لطالما شكّل التدخّل الأجنبي في دولة منقسمة على نفسها مثل لبنان لعنة. فقد لعبت الجهات الإقليمية والدولية على وتر الانقسامات الراسخة في المجتمع لتعزيز مصالحها الخاصة، ودفع اللبنانيون ثمن ذلك باهظًا. لكن هل من الممكن الاستفادة من التدخلات الخارجية؟
يمكن للمجتمعات المنقسمة على أسس طائفية أن تكون متقلبة للغاية. وفي لبنان، كل الطوائف هي، بطريقة أو بأخرى، أقليات لكلٍّ منها مخاوفها الوجودية الخاصة. وفي حال اكتسبت الطوائف الأخرى الكثير من القوة، فإن رد الفعل الفطري للطائفة الأخرى هو توقّع القضاء عليها. قد يؤدي ذلك أحيانًا إلى اندلاع الحرب، حين تبالغ أقلية خائفة في تأويل تصرّفات خصومها، وتبدأ استعدادها للقتال في سبيل البقاء. وهذا ما حدث في المرحلة التي سبقت الحرب الأهلية في العام 1975، عندما بدأت الأحزاب السياسية المارونية سباق التسلّح، مُعتبرةً أن تعاظم قوة الفصائل العسكرية الفلسطينية يصبّ بشكل قاطع في مصلحة الطائفة السنّية، ما يهدّد موقعها في الدولة، وبالتالي وجودها.
لكن الأنظمة الطائفية تميل إلى معاقبة الطوائف التي تحاول فرض إرادتها على غيرها. فبعد خروج الفلسطينيين من لبنان في العام 1982، ثم بصورة نهائية أكثر في العام 1983، خسر السنّة سندهم العسكري الأساسي وخبا نجمهم لسنوات. أما الموارنة فخالوا أن بإمكانهم فرض سيادتهم من خلال الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، لكن عوامل عدّة قوّضت خطتهم، وأبرزها إحجام إسرائيل عن التورط في الخصومات اللبنانية، وعداء الطوائف الأخرى للطموحات المارونية، والمساعدات العسكرية التي قدمتها دول أجنبية للجهات المعارضة. وبمجرد انتهاء الحرب، تكبدّت السلطة المارونية خسارة كبيرة.
واليوم، يسود وضع أكثر تعقيدًا في أوساط الطائفة الشيعية، أو على الأقل القسم المؤيد لحزب الله. فالحزب مدجّج بالسلاح، لكن إيران، راعيته الخارجية، غير موجودة ميدانيًا في لبنان، لذا ما من خيار يتمثّل في إرغامها على الخروج من البلاد لإضعاف حزب الله. بل على العكس، بنى الإيرانيون مشروعهم الإقليمي فوق ركام الخلافات العربية في لبنان والعراق وسورية واليمن، وليس من خلال عمليات انتشار عسكري مفتوحة. ودفع ذلك الكثيرين إلى التساؤل عما يمكن القيام به لوضع حدّ لهيمنة حزب الله، عدا عن بدء صراع أهلي من شأنه تدمير البلاد من دون تقديم أي حل على الأرجح. لكن ببساطة، لا يمكن القيام بأي شيء في الوقت الراهن.
هذا لا يعني أنه ما من طريقة لتقييد هامش المناورة المتاح أمام حزب الله. هنا قد يكون مفيدًا للبنانيين المعارضين للحزب التعويل على انخراط أجنبي أوسع نطاقًا، أي تحديدًا على السمّ الذي تتجرّعه البلاد منذ استقلالها. فإذا أصبح لبنان من جديد حلبة مفتوحة للتنافس الإقليمي والدولي، قد يصبح المجال مفتوحًا لتقييد مساعي طهران وحلفائها، وتحويل البلاد إلى ساحة للتفاوض، بدلًا من أن تواصل دورانها في فلك إيران حصرًا.
من نواحٍ عدّة، شهدنا بدايةً لذلك العام الماضي، حين أثار الانهيار الاقتصادي اللبناني وانفجار مرفأ بيروت مخاوف خارجية. فقد سمح الانفجار للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدخول الساحة اللبنانية بحماس. صحيحٌ أن مبادرته عُطّلت لاحقًا، لكنها حوّلت فرنسا إلى لاعب مُعترف به في البلاد، إذ أدّى الفرنسيون دورًا أساسيًا في عملية تشكيل الحكومة، وسيأخذون من دون شك زمام المبادرة في أي مساعٍ أوروبية قد تُبذل لمساعدة لبنان على تحقيق التعافي الاقتصادي.
كذلك، فتحت أزمة الكهرباء الباب لإطلاق مبادرة مصرية وأردنية، مدعومة من الولايات المتحدة، لتزويد لبنان بالطاقة والتخفيف من حدة تدهوره الاقتصادي. ثمة اعتقاد سائد بين هذه الدول بأن الانهيار الاجتماعي والاقتصادي الشامل في لبنان سيصبّ في مصلحة حزب الله وإيران. وخير دليل على ذلك قبول اللبنانيين بالوقود الإيراني الرخيص خلال الأشهر الماضية.
وعلى نحو مماثل، ترى بعض الدول العربية، على غرار الإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن، أن المساعي التي تبذلها للبدء بتطبيع العلاقات مع نظام الأسد في سورية، تسهم في تقوية البلاد في وجه إيران. وقد يؤثّر ذلك على القوة الإيرانية في لبنان إذا حاول السوريون إعادة إحياء نفوذهم وشبكاتهم هناك، إنما هذه المرة بدعم روسي.
في المقابل، لم يفضِ قرار بعض دول الخليج بقطع علاقاتها مع لبنان إلى شيء. وخير مثال على ذلك القرار الأخير باستهداف البلاد في أعقاب انتشار تصريحات لوزير الإعلام جورج قرداحي، كان أدلى بها قبل تعيينه وزيرًا. كذلك، أثار بيان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في وقت سابق من هذا الأسبوع تساؤلات عدة، حين أعلن أن على الطبقة السياسية اللبنانية "تحرير البلاد من حزب الله وإيران". لكن، في غضون ذلك، لا يرى السعوديون أي حافز يدفعهم إلى التواصل مع الحكومة اللبنانية "في الوقت الراهن".
لا شكّ أن السعودية ودول الخليج الأخرى ضاقت ذرعًا بالطبقة السياسية اللبنانية، بعد أن استغل الكثير من السياسيين السخاء السعودي والخليجي، من دون تقديم عائد يُذكر في المقابل. لكن كيف يقترح الأمير فيصل أن يحرّر لبنان نفسه من دون خوض حرب؟ فلبنان دولة ترفض فيها غالبية واضحة من السكان الأجندة الإيرانية. لكن عندما تعجز دول الخليج عن تحقيق استفادة قصوى من هذا الواقع، بل يؤدي قرارها بعزل لبنان إلى تسهيل جهود حزب الله في فرض التوجّه الذي ستسلكه البلاد، هل يمكن اعتبار ذلك سياسة ناجحة؟ ففي السياسة عادةً، يكافح المرء من أجل السلطة، ولا يحرد وينكفئ.
مع ذلك، لا ينبغي أن يتوقّع أحد أن تحقّق الدول الأجنبية نتائج واضحة أو سريعة من انخراطها في لبنان. فسيحارب حزب الله وإيران بشراسة من أجل مصالحهما، وأحدث دليل على ذلك الجهود التي بذلها وزير الخارجية الإيراني مؤخرًا لنسف خطة فرنسية ترمي إلى إعادة بناء مرفأ بيروت ، من خلال تقديم عرض بأن تفعل طهران الأمر نفسه وأكثر. وسيتطلّب التغيير تحلّي الدول بالصبر لاستخدام مزاياها، والقبول بأن التوقّعات القائمة على المعادلة الصفرية ستبوء بالفشل: فالقضاء على نفوذ إيران في لبنان لن يحدث، نظرًا إلى الطائفة الشيعية الكبيرة في البلاد. لكن، مع مرور الوقت، قد يتحقّق توافق إقليمي حول البلاد لإرساء الاستقرار فيها، على غرار التفاهم السوري السعودي حول اتفاق الطائف.
قد يمتعض اللبنانيون من هذه النتيجة المبتذلة، ويُفترض بهم ذلك. لكن للأسف، لم تنجح البلاد في تحقيق الوحدة الوطنية الضرورية لتفادي هذا النوع من الحلول. وما لم يقف الشعب يدًا واحدة، سيبقى لبنان كرة تتقاذفها مختلف الجهات. لذا، من الأفضل في الوقت الراهن استغلال نقطة الضعف هذه لتجنُّب أن يكون لبنان أداة إيرانية حصرًا، ما سيفاقم العزلة العربية المفروضة عليه، ويوصله إلى حالة من الدمار الشامل في حال نشوب حرب جديدة مع إسرائيل.