مهى يحيَ | مديرة مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.
قد يكون من المبكر لأوانه استقراء النتائج الكاملة لجولة الرئيس الأميركي جو بايدن في الشرق الأوسط، لكن الانطباع العام هو أن جهوده لم تُفضِ إلى تحقيق إنجازات تُذكر. الاستنتاج الأول هو أن دول المنطقة ستتصرّف بناءً على أولوياتها. فالفكرة القائلة بأن الشرق الأوسط هو مجرّد ساحة مفتوحة على مصراعيها أمام تجاذبات القوى الدولية العظمى، باتت تتغاضى فعليًا عن دور القوى الإقليمية التي حصدت نفوذًا واسعًا أتاح لها التأثير في سير الأحداث سواء في داخل المنطقة أو خارجها. والأهم أن زيارة بايدن رسّخت فكرة أن الدول الإقليمية قادرة ببساطة على التصرّف وفق ما تُمليه مصالحها الخاصة، حين تتعارض هذه الأخيرة مع أهداف الولايات المتحدة. وقد تجلّى ذلك بأوضح صوره على مستويَين: أولًا، اختتم بايدن جولته في الشرق الأوسط من دون انتزاع وعود واضحة من دول الخليج بزيادة إنتاج النفط؛ وثانيًا، نفت السعودية أن قرار فتح أجوائها أمام الطائرات الإسرائيلية يشكّل مقدّمة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. فالقوى الإقليمية لا ترغب في خوض حرب مع إيران، بل تفضّل الجلوس على طاولة المفاوضات للوصول إلى صيغة تعايش تجمع بين مختلف دول المنطقة.
في هذا السياق، تراجع بايدن عن قراره بنبذ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ذلك أن السعودية أكّدت على أهمية دورها كلاعب إقليمي بارز قادر على إرساء ترتيبات سياسية مع إيران وفي دول المشرق وغيرها، سواء في ما يتعلّق بالتطبيع مع النظام السوري أو بالصراع العربي الإسرائيلي. ومع أن المملكة فتحت مجالها الجوي أمام عبور الطائرات المدنية الإسرائيلية، لا يبدو أنها على وشك توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، وسبب ذلك إلى حدٍّ بعيد هو طريقة تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين. وفي هذه القضية، اكتفى بايدن بتجديد دعمه لحل الدولتَين "حتى وإن كان بعيد المنال في المستقبل المنظور"، وبتقديم مساعدات لمستشفيات القدس، مُتغاضيًا عن سياسات الفصل العنصري التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
يبقى أن زيارة بايدن ضربت عرض الحائط بكلامه الشائع عن محورية حقوق الإنسان لأجندته الخارجية. فقد ساهمت المواقف الأميركية حول عملية السلام وحول السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين وأراضيهم في تعزيز الانطباع السائد في المنطقة بأن واشنطن عاجزة عن ترجمة أقوالها إلى أفعال في مجال حقوق الإنسان، وبأنها ستعطي دائمًا الأولوية لمصالحها على حساب قيمها. وقد أدّى هذا الواقع إلى تقويض النفوذ الأميركي بصورة متزايدة، مبرِّرًا مساعي الدول العربية إلى تبنّي موقف محايد من النزاعات الدولية وعدم الانحياز إلى طرف دون الآخر.
زها حسن | محامية في مجال حقوق الإنسان وباحثة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
أجرى بايدن زيارته إلى الشرق الأوسط بعد أن طمأن الأميركيين إلى أن القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية ستكون على جدول أعماله في كلٍّ من الضفة الغربية وإسرائيل والسعودية. لكن محطة بايدن الفلسطينية التي تم الإعداد لها بدقة اتّسمت بطابع سياحي وإنساني أكثر منه سياسي. زار بايدن كنيسة المهد ومستشفى يقدّم الرعاية للفلسطينيين ويديره الاتحاد اللوثري في القدس الشرقية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها، لم يستطع تجاهل قضية حقوق الشعب الفلسطيني حين استقبلته في بيت لحم لافتة تقول: "سيدي الرئيس، هذا أبارتايد". كذلك، لا بدّ أنه لاحظ الصحافيين الذين كانوا يرتدون قمصانًا تعبّر عن مطلب تحقيق العدالة لزميلتهم الصحافية الفلسطينية والمواطنة الأميركية شيرين أبو عاقلة التي اعتبرت الولايات المتحدة على نحو غير مفهوم قبل أيام قليلة من تاريخ الزيارة أن مقتلها خطأ إسرائيلي مأساوي.
ومع أن بايدن ألمح إلى حقوق الفلسطينيين ودعا إلى تحقيق المحاسبة عن مقتل أبو عاقلة، لم تتمتع هذه التصريحات بمصداقية كبيرة نظرًا إلى أنها صدرت بعد توقيعه "إعلان القدس بشأن الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل" الذي يلزم واشنطن بمعارضة الجهود الفلسطينية الدبلوماسية والقانونية في الأمم المتحدة وفي المحكمة الجنائية الدولية، وبمحاربة جهود منظمات المجتمع المدني الرامية إلى محاسبة إسرائيل عن انتهاكات حقوق الإنسان.
حاول الرئيس الأميركي أن يسلّط الضوء على قضية مشتركة تجمعه مع الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال من خلال التحدث عن جذوره الإيرلندية الكاثوليكية وتلاوة قصيدة إيرلندية عن يوم سترتفع فيه موجة العدالة العارمة "فيتوافق التاريخ مع الأمل". لكنه تفادى الرد على ممرّضة شكرته على تقديم مساعدات مالية بقيمة 100 مليون دولار إلى مستشفيات القدس الشرقية، قبل أن تضيف أن الفلسطينيين بحاجة إلى "المزيد من العدالة".
إحدى الخلاصات المهمة الكثيرة التي يمكن استنتاجها من الزيارة الأولى التي أجراها الرئيس بايدن إلى المنطقة منذ تولّيه منصبه هي أن الولايات المتحدة ستواجه صعوبات متزايدة في التعامل مع نفاقها في مجال حقوق الإنسان فيما تسعى إلى تحقيق أهدافها على مستوى السياسة الخارجية. وبدا ذلك جليًّا حين تطرّق الرئيس بايدن إلى مسؤولية السعودية في مقتل الصحافي في صحيفة واشنطن بوست، جمال خاشقجي، فردّ ولي العهد السعودي متسائلًا ]عمّا قامت به الولايات المتحدة بشأن[ مقتل أبو عاقلة وسجن أبو غريب".
آرون ديفيد ميلر | باحث أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
لم تعكس زيارة الرئيس جو بايدن الخاطفة إلى الشرق الأوسط عملية إعادة ضبط استراتيجية تجاه منطقة مضطربة، بقدر ما كانت استجابةً للأزمات والحاجات التي فرضها الغزو الروسي لأوكرانيا، ولا سيما مسألة كيفية زيادة إمدادات النفط وإحراز تقدّم أميركي في مواجهة المنافسَين الروسي والصيني.
إسرائيل: حتى وفق المعايير المؤيدة لإسرائيل، كانت الزيارة ودية جدًّا بين بايدن والجانب الإسرئيلي، ومليئة بالمشاعر الإيجابية والمشاريع التعاونية والشراكة المتجسّدة في إعلان القدس. وإن برزت خلافات حول الشأن الإيراني، فهي لم تظهر إلى العلن. ومع تحديد الأول من تشرين الثاني/نوفمبر موعدًا للانتخابات الإسرائيلية، لم يكن بايدن ليضغط على حكومة تصريف الأعمال، ولا سيما إن كانت برئاسة يائير لابيد الذي يفضّله بايدن (وإن لم يُعلن ذلك) على بنيامين نتنياهو لرئاسة الحكومة المقبلة.
الفلسطينيون: إذا حصلت إسرائيل على العسل، فسيتحمّل الفلسطينيون في الغالب إبر النحل. لقد تحدّث بايدن علنًا عن حل الدولتين على أساس حدود العام 1967 مع تبادل متفق عليه للأراضي ووعد بتقديم مساعدات إضافية بقيمة 300 مليون دولار. لكن بايدن ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي ما زال في منصبه للسنة السابعة عشرة في ولاية يُفترض أن مدتها أربع سنوات، لا يعتقدان أن الولايات المتحدة جادة في الترويج لمثل هذا الحلّ.
العلاقات الأميركية السعودية: حصل ولي عهد السعودي محمد بن سلمان على ما ابتغاه من الاجتماع: صور، واجتماع قصير وجهًا لوجه، وتأكيد على أن بايدن أغلق ملف مقتل جمال خاشقجي، واعتراف بقيادته. ومن المفترض أن بايدن وتلقّى وعودًا بأن تعمد السعودية إلى زيادة إنتاجها من النفط، وتقديم المساعدة في اليمن، والموافقة على اتخاذ تدابير متواضعة لبناء الثقة في العلاقات السعودية الإسرائيلية. لكن ما من انطباع حقيقي (على الرغم من التعاون لاستبعاد شركة هواوي من تطوير شبكات الجيل الخامس) بأن السعوديين كانوا مستعدين للابتعاد بشكل كبير عن روسيا أو الصين.
إيران: أُحرز تقدّم في مسألة كيفية دمج إسرائيل ودول الخليج بشكل أفضل في منظومة دفاعية لصدّ التهديدات الجوية الإيرانية من صواريخ وطائرات وغيرها. لكن لا يبدو أن السعودية والإمارات ومجلس التعاون الخليجي على استعداد لأن تصبح رأس الحربة في المواجهة الأميركية مع طهران.
كريم سجادبور | باحث أول في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
يميل طلاب التاريخ إلى تجنّب الخوض في التكهنات، ولا سيما حول الشرق الأوسط. فالأحداث الإقليمية الأكثر تأثيرًا خلال العقود الخمسة الماضية - بدءًا من الثورة الإيرانية في العام 1979، ومرورًا بهجمات 11 أيلول/سبتمبر، ووصولًا إلى الانتفاضات العربية في العام 2011 – كلها لم تكن متوقعة. على ضوء هذا التحذير، ها هي بعض الدلالات التي قد تحملها زيارة الرئيس بايدن في المدى القريب:
الواقعية الأميركية: لم تنجح الولايات المتحدة بعد صرفها تريليونات الدولارات ونشرها مئات الآلاف من الجنود في بناء حكومات مستقرة يُعتد بها في أفغانستان والعراق. كذلك، لم تتمكن الانتفاضات العربية في العام 2011 من تحقيق نتائج أفضل. وكما قال منسق شؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، بريت ماكغورك، للباحث في مؤسسة كارنيغي آرون ديفيد ميلر في كانون الثاني/يناير الماضي: "نحن لا نحاول إحداث تحوّل في هذه المنطقة، بل نسعى إلى تحقيق مصالح أميركية حيوية وبالغة الأهمية بما يتوافق مع غاياتنا ووسائلنا والتزاماتنا وقدراتنا".
الواقعية العربية: سيواصل شركاء واشنطن الإقليميين التشكيك في التزامات الولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط. وستدفعهم مصالحهم الوطنية إلى الاستمرار في تعزيز علاقاتهم التجارية والعسكرية مع الصين وروسيا. لكن العلاقات الاستراتيجية والثقافية والاقتصادية التي بنوها مع الولايات المتحدة على مدى العقود الخمسة الماضية لا تستطيع أن تحل محلها بيجينغ وموسكو.
وقائع الطاقة: تدور أسعار الطاقة كما هو معلوم في حلقات، وقد تعمد إلى تصحيح مسارها قريبًا، لكن وجود عالم لا يرتبط فيه النفط وسعره بالشؤون الاقتصادية والسياسية ما زال أمرًا بعيد المنال. ففي العام 2021، أوضح أفشين مولافي هذه الفكرة قائلًا: "منذ لحظة استيقاظنا وحتى خلودنا للنوم، نحن نعيش في عالم من النفط، ومن المستبعد أن يتغيّر ذلك قريبًا".
إيران توحّد: لم يكن أرسطو أول من اعتبر أن "الخطر المشترك يوحّد حتى ألدّ الأعداء". فمنذ انتخاب بايدن، حاولت الولايات المتحدة والسعودية والإمارات تخفيف حدّة النزاع مع إيران دبلوماسيًا، لكن محاولاتها إما باءت بالفشل أو لم تحقّق سوى نجاح محدود. لذا يمكن القول إن الفضل الأكبر في إبرام الاتفاقات الإبراهيمية وصمود الشراكة بين الولايات المتحدة ومجلس التعاون الخليجي يعود إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
مهنّد الحاج علي | باحث أول في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت
المُلفت في زيارة بايدن أنها كشفت عن مدى ضيق هامش المناورة المتاح أمام أي رئيس أميركي في الشرق الأوسط اليوم. فقد فشلت الإدارة الأميركية في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ويبدو أن المنطقة تسير نحو مزيدٍ من التصعيد العسكري والأمني بين إيران ووكلائها من جهة، وبين إسرائيل وأصدقائها العرب من جهة أخرى.
فشل بايدن أيضًا في تحقيق إنجاز يصب في صالح الفلسطينيين، بل بدت زيارته إلى إسرائيل والسعودية في معظم جوانبها امتدادًا لسياسات ترامب في المنطقة. سعى بايدن إلى توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية وطمأنة حلفاء واشنطن بشأن طهران، لكن الفلسطينيين يعتبرون أن توطيد العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل خارج إطار عملية السلام عبارة عن سياسة ترمي إلى عزلهم. ونتيجةً لذلك، أصبح الرأي العام الفلسطيني ينحو بشكل متزايد نحو إيران، في ظل الدعم المتنامي للكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي. وإذا وضعنا جانبًا المساعدات المالية التي قدّمها بايدن وتعبيره عن دعم حل الدولتين الذي يزداد تطبيقه صعوبة في الوقت الراهن، يبدو أن الرئيس الأميركي يتبنّى فعليًا ركائز سياسة ترامب في الشرق الأوسط، أي: بناء سلام إقليمي مع إسرائيل يستثني الفلسطينيين؛ ودعم تحالف عربي-إسرائيلي ناشئ ضدّ إيران؛ واعتماد نهج قائم على سياسات جزئية وغير متكاملة تعطي الأولوية للمصالح الأميركية القصيرة المدى في الشرق الأوسط على حساب حقوق الإنسان.
ولا يبدو مسار إدارة بايدن مؤكدًا حتى بما يتعلّق بأهداف الطاقة. صحيحٌ أن الولايات المتحدة قد تنجح في 3 آب/أغسطس المقبل في دفع أصدقائها وحلفائها في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إلى زيادة إنتاجها وخفض أسعار النفط على المدى القصير، إلا أن التوترات المستمرة مع إيران قد تؤدّي إلى أحداث مشابهة لهجمات العام 2019، أو إلى تجدّد الأعمال القتالية في اليمن، ما من شأنه تقويض المكاسب التي تحقّقت.
في غضون ذلك، لا تبدو الخيارات السياسية البديلة المتاحة واضحة جدًّا، كما أنها لا تخلو من المخاطر. لذا، يكمن أبرز ما حقّقته زيارة بايدن في إظهار محدودية السياسة العامة. فقد زار الرئيس الأميركي الشرق الأوسط، لكن أقصى ما يمكن أن يطمح إليه هو الحفاظ على مظهر النفوذ أو الدور الأميركي في منطقة لم تعد واشنطن تلعب الدور الرئيسي في إدارة دفّتها.