق. ومع أن هذا التكتل لن يحدث على الأرجح تغييرًا جذريًا، يمكنه أن يؤدّي دور معارضة مسؤولة يفتقر إليها العراق.
لقد أظهرت نتائج الانتخابات تحوّلًا مهمًا في ميزان القوى لصالح شخصيتين متنافستين، هما الصدر والماكي. واقع الحال هو أن المكاسب التي حققها الصدر، حيث يُتوقَّع أن يحصد 72 مقعدًا، تعكس الطابع المنظّم لحزبه. فهذه النتائج لا تعني أن قاعدة الصدر توسّعت إلى حد كبير؛ بل قد يكون العكس هو الصحيح نظرًا إلى أن مجموع الأصوات التي نالها في هذه الانتخابات يبدو أقل من المجموع الذي حاز عليه في الانتخابات السابقة. لكن التيار الصدري تحوّل إلى آلة انتخابية فعّالة، مستفيدًا بمهارة من النظام الانتخابي الجديد ومستخدِمًا على نحوٍ كامل قوته في حشد الأصوات. وقد استفاد الصدريون أيضًا من تدنّي نسبة الإقبال، والتنسيق الجيّد بين المستويات المختلفة في تيارهم، ووضوح هويّتهم السياسية.
كذلك حقق المالكي أداء جيدًا في أوساط الناخبين الشيعة، إذ يُتوقَّع أن يفوز بـ35 مقعدًا، بعد حصوله على 25 مقعدًا في الانتخابات الأخيرة. صحيحٌ أن هناك فارقًا كبيرًا بينه وبين الصدر لناحية عدد المقاعد، ولكن تفوّقه على تحالف الفتح المؤلّف من مجموعات وتنظيمات شبه عسكرية متحالفة مع إيران والذي نال 48 مقعدًا في الانتخابات الأخيرة، شكّل مفاجأة لعدد كبير من المراقبين. فمن المتوقّع أن يحصد تحالف الفتح نحو 20 مقعدًا في هذه الانتخابات، ويبدو أن المالكي استحوذ على معظم المقاعد التي خسرها التحالف. والحال هو أن النفوذ الذي اكتسبه تحالف الفتح والتنظيمات شبه العسكرية المتحالفة معه بعد العام 2014 مردّه جزئيًا إلى تفكك الائتلاف الذي أنشأه المالكي حين كان رئيسًا للوزراء.
لقد انتعشت حظوظ المالكي من جديد لأنه قدّم مرشحين أقوياء وكسب تأييد الناخبين الشيعة الذين يرتبط اسمه في نظرهم بدولة قوية تميل نحو الشيعة، لا بدولة تسيطر عليها الميليشيات. وقد استقطب رئيس الوزراء السابق أيضًا أصوات الشرائح الاجتماعية التي استفادت من إسراف حكومته في الإنفاق على التوظيف والمحسوبيات حين بلغت أسعار النفط أعلى مستوياتها.
رد الفعل الأول على الفوز الكبير الذي حققه الصدر كان اتخاذ الخاسرين، بقيادة المجموعات المتحالفة مع إيران، قرارًا بالالتقاء حول دعم المالكي. لكن هذه المرة، رئيس الوزراء السابق هو الذي سيكون في مقعد السائق. في الوقت نفسه، رفض تحالف الفتح نتائج الانتخابات بسبب الاشتباه في حدوث مخالفات في عملية الاقتراع، وهدّدت المجموعات المسلّحة المتحالفة معه بالتدخّل. ومن شأن التصعيد في خطاب هذه التنظيمات أن يتحوّل سريعًا إلى صدامات في الشارع أو نزاع مسلّح مع أنصار الصدر. لكن الاحتمال الأكبر هو أن الهدف من هذا التصعيد، الذي قد يترافق مع مواجهات محدودة، هو إرغام الصدر على القبول باتفاق لتشارُك السلطة مع تحالف يضم خصومه الشيعة. فالأهداف الأساسية التي تسعى إليها المجموعات المرتبطة بتحالف الفتح تشمل، ضمان استمرارية قوات الحشد الشعبي التي هي بمثابة مظلّة للمجموعات شبه العسكرية التي تقودها ميليشيات مرتبطة بإيران، وكذلك استمرار النفوذ الذي تمارسه المجموعات الموالية لإيران على المناصب القيادية الأساسية داخل قوات الحشد الشعبي، والإبقاء على محدودية الإشراف الحكومي على الحشد.
في هذه الحالة، ستكون نتائج الانتخابات أقل أهمية من القدرة على اتخاذ خطوات خارج نطاق القانون، وتصبح عوامل مثل الإمكانات القتالية وتأثير الأفرقاء الخارجيين جزءًا من التركيبة. الصدر شخصية عقلانية وبراغماتية على السواء، وفيما سيواجه محاولات حرمانه من المكاسب الأساسية لفوزه الانتخابي، لكنه لا يرغب على الأرجح في خوض نزاع مسلّح مع معسكر مدعوم من إيران.
يصعب توقّع الخطوة المقبلة التي سيُقدِم عليها الصدر. فقد طرح، في خطاب أعلن فيه فوز كتلته، الأهداف التي ستسعى إليها حكومةٌ بقيادة الصدريين، بما في ذلك تعزيز سيطرة الدولة على الميليشيات. ولكن التهديدات من الميليشيات والكلفة التي يمكن أن تترتب عن اندلاع حرب أهلية شيعية قد تدفعه إلى تقديم تنازلات والقبول بحكومة يتشارك فيها جميع الأفرقاء المغانم. مثل هذه الحكومة سوف تكون مجددًا "حكومة هدنة" تهدف إلى تجنّب الأسوأ، أي الصراع الأهلي. ولكنها ستؤدّي أيضًا إلى الإبقاء على الشوائب البنيوية في المنظومة، ما يُفضي إلى تقهقر متزايد لشرعيتها.