بعد مرور حوالى أسبوعَين على زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى المملكة العربية السعودية، وجّهت هذه الجولة رسائل عدة في إطار السياق الأوسع المتمثّل في العلاقة الثلاثية بين دول الخليج والصين والولايات المتحدة، أبرزها أن دول المنطقة تتبنّى موقفًا مستقلًّا أكثر حيال الصين مما يريد الأميركيون، حتى لو أن هناك حدًّا لمدى استعدادها لمخالفة ما تفضّله واشنطن.
يُشار إلى أن هذه أول رحلة يقوم بها شي إلى خارج شرق آسيا وآسيا الوسطى منذ ثلاثة أعوام، وثالث زيارة خارجية له منذ تفشّي وباء كوفيد-19، وأول زيارة له إلى السعودية منذ العام 2016. وقد شكّلت هذه الزيارة نجاحًا دبلوماسيًا غير مسبوق وصفته وسائل الإعلام الصينية الرسمية بأنه "الخطوة الدبلوماسية الصينية الأكبر والأرفع مستوى مع العالم العربي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية". عقد شي خلال زيارته لقاءات ثنائية مع حوالى 20 قائدًا عربيًا، وكان ملفتًا الاستقبال الحار الذي خصّ به السعوديون شي، مقارنةً مع استقبالهم الفاتر للرئيس جو بايدن حين زار المملكة في تموز/يوليو الماضي. وحضر الرئيس الصيني خلال زيارته ثلاث قمم: القمة السعودية الصينية، وأول قمة خليجية صينية، وأول قمة عربية صينية. حظيت هذه الزيارة باهتمام كبير نظرًا إلى الديناميكيات المتغيّرة في المشهد الجيوسياسي على المستوى العالمي والإقليمي وعلى مستوى الطاقة.
في ما يتعلّق بالديناميكيات الجيوسياسية المتغيّرة على المستوى العالمي، حمل توقيت زيارة شي والاحتفالية التي رافقتها دلالة كبيرة. أعلنت إدارة بايدن في استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها في تشرين الأول/أكتوبر 2022 أن التحدي الأكبر الذي يواجه المصالح الأميركية يتمثّل في تنامي النفوذ الصيني، لذا تولي واشنطن الأولوية الأساسية إلى تعزيز الردع الأميركي حيال الصين. واقع الحال أن الولايات المتحدة قلقة حيال توطيد العلاقات بين الصين والدول الحليفة لأميركا في الخليج والشرق الأوسط، والتي أُبلِغت بأن تعزيز علاقاتها مع بيجينغ قد يضرّ بتعاونها مع واشنطن التي تُعدّ حليفها الاستراتيجي الأول وشريكها الأمني. يهمّ السعودية وبعض الدول الإقليمية الأخرى الانضمام إلى الأطر المتعدّدة الأطراف التي تقودها الصين، مثل منظمة شانغهاي للتعاون وخطة بريكس+ التي طُرحت في العام 2017. وقد حصلت كلٌّ من مصر والسعودية وقطر مؤخرًا على صفة "شريك حوار" في منظمة شانغهاي للتعاون، ويُتوقّع أن تحذو البحرين والكويت والإمارات حذوها أيضًا.
أتت زيارة شي إلى الرياض في وقتٍ تشهد العلاقات السعودية الأميركية تشنّجات على خلفية قضايا عدة، من ضمنها ملف حقوق الإنسان، والحرب في اليمن، وقرار أوبك+ خفض إنتاج النفط، وغيرها من المسائل المتعلقة بالسياسة الخارجية. خير دليل على تبدّل الرهانات في المنظومة الاقتصادية العالمية هو أن النفوذ الصيني يتنامى باطّراد، إذ تدلّ معظم المؤشرات على أن مركز الاقتصاد العالمي في طور التحوّل شرقًا باتجاه آسيا، التي من المتوقع أن تسجّل 50 في المئة من إجمالي الناتج المحلي و40 في المئة من الاستهلاك العالمي بحلول العام 2040. يُذكر أن الصين تعتمد على صادرات الطاقة الخليجية في حوالى 30 في المئة من حاجاتها السنوية على مستوى الطاقة. وهي الشاري الأكبر عالميًا للنفط، فيما أصبحت السعودية، المصدّر الأكبر للنفط عالميًا، الشريك التجاري الأكبر للصين، إضافةً إلى تزويدها بالنفط الخام.
مع أن مصالح بيجينغ في الشرق الأوسط كانت ربما مدفوعةً بحاجاتها إلى موارد الطاقة، باتت علاقاتها مع المنطقة اليوم أكثر تنوّعًا. فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، أصبحت الصين على نحو مطّرد شريكًا أساسيًا لدول مجلس التعاون الخليجي في قطاعات عدة مثل البنى التحتية، والاستثمار، وتجارة السلع والخدمات، والتكنولوجيا الرقمية، والدفاع. وتُعتبر السعودية في صُلب هذه التوجهات. فقد فاقت قيمة التجارة بين الصين والسعودية 80 مليار دولار في العام 2021، وحقّقت الشركات الصينية إيرادات تفوق 36 مليار دولار من عقود المقاولات في السعودية منذ العام 2005. وفي العام 2021 كذلك، بلغت الواردات الصينية من النفط الخام السعودي نحو 44 مليار دولار، ما يمثّل 77 في المئة من إجمالي واردات الصين من السلع السعودية.
إضافةً على ذلك، برزت الصين على مدى العقود السابقة على أنها شريك مهم للكثير من الدول الأخرى في مجلس التعاون الخليجي. فمعظم الحكومات الخليجية تعتمد على الطاقة لدعم عملية تنويع اقتصاداتها، في حين أن الصين بحاجة إلى المواد الهيدروكربونية من دول الخليج لتشغيل عجلتها الاقتصادية. ونظرًا إلى بروز قادة شباب وطموحين في الخليج، وإلى خططهم الرامية إلى تنويع اقتصادات دولهم، بات يُنظر إلى الصين باعتبارها نموذجًا يُحتذى به من أجل تحقيق مزيدٍ من النمو في المستقبل. كذلك، توفّر بيجينغ لدول مجلس التعاون الخليجي فرصة استراتيجية للتحوّط في رهاناتها بين قوّتَين عظيمتَين. وشكّلت زيارة شي لحظة بارزة في سياق الدور الأكثر فعالية الذي باتت تؤدّيه المملكة على المستوى العالمي، واختبارًا مهمًا لمدى قدرة السعودية على تحقيق التوازن بين طموحاتها ومصالحها الأخرى من جهة، وضرورة الحفاظ على علاقتها الأمنية الحيوية مع الولايات المتحدة من جهة أخرى.
تعمد الصين والدول العربية إلى توطيد علاقاتهما على نحو متزايد، من خلال إطلاق منتدى التعاون الصيني العربي في العام 2004 على سبيل المثال، ومعرض الصين والدول العربية في العام 2013. وعلى مدى العقد الماضي، عزّزت مبادرة الحزام والطريق هذا الزخم.
كان الهدف من زيارة شي إلى السعودية ترسيخ العلاقات القائمة بين البلدَين والتعويل في الوقت نفسه على شعبية الصين في الدول العربية. فقد كرّرت بيجينغ من جديد دعمها لمسارات التنمية المستقلة التي ينتهجها شركاؤها العرب. وخلال الزيارة، وقّعت الصين وعدد من الدول العربية اتفاقات عدّة في قطاعات متنوعة، شملت الطاقة، والبنى التحتية، والتمويل، والتعليم، والتكنولوجيا، وغيرها. وتطرّقت الدول الأطراف في بياناتها المشتركة إلى قضايا إقليمية حساسة على غرار البرنامج النووي الإيراني، والأزمة السورية، وعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، والنزاع الإيراني الإماراتي حول الجزر، ما أثار حفيظة إيران.
اتفقت السعودية والصين تحديدًا على تحويل علاقاتهما الثنائية إلى "شراكة تعاونية استراتيجية شاملة"، على خطى الإمارات وإيران ومصر والجزائر، وقرّرتا عقد اجتماعات بين قادة البلدَين مرة كل سنتَين. ويفتح توطيد الروابط بين الرياض وبيجينغ آفاقًا واسعة لمستقبل العلاقات الصينية العربية. مع ذلك، ساورت بعض الدول العربية مخاوف على خلفية توقيع إيران والصين اتفاقية تعاون استراتيجي لمدّة 25 عامًا في آذار/مارس من العام الماضي. ويأمل السعوديون والإماراتيون في أن يسهم توثيق علاقاتهما مع بيجينغ في الحدّ من نفوذ إيران مع الصين، فيما تبدأ هذه الأخيرة بتوسيع نطاق نفوذها الاقتصادي والاستراتيجي في الخليج. علاوةً على ذلك، أعربت المملكة عن اهتمامها الكبير بالانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق، و"مواءمتها" مع خطط التنمية الخاصة برؤية السعودية 2030.
كذلك، اقترح شي تحقيق التعاون بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي في خمسة مجالات رئيسة خلال السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة، هي مجالات الطاقة، والتمويل والاستثمار، والابتكار والتكنولوجيات الجديدة، والفضاء، إضافةً إلى اللغة والثقافات. وعبّر الرئيس الصيني أيضًا عن ترحيب بلاده بمشاركة دول مجلس التعاون الخليجي في مبادرة الأمن العالمي التي اقترحها في وقت سابق من هذا العام، التي يُنظر إليها على أنها تحدٍّ للنفوذ الأميركي في المنطقة. ومن المؤشّرات الأخرى على قيام السعوديين بإعادة إرساء التوازن في علاقاتهم أنهم وجّهوا رسائل قوية مفادها أنهم يفكرون في بيع نفطهم باليوان الصيني أو عملات أخرى، في وجه تشريع أميركي محتمل يعرّض الدول الأعضاء في منظمة أوبك لمواجهة دعاوى قضائية بموجب قانون مكافحة الاحتكار. الجدير بالذكر أن المخاوف السعودية تفاقمت في مطلع كانون الأول/ديسمبر، عندما انضمت مجموعة الدول السبع وأستراليا إلى الاتحاد الأوروبي من أجل اعتماد سقف لسعر النفط الروسي عند 60 دولارًا للبرميل، وهو ما يهدف أساسًا إلى الحدّ من قدرة روسيا على تمويل حربها ضدّ أوكرانيا. ويبدو أن الدول المصدّرة للنفط تشعر بالقلق إزاء آلية العقوبات، إذ يمكن أن تطال الدول الأعضاء في منظمة أوبك.
علاوةً على ذلك، دعا شي، مستغلًا إمكانية بروز خلافات بين الدول المصدّرة للنفط والدول الغربية، كلًا من بلاده والدول الخليجية إلى الاستفادة بشكل كامل من بورصة شانغهاي للنفط والغاز كمنصة لتسوية تعاملات النفط والغاز باليوان. لكن من شأن أي إجراء قد تعتمده السعودية ودول أخرى منتجة للنفط لاستخدام اليوان بدلًا من الدولار الأميركي في التعاملات النفطية أن يشكّل خطوة جريئة قد تؤثر سلبًا على العلاقات الأميركية السعودية. لهذا السبب، من المستبعد حصول ذلك في المستقبل المنظور.
يتمثّل مصدر القلق الآخر للولايات المتحدة في مدى تبنّي حلفائها الخليجيين لتكنولوجيا الاتصالات الصينية. وقد حذّر المسؤولون الأميركيون حلفاءهم الخليجيين مرارًا من المخاطر الأمنية التي قد تترتّب على عملهم مع شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي. في هذا الإطار، يُعتبر طريق الحرير الرقمي التابع لمبادرة الحزام والطريق الصينية وثيق الصلة بالخطط الرقمية الوطنية الحالية في دول مجلس التعاون الخليجي، ناهيك عن أن الصين حريصة على العمل مع الحكومات الخليجية لتعزيز التعاون في تكنولوجيا الجيلَين الخامس والسادس للشبكات الخليوية ذات النطاق العريض. تجدر الإشارة إلى أن مشاريع الجيل الخامس الصينية في السعودية والإمارات وأماكن أخرى في المنطقة أحرزت تقدّمًا، على الرغم من الاعتراضات الأميركية، ووقّعت شركة هواوي اتفاقًا مع المملكة خلال زيارة الرئيس الصيني.
وصف البيت الأبيض مساعي شي الرامية إلى توسيع نطاق النفوذ الصيني في الخليج بأنها "لا تتلاءم مع النظام الدولي"، واعتبر الأميركيون الزيارة بمثابة دليل على أن الرياض تتخلّى عن علاقتها التقليدية مع واشنطن وتحوّل تركيزها إلى بيجينغ. لكن إشارة شي إلى "العالم المتعدّد الأقطاب" في معرض حديثه تعني ضمنًا أن الصين ليس عليها تحدّي الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كي تؤدّي دورًا أكبر تجاه الدول العربية. فهي لا يمكنها أن تحل محل الوجود الأميركي في الخليج، وتحديدًا الوضع الأمني الأميركي في المنطقة، وليست متلهّفة لفعل ذلك. يُضاف إلى ذلك أن السعوديين وشركاءهم الخليجيين لا يرغبون كذلك في التخلّي عن صداقة عمرها عقود مع واشنطن، لكنهم يشعرون بأن عليهم التكيّف مع الواقع الجيوسياسي الراهن من خلال تنويع علاقاتهم.