المصدر: Getty
مقال

إسرائيل نحو 1948 من نوع آخر

يُستخدم مصطلح "الأبرتهايد" عادةً بشكل انفعالي للإشارة إلى طريقة التعاطي مع الفلسطينيين، لكن باتت له على نحو متزايد جدوى تحليلية.

نشرت في ١٥ نوفمبر ٢٠٢٢

لا شك أن إسرائيل تقترب من لحظة 1948. غالب الظنّ أنها ستتريّث في الوقت الراهن، بيد أن إنكار الزخم الطويل الأمد بات صعبًا اليوم.

لا يُقصَد بالعام 1948 الوارد أعلاه الأحداث التي أنهت الانتداب البريطاني على فلسطين، بل نشير إلى إجراء مهم قلب حياة مجتمع أبعد جنوبًا، وتمثّل في التبنّي الرسمي لنظام الأبرتهايد (الفصل العنصري) في جمهورية جنوب أفريقيا. خلال السنوات القليلة الماضية، ازداد استخدام هذا المصطلح في النقاشات المتعلقة بإسرائيل. صحيحٌ أنه لم يكن يومًا غائبًا بالكامل، لكن حين سمعته قبل عقود فسّرته من منظور بلاغي وانفعالي بطبيعته، إذ عبّر عن السخط الذي شعر به كثيرون، وأثار في الوقت نفسه سخط آخرين.

لم أكن متحمسًا للخوض في مثل هذه النقاشات. لكن خلال السنوات العشرين الماضية، اتّسع نطاق استخدام هذا المصطلح. فعلى سبيل المثال، استخدمه الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر للتحذير من السيناريو الذي قد يحدث في ظل غياب حلّ الدولتين المُتفاوض عليه. وقد أثار تحذيره هذا استياءً كبيرًا، إنما دفع كثيرين إلى الدفاع عن إسرائيل: فالبلاد كان يقطنها سكان عرب، والضفة الغربية وغزة خاضعتان للاحتلال لكن لا يمكن اعتبارهما بانتوستانات، والأهم، لم تكن ثمة نية لإنشاء نظام أبرتهايد.

خلال السنوات الأخيرة الماضية، تحوّل النقاش من النوايا والعموميات إلى وقائع محددة، مستخدمًا "الأبرتهايد" كمصطلح قانوني عرّفته الاتفاقية الدولية في العام 1976 بأنه جريمة ضدّ الإنسانية. لكن دخوله المعجم القانوني لا يجعله مصطلحًا جافًا بل على العكس تمامًا. فإذا بدأت الجهات الفاعلة باعتبار إسرائيل مذنبة بممارسة الأبرتهايد، فسيحمل ذلك تبعات دبلوماسية وسياسية وقانونية واقتصادية بعيدة المدى.

لمصطلح الأبرتهايد إذًا قيمة انفعالية وبلاغية وقانونية وتوجيهية. لكن هل لديه أي جدوى تحليلية؟ هل يساعدنا على فهم ما يحصل في إسرائيل؟ شعرتُ على مضض بأنه يساعد في ذلك، ولا سيما في ضوء زخم التطورات. لكن، لفهم ذلك علينا العودة إلى المعاني التاريخية المحددة (ولا أعني ببساطة المعنى العام أو القانوني) للمصطلح.

كان الأبرتهايد عبارةً عن برنامج ومجموعة من الترتيبات التي فرضها الحزب القومي في جنوب أفريقيا – وهو طرف دخيل ناقم تسلّم السلطة في العام 1948 – إلى أن وافق على التفاوض مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بعد أربعة عقود. لكن تطبيق الأبرتهايد تمّ في إطار نظام متشدّد أساسًا من الحقوق والامتيازات والتحكم والسيطرة (هذا النظام الذي سمح للحزب القومي بالفوز في الانتخابات). من هذا المنطلق، أدّى "الأبرتهايد" إلى تنظيم وترسيخ وتحديد توجهات كانت قائمة قبله، وكان نتاج هذه الممارسات بقدر ما أنتجها.

كان النظام السائد قبل العام 1948 عنصريًا وبالإمكان تسميته أبرتهايد من حيث التأثير والعقلية. لكن بعد العام 1948، بات الأبرتهايد نظام حكم رسميًا كان لا يزال قيد التطوير عندما توصّلت جنوب أفريقيا إلى اتفاق بشأن تفكيكه. وانطوى الأبرتهايد على إجراءات الفصل والعزل، وإنشاء البانتوستانات، وفرض قيود على حركة الأفراد، واختلاف وضعهم القانوني باختلاف عرقهم.

تلفت مقارنة إسرائيل اليوم بجنوب أفريقيا في ظل نظام الأبرتهايد الانتباه إلى مجموعة متنوعة من الممارسات والمؤسسات الإسرائيلية، التي تشمل درجات مختلفة من المواطنة، واختلافًا في الحقوق والواجبات بين المجموعات الإثنية المتنوعة حول قضايا مرتبطة بالإقامة القانونية، وحقوق السفر، وأنظمة التمثيل، والحصول على التقديمات الاجتماعية، وأساليب الحوكمة. إذًا، ثمة اختلافات، لكنها ليست مطلقة دائمًا: فسكان جنوب أفريقيا من غير البيض لم يحرموا من جميع حقوق المواطنة أو التصويت، لكن تمّ منحها بطرق مختلفة أدّت بشكل مطّرد إلى ترسيخ النظام وتعزيزه. ويكمن الاختلاف الأساسي في حالة إسرائيل في ضبابية الترتيبات وعدم استدامتها: فثمة "احتلال" من المستبعد أن ينتهي، وثمة جوانب من الديمقراطية الليبرالية التي تعقّدها ممارسات إقصائية وتمييزية، إضافةً إلى نظام قانوني يحمي إلى حدٍّ كبير الهياكل القائمة بينما يحظّر رسميًا العنصرية. إذا كانت إسرائيل تشبه جنوب أفريقيا، فهي تشبهها قبل العام 1948. وهذا ليس تشبيهًا مغريًا، لكن الأمور قد تتفاقم أكثر.

في الوقت الراهن، يتمثّل السؤال التحليلي في ما إذا كانت إسرائيل تقترب من لحظة 1948 (في جنوب أفريقيا)، تتبنّى القيادة بموجبها برامج واضحة لتنظيم وتعميق وترسيخ وتوضيح الترتيبات التي نشأت خلال العقود الماضية. وبدا هذا الاحتمال واردًا حين كانت الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب وإسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو. وقد نشأ تحالف سعى إلى ضمّ الأراضي المحتلة (لكن من دون السكان) إلى إسرائيل، وكان سيسعى من دون شكّ في هذا الاتجاه. لكن هذا المشروع انحسر لأسباب عدّة، تمحور معظمها حول التكاليف الدولية والفوائد غير المؤكدة. فالوضع القائم يوفر تقريبًا جميع الفوائد المُبتغاة من دون تكاليف كثيرة. لذا، لم يكن من داعٍ لتجاوز هذا الخط.

لكن الانتخابات الأخيرة تدفع إسرائيل على مقربة من هذه العتبة مجدّدًا. هذه المرة، ثمة أقلية قوية تدعم الضمّ، وهي مستعدّة بالكامل لضمّ جزء كبير من أراضي الضفة الغربية إلى إسرائيل بشكل قانوني، ورفض التعامل مع القادة الفلسطينيين أو مع الفلسطينيين كمجموعة قومية، وفرض مجموعة من الترتيبات التي يصعب تمييزها عن البانتوستانات بالنسبة إلى عدد كبير من الفلسطينيين. وستزعم بأنها تحوّل مجموعة من الترتيبات الضرورية إلى ترتيبات تُعتبر إيجابية بالنسبة إلى اليهود الإسرائيليين. أما الفلسطينيون من حاملي الجنسية الإسرائيلية فليس المتوقّع منهم أن يُظهروا ولاءهم للدولة وحسب، بل لمجموعة من السياسات التي تميّز بوضوح بحقّ غير اليهود وتنحاز إلى اليهود. ويبدو أن الموقف الإسرائيلي الكامن هو أنه لتحقيق التطور الحر للشعب اليهودي، سيكون من الضروري أن يدرك الجميع أن سبب تواجد غير اليهود في فلسطين يُعزى إلى تغاضي إسرائيل عن ذلك، وليس لأن هذا حقهم.

لكن إن كان يُتوقّع من الفلسطينيين إبداء الولاء للدولة من خلال الترهيب، فالائتلاف الذي يوشك على حكم إسرائيل لن يظهر هذا الولاء. فحزب الليكود مستعد لإحداث تغييرات جوهرية في جهاز مهم من أجهزة الدولة (النظام القضائي) ليتماشى مع مصالحه. أما بالنسبة إلى أحزاب اليمين المتطرّف، فاحترامها لكيانات الدولة، بما فيها المؤسسة الأمنية بأكملها، لم يتفوق يومًا على طموحاتها العنصرية والتوسعية. ويتمثّل موقفها الضمني إنما الصريح في الوقت نفسه في أن هذه الأجهزة يجب أن تكون في خدمة الشعب اليهودي، ويجب توجيه انتقادات قاسية لها وحتى مقاومة قرارتها إذا عرقلت بناء المستوطنات، أو حاكمت اليهود الذي يهاجمون الفلسطينيين، أو حتى أبدت ضبط النفس تجاه غير اليهود في المواقف المشحونة أو العنيفة.

لا شك أن هذه القوى ستؤدّي إلى ترسيخ جوانب محدّدة في المجتمع والمشهد السياسي الإسرائيلي دفعت عددًا متزايدًا من الأشخاص إلى رفع شعار "الأبرتهايد". لكن هل ستصل الأحزاب اليمينية المتطرّفة وحلفاؤها إلى حدّ الاستغناء عن الأدوات المؤقتة "للاحتلال" والتمييز لصالح تبنٍّ رسمي لعملية الضمّ ولإيديولوجية يهودية عنصرية حاكمة؟

ستجد هذه الأحزاب في الحكومة المقبلة على الأرجح فرصة ذهبية لتحقيق ذلك. لكن بعض المؤشرات الفورية التي أعقبت الانتخابات تظهر أنها قد تحجم عن ذلك في الوقت الراهن. ويُعزى سبب ذلك جزئيًا إلى أنها ستكون صوتًا قويًا لكن غير مهيمن في الحكومة الجديدة. ويبدو أن تردّدها هذا نابع من الانقسامات في أوساط اليهود، لا خوفًا من العواقب الدولية. يُضاف إلى ذلك أن الخطاب المتطرّف سيستهدف إلى حدٍّ كبير اليهود غير التقليديين واليهود المنتمين إلى مجتمع الميم. يرى هذا المنطق أن من الضروري تخويف الفلسطينيين، لكن ينبغي إدانة أفعال اليهود الضالّين – أي المثليين والحاخامات النساء ولاعبي كرة القدم يوم السبت – إنما معاملتهم باحترام. وسيسهم الفشل في ذلك ليس بزيادة الانقسام في أوساط المجتمع الإسرائيلي فحسب، بل سيؤدّي أيضًا إلى إقصاء عدد كبير من اليهود خارج إسرائيل.

وبالتالي، فإن أي كلمات مطمئنة يمكن أن يوجّهها المتطرّفون بعد الانتخابات تستهدف هذه الفئات من اليهود. لكن حتى التطمينات تحمل في طياتها إيحاءات واضحة بالتفوّق اليهودي. فقد قال الوزير المنتظر إتامار بن غفير، متوجّهًا إلى هذه الفئات من اليهود، إلى التوترات الأخيرة التي اندلعت بين الفلسطينيين واليهود في بلدات عدّة، في مقال كتبه: "لا ينبغي أن تخشى الأمهات في بئر السبع السماح لبناتهمن المراهقات بالذهاب إلى المركز التجاري أو السير في شوارع المدينة. ولا ينبغي أن يضطر جندي في إجازة في عكا إلى خلع زيّه العسكري عندما يعود إلى المنزل".

في هذا الإطار، عبّر المحلل البارز والمسؤول الأمني السابق يوسي ألفر عما يمكن اعتباره نظرة تفاؤلية، قائلًا: "إن الديناميكية التنازلية الراهنة ستستمر خلال العقود المقبلة. لم تتمكن هذه الانتخابات من إنهاء هذه الديناميكية. لقد شكّلت عاملًا مساهمًا، لكنها لم توصلنا إلى القاع". لكنه استخدم أيضًا الكلمة المحرّمة سابقًا عند وصف هذا القاع بأنه "كابوس أبرتهايد عنيف ثنائي القومية".

لا يمكن للأحداث التي شهدتها السنوات القليلة الماضية سوى أن تؤكد لي بأن ألفر محق في الحديث عن الاتجاه التنازلي، لكنه قد يكون قلّل من شأن وتيرة التغيير. فقد جادل أولئك الذين يدعمون العملية الدبلوماسية لسنوات كثيرة بأن وقت التوصل إلى حل يوشك أن ينفد، وواصلوا تكرار ذلك حتى بعد فترة طويلة من انهيار عملية السلام. لذا، لا يجب أن يكون مفاجئًا ألا تتمكّن إدارة بايدن، تمامًا كالإدارات السابقة، سوى من التحدّث بارتباك عن الحل الدبلوماسي، على الرغم من أنها أكثر صريحةً بقليل. فبدلًا من التظاهر بوجود عملية سلام، تعهّدت بالعمل على "إعداد الأُسس لعملية سلام متجدّدة". لكن على الرغم من ذلك، أكّدت في معرض التعليق على نتائج الانتخابات الإسرائيلية على "التزام الولايات المتحدة بحلّ الدولتين في المستقبل وبتوفير ظروف متكافئة من الأمن والحرية والعدالة والازدهار في إسرائيل، للإسرائيليين والفلسطينيين على حدٍّ سواء".

لكن لا أعتقد أن هذه الكلمات تقنع حتى ناطقيها.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.