على مدى الأشهر الأحد عشر الماضية، قوّض الرئيس قيس سعيّد فعليًا وتدريجيًا التقدّم الديمقراطي الذي أحرزته تونس منذ أكثر من عقد. فقد استولى على الحكم بعد تنفيذ انقلاب رئاسي في 25 تموز/يوليو من العام 2021، سعيًا لمعالجة المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تتخبّط بها البلاد. وحظيت تدابيره الأولى بدعم شعبي كبير في أوساط شرائح واسعة من المجتمع التونسي.
وخلال الأشهر اللاحقة، عمد سعيّد إلى إحكام قبضته على السلطة، وتفكيك السلطتَين التشريعية والقضائية، وإبطال بنود كثيرة في الدستور، فتخلّت عنه بعض مجموعات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي احتفظ بدور كبير في النظام السياسي التونسي طيلة عقود تعاقبت خلالها على الحكم أنظمة دكتاتورية وأخرى ديمقراطية.
وفي الوقت الراهن، يُعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل حاسمًا في نجاح سعيّد، إذ يضمّ أكثر من مليون عضو في بلد يبلغ عدد سكانه 12 مليون نسمة، وهو يملك بالتالي القدرة على شلّ عجلة الاقتصاد الوطني. وبعد مرور عام تقريبًا على استيلاء سعيّد على السلطة، يمكن القول إنه لم يقم بأي خطوة تُذكر من أجل تحسين الوضع الاقتصادي، بحيث بلغ التضخم 7.8 في المئة في أيار/مايو، وتجاوز معدّل البطالة 16 في المئة، ناهيك عن أن الاستثمار الأجنبي تلقى ضربة بسبب حالة اللايقين السياسي الناجم عن خطوات سعيّد.
في غضون ذلك، يعوّل الرئيس التونسي على احتمال إبرام صفقة مقترحة مع صندوق النقد الدولي بقيمة 4 مليارات دولار لإنقاذ الاقتصاد التونسي، لكن شروط هذه الصفقة وضعت سعيّد مباشرةً في مرمى انتقادات الاتحاد العام التونسي للشغل.
يدرك سعيّد تمام الإدراك قدرة الاتحاد العام على حشد التونسيين. فبعد إعادة انتخاب أمينه العام نور الدين الطبوبي في شباط/فبراير لولاية ثانية، نجح بعض مناصري سعيّد في رفع قضية تزعم أن عملية انتخاب الطبوبي لم تكن قانونية بسبب أخطاء إجرائية، في محاولة لاستبدال قيادة الاتحاد بأحد الموالين لسعيّد.
لم يؤيّد الاتحاد العام التونسي للشغل قط خطوات سعيّد تأييدًا تامًا، لكنه دعم إلى حدٍّ كبير انقلابه والإجراءات التي تلته. فعلى سبيل المثال، دعا الاتحاد العام في كانون الأول/ديسمبر 2021 إلى إجراء انتخابات مبكرة بسبب فشل سعيّد في الإعلان عن خارطة طريق لمستقبل البلاد السياسي، ثم ما لبث سعيّد والطبوبي أن تصالحا في كانون الثاني/يناير 2022.
لكن في أيار/مايو، ساءت العلاقة بين الجانبَين عندما رفض الاتحاد العام التونسي للشغل دعوة سعيّد للانضمام إلى حوار وطني يهدف إلى إعادة كتابة دستور العام 2014. والاتحاد يدعو من جهته إلى إجراء حوار وطني فعلي وشامل للجميع، واصفًا النهج الحالي للرئيس بالـ"صوري". وقد رفض الاتحاد أيضًا المشاركة في حوار نتائجه مقرّرة مسبقًا، إذ أعلن الطبوبي قائلًا: "نرفض أي إصلاحات تُعيد تونس إلى العصور الحجرية بالشركات الأهلية".
في الوقت نفسه، يواجه الاتحاد العام ضغوطًا على خلفية تصريحات الحكومة التونسية بأن صفقة صندوق النقد الدولي، التي يجري التفاوض بشأنها وتبلغ قيمتها 4 مليارات دولار، قد تؤدي إلى خفض الدعم على السلع والخدمات، وتجميد أجور القطاع العام، وخصخصة بعض الشركات العامة. وقد عبّر الاتحاد العام مرارًا وتكرارًا عن رفضه الشديد لمثل هذه الشروط التي يضعها صندوق النقد الدولي.
واليوم، يقف كلٌّ من الاتحاد العام التونسي للشغل وسعيّد على طرفَي نقيض، فيما هوّة الانقسام بينهما آخذة في الاتساع. فتظلّمات الاتحاد تزداد، بدءًا من استيائه حول كيفية تعامل سعيّد مع القضايا الاقتصادية، ومرورًا بفشل حكومته في الالتزام بالاتفاقيات التي أبرمتها مع الاتحاد العام والتي لم يُنشر تسع منها بعد في الرائد الرسمي، ووصولًا إلى الاستياء المستمر من الأمر الرئاسي الذي أصدره سعيّد والذي يشترط حصول أعضاء الحكومة على موافقة مسبقة قبل التفاوض مع الاتحاد العام. لذا، وبعد محاولة فاشلة للتفاوض مع حكومة سعيّد، قرّر الاتحاد العام التونسي للشغل الدعوة إلى تنفيذ إضراب عام في 16 حزيران/يونيو، فتوقفت وسائل النقل العام عن العمل وأقفلت الدوائر الحكومية أبوابها، ما أدّى إلى إلغاء جميع الرحلات الدولية والداخلية وكذلك البحرية. ودعا الإضراب 3 ملايين موظّف في القطاع العام في 159 مؤسسة حكومية إلى مطالبة الحكومة برفض خطط خفض الأجور والدعم.
من غير الواضح بعد ما سيكون تأثير الإضراب على سعيّد في المديَيْن المتوسط والطويل، لكن ما يجب أن يقلق الرئيس التونسي بشكل كبير هو ردّ الفعل الأقوى الذي صدر عن الاتحاد العام. أولًا، يمثّل العدد الهائل لمؤيدي الاتحاد كتلة تتمتع بالقدرة على تعبئة شريحة واسعة من الرأي العام ضد سعيّد، على الرغم من أنها غير موحّدة على الدوام. ثانيًا، يملك الاتحاد، كما أدرك أسلاف سعيّد، القدرة على شلّ اقتصاد البلاد، وهذا مهم نظرًا إلى تأثيراته على حياة التونسيين، وعلى ثقة الجهات المانحة الدولية التي تشتدّ حاجة تونس إليها اليوم.
من الصعب تصوّر سيناريو تتمكّن فيه تونس من إبرام اتفاق ناجح مع صندوق النقد الدولي من دون أن يثير ذلك استياء الاتحاد العام التونسي للشغل. لذا، يواجه سعيّد المعضلة التالية: إن لم يُبرم اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي، فقد تواجه تونس إفلاسًا وشيكًا؛ وإن أبرم اتفاقًا، فقد يشعل ذلك شرارة اللااستقرار.
لكن لا يمكن الاستخفاف بصلابة سعيّد وعزيمته. ففي حين أن القادة الديمقراطيين في تونس كانوا يراعون في عملية صنع القرار الحدّ الأدنى من مبدأ الفصل بين السلطات والضوابط والتوازنات، وعاملوا الاتحاد العام التونسي للشغل كشريك قوي من المجتمع المدني، لم يتمكّن أي طرف حتى الآن، سواء على الساحة السياسية أو في المجتمع المدني، من التأثير في سعيّد على الإطلاق. فقد استمر هذا الأخير في فرض رؤيته الخاصة حول مستقبل تونس على خصومه ومؤيديه على السواء. وفي نهاية المطاف، قد يكون سعيّد القائد التونسي الوحيد القادر على الوقوف في وجه الاتحاد العام التونسي للشغل وتحدّيه، لكن من المستبعد أن يتمكن من تحقيق ذلك من دون إلحاق أضرار جسيمة بتونس.