ينال دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري اهتمامًا متناميًا بموازاة مساره التوسعي المثير منذ استيلاء القوات المسلحة على السلطة في تموز/يوليو 2013، وخصوصًا منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي منصبه في السنة التالية.
تتبنى غالبية التعليقات، غير تلك الصادرة عن المصادر الحكومية المصرية أو المؤيدة للسيسي، بما فيها تقريري الشامل بعنوان "أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري"، نظرة نقدية. ولكن على الرغم من مشروعية الانتقادات، لم يُبذل جهدٌ يُذكر للذهاب إلى أبعد من مجرد المناداة بتفكيك الاقتصاد العسكري. وقد ذهب صندوق النقد الدولي إلى الإيحاء بضرورة شمول الشركات العسكرية ضمن إطار الإصلاحات العامة التي أوصى بإجرائها بالنسبة إلى عموم الشركات المملوكة للدولة في تموز/يوليو 2021، إلا أنه امتنع عن تقديم توصيات أكثر تحديدًا.
تعالج دراستي الأخيرة بعنوان "الاحتفاظ بالقدرة أم إعادة الهيكلة أم التجريد: خيارات سياساتية للاقتصاد العسكري المصري" هذه الثغرة، عبر تحديد الإجراءات المحدّدة التي يمكن للسلطات المصرية—وشركاؤها ونظراؤها الأجانب—أن تنظر فيها من أجل تعزيز أوجه النجاح في مجمل الجوانب المتنوعة للإنتاج العسكري من السلع والخدمات المدنية، ومن أجل تعديل أو إلغاء أوجه القصور. فتقترح الدراسة، استنادًا إلى تقييمها للمنطق الاقتصادي الذي يستوجب مراجعة وتعديل الاقتصاد العسكري المصري، وبناءً على مبادرات الرئاسة السياساتية والتشريعية، ثلاث خيارات رئيسة هي: الاحتفاظ بالقدرة وإعادة الهيكلة والتجريد. يكمّل كلٌّ من هذه الخيارات الآخر (بدلًا من الحلول محلّه حصريًا)، ويمكن تبني كلٍّ منها بدرجات متفاوتة وجمعها ضمن رزم متنوعة. ومع ذلك، يتصل الخيار الأول بالصناعة الحربية أساسًا، والثاني بالأشغال العامة وخدمات المشتريات والتوريد وباستغلال الموارد الطبيعية الوطنية، والثالث بالإنتاج العسكري للسلع المدنية.
ماذا يمكن الاحتفاظ به؟
لا بدّ أن تقبل السلطات المصرية بأن الصناعات الحربية مكلفة، فيترتب عليها أن تستثمر بها إذا كانت تريد الاحتفاظ بقدرة محلية. تتكبّد معظم الشركات والمصانع الحربية الخسائر على الرغم من تحويل جزء كبير من أعمالها إلى الإنتاج المدني، ورغم زيادة سعتها. فلم توفر شركاتها المدنية التكنولوجيا العالية الجودة، أو زيادات هامة في المحتوى المحلي والقيمة المضافة، أو المدخرات الصافية للخزينة العامة التي يمكن استثمارها في تطوير الصناعة الحربية. فلا بدّ لهذه الصناعة أن تقوم بتجسير الفجوات الكبيرة في القدرات والدراية التصنيعية والاستثمارات، إذا كُتب لها تحقيق أهداف أكثر طموحًا.
ومن أجل أن يكون الاحتفاظ بالقدرة قابلًا للتطبيق، ناهيك عن السماح بإجراء التحسينات والتخصّص، ينبغي أن تتخذ الصناعة الحربية خطوات عدة، بدءًا بإعادة تحديد أهدافها. فأيٌّ من احتياجات القوات المسلحة يمكنها تلبيتها أو السعي إلى تلبيتها؟ هل ينبغي أن تركز على إنتاج نظم الأسلحة وإسناد القتال، أم على تطوير قدرتها على إصلاح وصيانة وتحديث هذه النظم؟ يَعد النهج الأخير بتوفير مالي كبير، إلى جانب تعزيز المعرفة الفنية ونقل التكنولوجيا.
ثانيًا، ينبغي على الصناعة الحربية أن تعيد تصميم استراتيجيتها لتحقيق هذه الأهداف. فما هو التوازن المناسب بين تطوير قاعدة تكنولوجية محلية، مقابل الاعتماد على واردات التكنولوجيا من الشركاء الأجانب؟ قد تستفيد مصر من مكانتها العالمية كمستورد رئيس للأسلحة بغية توسيع إنتاجها الحربي بموجب تراخيص أجنبية، ليصبح ذلك عنصرًا رئيسًا في استراتيجيتها للتنمية الصناعية والتكنولوجية، على أن يركز أساسًا على تطوير القدرة المحلية لاستيعاب التكنولوجيا الجديدة عملياتيًا بدلًا من السعي إلى إنتاجها.
ثالثًا، يجب في جميع الأحوال على الصناعة الحربية أن تزيد كثيرًا من استثمارها في البحث والتطوير، وأن تسعى إلى التكامل مع نظرائها المدنيين—ولا سيما تجمعات الخبراء في القطاع الخاص الصناعي والأوساط الأكاديمية—من أجل تأمين الإبداع التكنولوجي وزيادات الجودة، إلى جانب توزيع تكلفة الاستثمار والمجازفة (التجارية).
أخيرًا وليس آخرًا، تحتاج الصناعة الحربية إلى إعادة هيكلة رسمية للديون والتفاوض بشأن صيغة تمويل جديدة. يخالف ذلك بالتأكيد تفضيلات قادة مصر العسكريين وسلطاتها، ولكن يجب إدخال تمويل هذا القطاع ضمن ميزانية الدولة وإخضاعه إلى شكلٍ متفق عليه لإجراء تقييم الكلفة مقابل المردود. فسوف يساعد ذلك كثيرًا تحسين القدرة على التنبؤ والتخطيط، والسماح بعائدات أعلى للشراكات مع النظراء المدنيين أو الأجانب، وتجنّب العودة إلى الديون الخفية أو المعدومة.
ماذا يجب إعادة هيكلته؟
يتمثّل الخيار السياساتي الثاني بإعادة هيكلة دور المؤسسة العسكرية في إدارة الأشغال العامة، وتنفيذ عقود المشتريات الحكومية والتوريد، والاستغلال التجاري للموارد الطبيعية للبلاد. ينبغي التعويض عن الطبيعة الريعية لهذه الأنشطة من خلال إخضاعها بالكامل لإشراف مدني لا لبس فيه، وفي إطار مالي شفاف يسمح بتحليل التكلفة والعائد الاقتصادي الفعّال. ويجب أيضًا إعادة تقييم الاستراتيجية الاقتصادية الكائنة وراء هذه الأنشطة، نظرًا إلى أن الكثير مما تفعله المؤسسة العسكرية في الواقع يتمثّل في الاستيلاء على الريع وإعادة تخصيصه، ولا سيما من خلال المضاربة العقارية، بدلًا من توليد قيمة جديدة من خلال زيادة الإنتاجية أو فتح قطاعات اقتصادية أمام الجهات المدنية الأخرى.
يُفترض أن يكون إحلال الإدارة المدنية مكان العسكرية أمرًا سهلًا نسبيًا في مجالات مثل استصلاح الأراضي وبناء الإسكان والمدن الجديدة، حيث راكمت الهيئات المدنية خبرة وافية في هذه القطاعات. وطالما أن الموقف الرسمي هو أن المؤسسة العسكرية هي مجرد جهة واحدة من بين جهات عدة تابعة للدولة مسؤولة عن تنفيذ أهداف التنمية القومية التي تحددها الرئاسة والحكومة، فما من سبب يمنعها من اتّباع القواعد الحكومية النظامية للمشتريات والتفتيش في ما يخص عمليات تحديد أولويات المشاريع ومواصفاتها الفنية، وطرح العطاءات وتقييمها، وإجراءات التدقيق.
إضافةً إلى ذلك، لا بدّ من إلزام المؤسسة العسكرية باتّباع هيكل واضح تفرضه الحكومة للرسوم والأجور الإدارية، علاوةً على الإفصاح الكامل عن الأرباح أو الفوائض التي يتم توفيرها من ميزانيات المشاريع. ويمكن، بل ويجب، تحويل عقود الإيجار وحق الانتفاع التجاري للمشاريع التي يتم تسليمها باستخدام أموال الدولة—مثل الطرق السريعة والصوب الزراعية—إلى الجهات الحكومية ذات الصلة. وفي جميع الأحوال، فإن الإدارة العسكرية للمشروعات المموّلة من الدولة يجب ألّا تضفي تلقائيًا حق تصرّف بها.
أخيرًا وليس آخرًا في ما يتعلق بقيام الحكومة بالإشراف والتنظيم، ينبغي تمكين الهيئات المدنية من إجراء تقييم التكلفة الاقتصادية والمراجعات البيئية لجميع المشروعات التي تمولها الدولة، بما في ذلك تلك التي تديرها المؤسسة العسكرية. يُضاف إلى ذلك أنما من أسباب فنية أو دواعٍ أمنية حقيقية تستوجب وضع أيٍّ من المعلومات الخاصة بالأنشطة المدنية التي تديرها المؤسسة العسكرية طي الكتمان. فالواقع أن سعي إدارة السيسي وراء تشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص في تنفيذ وتسليم جميع مراحل الأشغال المموّلة من الحكومة يضفي المشروعية على هذه الإجراءات، ويتطلّبها بالمعيار ذاته.
كيف ينبغي تحقيق التجريد؟
من المفارقات أن خيار تجريد الشركات العسكرية (بما في ذلك التصفية عبر البيع أم الإغلاق) قد يثير القدر الأكبر من المعارضة الفورية، إلا أنه يستند بشكل مباشر أكثر من الخيارَين السابقَين على سعي السيسي المزدوج إلى تحقيق زيادة الكفاءة والوفورات في القطاع العام وجذب الاستثمارات الخاصة في تلك الشركات. يتمثل مسارٌ أول في نقل جميع الشركات العسكرية (ربما على مراحل) إلى هيئة قابضة واحدة، بينما يتمثل المسار الآخر في عرضها ولو جزئيًا للملكية الخاصة.
يلتقي المسار الأول مع دعوة صندوق النقد الدولي إلى "مركزة ملكية الدولة في كيان واحد"، والتي يمكن أن تشمل نقل الشركات العسكرية إلى قطاع الأعمال العام (أي مجموعة الشركات العامة المدنية المُنتجة للسلع القابلة للتداول). ويتوافق ذلك أيضًا مع مسعى الحكومة المصرية لإعادة هيكلة الشركات العامة الخاسرة من خلال عمليات الدمج والتصفية وبيع الأسهم لمستثمري القطاع الخاص.
أمًا المسار الثاني، فيتماشى تمامًا مع جهود إدارة السيسي منذ العام 2018 لجمع وتسويق أصول الدولة من خلال وضعها في تصرّف صندوق الثروة السيادي لمصر، أم طرح الحصص الجزئية فيها عبر البورصة المصرية في بعض الحالات. ولقد تلقت هذه الاستراتيجية الدعم السياسي الحيوي حين وافق الصندوق السيادي في شباط/فبراير 2020 على تحضير عشر شركات عسكرية لطرح أسهمها أمام المستثمرين بنسب قد تصل إلى 100 في المئة. وسيتماشى ذلك أيضًا مع التشريع الحكومي الصادر في أيار/مايو 2021 الذي سمح لمقدّمي الخدمات العامة التابعين للدولة بـ"توريق الإيرادات المستقبلية وتداولها للبيع للمستثمرين".
إن دعوة صندوق النقد الدولي إلى تحديد قطاعات اقتصادية معينة يمكن للشركات المملوكة للدولة أن تؤدّي دورًا فيها، والخروج تمامًا من قطاعات أخرى، يجب أن تنطبق على الشركات العسكرية. ولقد تبنّى مجلس الوزراء هذا النهج في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 من خلال التوصية بمجموعة آليات للخروج فعلًا من قطاعات مختارة وتحديد أخرى ستبيعها في نهاية المطاف. وسيكون تأثير ذلك أكبر بكثير إذا شمل البنية التحتية والمرافق التي تموّلها الحكومة، وليس فقط الشركات المنتجة للسلع القابلة للتداول. من شأن توسيع نطاق هذه الاستراتيجية الحكومية لتشمل الشركات العسكرية أن يعزّز قابليتها للبقاء.
يمكن تطبيق هذه الإجراءات بدايةً على شركات وزارة الإنتاج الحربي، المسجلة في الواقع كشركات قطاع الأعمال العام. كذلك، يمكن انتهاج مسار مماثل مع الهيئة العربية للتصنيع، بعد تعديل ميزة صفتها القانونية كمنظمة دولية. وبمجرّد إعداد إطار العمل واختباره، يجب توسيعه ليشمل الشركات التابعة لجهازمشروعات الخدمة الوطنية، ما سيتطلّب أيضًا إنشاء إطار قانوني وتنظيمي واضح لاستخدامها للعمالة المجنَّدة. ويُفترض في هذه الحالة أن يعتمد اختيار الشركات أو خطوط الإنتاج التي سيتم تقسيمها أو دمجها أو تصفيتها أو خصخصتها على مقاييس السوق المعيارية، وأن يتوافق مع المعايير العامة التي يضعها الرئيس والحكومة، آخرها قانون شركات قطاع الأعمال العام الرقم 185 للعام 2020.
يمكن للمسارات المذكورة أعلاه أن تحقق الجدوى الحقيقية إذا تم وضع الشركات والمداخيل العسكرية ضمن الأطر القانونية والتنظيمية المدنية بشكل كامل لا لبس فيه، لضمان التزامها بواجبات الإفصاح وتقديم الإبلاغ وبضرورات المعاملة غير التفضيلية (في الحصول على عوامل الإنتاج والعقود). هذا، وحتى لو لم يتم إخضاع الشركات العسكرية لهيئة قابضة واحدة تقع تحت سيطرة الحكومة، كما يوصي صندوق النقد الدولي، فيجب أن يكون لديها إطار قانوني وحوكمة موحّد وأن تمتثل لدعوة صندوق النقد الدولي لتوسيع نطاق التقارير المالية بحيث تشمل جميع شركات القطاع العام والشركات المشتركة لكي تقدم تفاصيل "الإيرادات المالية (الضرائب، وتوزيعات الأرباح) والتكاليف (الدعم، وتدفقات رأس المال، والقروض المباشرة من الميزانية، ودعم الاقتراض من الديون، وضمانات القروض)".
لا يمكن إنجاز هذه التغييرات كافة بين ليلة وضحاها. مع ذلك، في حال جاز استمرار المشاركة في تحمّل الأعباء بين الهيئات المدنية والعسكرية لفترة انتقالية، يبقى من الأهمية بمكان أن ينطلق جهد مرادف على جبهة واسعة لتحسين وتقوية الهيئات المدنية من أجل تمكينها من تصميم وإدارة وتسليم الأشغال والعقود العامة على أنواعها—وتقليص الدور العسكري إلى الحد الأدنى بموازاة ذلك، وبحسب جدول زمني محدّد.
هذا المقال هو الثاني في سلسلة مقالات ليزيد صايغ تُنشر تباعًا، مرتبطة بدراسة أعدّها بعنوان "الاحتفاظ بالقدرة أم إعادة الهيكلة أم التجريد؟ خيارات سياساتية للاقتصاد العسكري المصري".