المصدر: Getty
مقال

هل سيؤدي الاتفاق الإطاري بين قادة السودان العسكريين والمعارضة المدنية إلى استعادة الحكم المدني؟

مطالعة دورية لخبراء حول قضايا تتعلق بسياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومسائل الأمن.

نشرت في ١٢ يناير ٢٠٢٣

خلود خير | مديرة مؤسّسة لمركزConfluence Advisory ومقره الخرطوم

أثنى الكثيرون على الاتفاق الإطاري السوداني، واعتبروه الخطوة الأولى على طريق إنهاء انقلاب العام 2021، الذي أطاح بحكومة عبد الله حمدوك المدنية. اضطلع الاتفاق، الذي وُقّع في 5 كانون الأول/ديسمبر 2022، بأهمية ملحوظة من نواحٍ عدّة، لكن لا يبدو أن أيًا منها قادر على إحياء الحكم المدني الفعلي. لقد تمّ التوصّل إلى هذا الاتفاق في الأساس بين تحالفَين ضعيفَين: الأول يتألف من القوى المؤيدة للانقلاب بقيادة اللجنة الأمنية التابعة للرئيس المخلوع عمر البشير، التي أدركت أنها غير قادرة على حكم بلد يعاني من أزمات اقتصادية وسياسية وعسكرية، معظمها من صنعها، والثاني يتمثّل في معسكر منقسم مؤيد للديمقراطية ويفتقر إلى دعم قاعدته الانتخابية الرئيسة، أي المحتجين الذين قادوا الانتفاضة ضدّ البشير والذين يرون الاتفاق على أنه محاولة فاشلة لإرساء حكم مدني.

من الممكن أن يؤدي الاتفاق، في أفضل الأحوال، إلى تسليم السلطة البيروقراطية للمدنيين، والإبقاء في الوقت نفسه على السلطة السياسية في أيدي مجموعة من الجهات الأمنية الفاعلة، وعلى رأسها الانقلابيون أنفسهم. الواقع أن التصريحات التي أدلى بها رئيس النظام السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان لقناة الحدث الإخبارية السعودية عقب الاتفاق، كشفت النوايا الحقيقية للقادة العسكريين في ما يتعلق بتسليم السلطة إلى المدنيين. لم يفاجأ سوى عدد قليل من السودانيين عند إدراكهم أن البرهان لم يكن ينوي الامتثال لقائد مدني. وفي نظام سياسي لا مكان فيه سوى للفائزين أو الخاسرين، يُعتبر الرابح الأكبر من هذا الاتفاق قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية الفريق أول محمد دقلو المعروف بـ"حميدتي"، الذي يرفعه الاتفاق من نائب للبرهان إلى مساوٍ له (وسيتعيّن عليهما الامتثال لرئاسة رمزية)، وهي خطوة تضع السودان على مسافة أبعد من الحكم المدني وأقرب إلى حرب أهلية محتملة.

يُعدّ الاتفاق، الذي جرى التفاوض بشأنه على مدى أشهر عدّة وظاهريًا من خلال الآلية الثلاثية التي تضمّ الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، محاولة فوضوية للتدخّل الدولي، مع العلم بأن الجزء الأكبر من العمل يقع على عاتق ما يسمى بالمجموعة الرباعية، أي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. واكتسب الأمر زخمًا عندما أدرك قادة السودان العسكريين ورعاتهم في المنطقة، ولا سيما مصر والإمارات، أن بإمكانهم التلاعب بالاتفاق، وشراء الوقت، ورفض تقديم أي تنازلات، وفي الوقت نفسه الحصول على الثناء الدولي لخطوتهم التصالحية كما تبدو. وعليه، يحظى الاتفاق بدعم دولي أكثر بكثير من الدعم المحلي.

وعلى الرغم من ذلك، يمثّل الاتفاق الآن حقيقة غير مؤاتية على الأرض، إذ أدّى إلى مواءمات بين الحلفاء السابقين، وتشرذم الكتل السياسية الهشة أساسًا في السودان، وعرض إطار زمني طموح للغاية للمرحلة الثانية، التي انقضت أساسًا. وتبدو آفاق حصول المرحلة الثانية على الشرعية الشعبية قاتمة. مع ذلك، يأمل أبطال الاتفاق أن تؤدي ورش العمل التوافقية التي تمّ إطلاقها مؤخرًا لمناقشة القضايا الشائكة إلى كسب دعم الشعب السوداني حول النتيجة المُفترضة للاتفاق، وإلى توقيع اتفاق نهائي، يقول المطلعون على المسألة أنه سبق أن تمت صياغة مسودة له، ما يجعل ورش العمل الحالية مجرد مسرحية.


 

إدوارد توماس | أستاذ وناشط في مجال حقوق الإنسان، وباحث في شؤون السودان وجنوب السودان، ومؤلّف كتاب South Sudan: A Slow Liberation (جنوب السودان: التحرّر البطيء)، (منشورات زيد بوكس، 2015) وكتاب Islam’s Perfect Stranger: The Life of Mahmud Muhammad Taha, Muslim Reformer of Sudan (غريب الإسلام الحق: حياة محمود محمد طه، مسلم إصلاحي من السودان) (منشورات أي بي توريس، 2010). يمكن متابعة تغريداته على تويتر: @eddiethomas88.

أدّت الاحتجاجات التي شهدتها المدن السودانية والتي أطاحت بنظام عمر البشير الدكتاتوري في العام 2019 إلى إبرام اتفاق لتقاسم السلطة بين قوى الأمن (أي الجيش والميليشيا وأجهزة المخابرات) والتكنوقراط المدعومين من قوى إعلان الحرية والتغيير، وهي عبارة عن تحالف بين أحزاب سياسية وتجمّعات نقابية ولجان المقاومة المحلية التي واجه شبابها قنّاصي البشير وانتصروا. وبعد سلسلة من المفاوضات، وقّعت حكومة تقاسم السلطة في العام 2020 اتفاقية سلام مع تحالف من المجموعات المسلحة المتمرّدة التي انضمّت إلى الحكومة في العام 2021. وقد حافظت الاتفاقات بين هذه التحالفات على نوعٍ من التماسك بين القوى السياسية السودانية المنقسمة لبضعة أشهر، إلى أن نفّذ قائد القوات المسلحة والحاكم الفعلي للبلاد عبد الفتاح البرهان انقلابه، مدعومًا من بعض المتمرّدين السابقين.

تخوّف العسكريون من أن يرغمهم المدنيون في حكومة تقاسم السلطة على التخلّي عن الشركات التجارية التي تسيطر عليها المؤسسة العسكرية والتي تمسك مقاليد قطاعات التصدير الأساسية، وكانوا يسعون إلى اتفاق مُربِح أكثر مع المدنيين. في 5 كانون الأول/ديسمبر 2022، وقّع فصيل من قوى إعلان الحرية والتغيير اتفاقًا إطاريًا مبهمًا مع الجيش يرمي إلى تدشين مسار ينتهي إلى إجراء انتخابات في السودان وإرساء الحكم المدني. شرح البرهان، في مقابلة خاصة أجرتها معه قناة الحدث في شهر كانون الأول/ديسمبر، ماهية هذا الاتفاق المُربِح، وقوامه أن يحظى السودان بقائد عام مدني "يوافق ويصادق" على كل الطروحات التي يقدّمها الجيش. رحّبت معظم السفارات بهذا الاتفاق، فيما أبدى المتمرّدون السابقون الذين دعموا انقلاب العام 2021 قلقهم، وعارضته لجان المقاومة. وعمدت قوات الدعم السريع، الميليشيا التي يقودها نائب البرهان النافذ، إلى تنفيذ هجمات في دارفور ما إن تم توقيع الاتفاق.

قد يصمد الاتفاق في حال أمّن دعم السفارات العملات الصعبة. فقد زعزع العجز الكبير في الموازنة والميزان التجاري أركان نظام البشير. وقد طبّق التكنوقراط والمتمرّدون السابقون إجراءات على مستوى الاقتصاد الكلّي كان من المفترض أن تساعد الحكومة على تمويل هذه العجوزات. أسهمت هذه الإجراءات بشكل متواضع في خفض العجز، بيد أنها فشلت في تأمين استثمارات أو قروض جديدة، وتم عكسها بعد تنفيذ البرهان انقلابه في العام 2021. كانت الإجراءات قاسية للغاية، إذ تسبّبت بمعدّلات غير مسبوقة من التضخم والجوع، من دون أن تعالج الأسباب البنيوية للجوع واللامساواة في السودان، والمتمثّلة تحديدًا في منظومة تجارية تتحكّم بالفائض المالي للبلاد وتهيمن عليها المؤسسة العسكرية. ويهدف اتفاق البرهان المُربِح إلى ضمان بقاء هذه المنظومة واستمرارها.


 

آمال حمدان | خبيرة بارزة في النُظم الانتخابية والحوكمة والأطر القانونية، متخصصة في شؤون السودان وعمليته الانتقالية

من الممكن أن يؤدي الاتفاق إلى تشكيل حكومة مدنية، لكن ذلك لا يعني بأي شكل من الأشكال أن السودان سيصبح دولة يحكمها مدنيون.

يتولى الفريق أول محمد دقلو المعروف بـ"حميدتي"، أحد الموقّعين على الاتفاق، قيادة أقوى مجموعة شبه عسكرية في السودان، قوات الدعم السريع، ويُعتبر ربما أحد الشخصيات المهيمنة في البلاد راهنًا. وبما أن حميدتي كان القائد السابق لميليشيا الجنجويد، التي قام الرئيس المخلوع عمر البشير بنشر عديدها لقمع الانتفاضة بعنف، وجّهت هيومن رايتس ووتش إليه اتّهامات بالإشراف على عمليات التعذيب والقتل خارج القانون والاغتصاب الجماعي في ولايات دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان. علاوةً على ذلك، اتُّهمت قوات الدعم السريع بقيادته مؤخرًا بقتل المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في الخرطوم. لكن حميدتي ينفي توّرط قوات الدعم السريع في هذه الأعمال.

وعلى الرغم من أن الاتفاق الإطاري ينصّ على أن تخضع القوات الحكومية لقيادة مدنية، لا يأخذ في الحسبان الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في دارفور، ناهيك عن أنه يُرجئ مناقشة قضايا العدالة الانتقالية إلى المرحلة الثانية من المناقشات. ويُعتبر هذا سببًا من أسباب معارضة المجموعات المعروفة باسم لجان المقاومة للاتفاق، علمًا بأنها قادت الاحتجاجات المطالبة بالحكم المدني ومنع الجيش من الانخراط في الحياة السياسية، وتريد أن تتضمن عملية إرساء حكم مدني تدابير محاسبة ملموسة.

ثمّة اعتقاد واسع النطاق أن الجيش يسعى إلى الحصول على عفو عن الفظائع التي ارتكبها، ما من شأنه، إلى جانب تشكيل حكومة مدنية، أن يمهّد الطريق أمام إجراء انتخابات. ونظرًا إلى أن النظام الانتخابي الراهن في السودان لا يتضمن آليات العدالة الانتقالية التي من شأنها محاسبة الأفراد المتهمين بارتكاب انتهاكات في ظل النظام السابق، يمكن لحميدتي الترشّح للانتخابات الرئاسية. وقد يؤدي الاتفاق، في غياب آليات عدالة انتقالية متينة، إلى إرساء حكم مدني يكون فيه حميدتي على رأس السلطة.


 

يزيد صايغ | باحث رئيسي في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، تركّز أبحاثه على الأدوار السياسية والاقتصادية المقارَنة للقوات المسلحة العربية، والجوانب السياسية لعملية إعادة الإعمار بعد النزاع، وتحوّل قطاع الأمن خلال المراحل الانتقالية في الدول العربية.

على الورق، يُعدّ الاتفاق السياسي الإطاري الذي وُقِّع في 5 كانون الأول/ديسمبر 2022 انعطافة مذهلة عن الإعلان الدستوري المؤقت الذي حكم العملية الانتقالية في السودان بين آب/أغسطس 2019 والانقلاب العسكري في تشرين الأول/أكتوبر 2021. في المقام الأول، يؤكّد الاتفاق السياسي الإطاري على وجوب أن تكون السلطة الحاكمة الجديدة في البلاد ديمقراطية ومدنية بالكامل، من دون مشاركة القوات المسلحة. في العام 2019، كانت المؤسسة العسكرية – على شكل المجلس العسكري الانتقالي – من الجهات الموقّعة على الإعلان الدستوري المؤقت، وعضوًا في مجلس السيادة الذي تسلّم الصلاحيات الرئاسية. وكانت لمجلس السيادة السطوة على مجلس الوزراء المدني الذي كان دوره يقوم بصورة أساسية على توفير الخدمات؛ وشغل قائدا القوّتَين المسلحتَين الأساسيتَين في السودان أيضًا منصبَي الرئيس ونائب الرئيس في مجلس السيادة قبل الانقلاب. أما في الاتفاق السياسي الإطاري الجديد، فلم يختفِ المجلس العسكري الانتقالي فحسب، بل باتت القوات المسلحة غير ممثّلة على أي مستوى من مستويات الحكومة إطلاقًا، ومُنِعَت بموجب نصٍّ صريح من التدخّل في السياسة.

تُظهر المقارنة بين الاتفاق السياسي الإطاري والإعلان الدستوري المؤقت أن هذا التباين يسري على مجموعة من المسائل التي تكتسي أهمية سياسية جوهرية للعلاقات المدنية العسكرية في السودان، في المرحلة الانتقالية، وفي المستقبل كما يؤمَل. وبدلًا من أن تقع القوات المسلحة حصرًا تحت سلطة القائد الأعلى للقوات المسلحة ومجلس السيادة بقيادة عسكرية، ستخضع الآن لسلطة رئيس الدولة (الذي لا يمكن أن يكون سوى مدني، طالما تم الالتزام ببقية أحكام الاتفاق السياسي الإطاري)، في حين أن مجلس الأمن والدفاع الجديد الذي سيتشكّل سيكون بقيادة رئيس الوزراء الذي هو حكمًا شخصية مدنية. وقد أُسقِط البند الوارد في الإعلان الدستوري المؤقت والذي ينص على أن "المكوّن العسكري في مجلس السيادة" هو الذي يرشّح وزير الدفاع؛ وعملًا بالبند الوارد في الاتفاق السياسي الإطاري والذي ينص على أن تكون الحكومة الانتقالية مدنية بالكامل، لا يجوز أن يتسلّم ضابط في القوات المسلحة حقيبة وزارة الدفاع. ثم يحظّر الاتفاق السياسي الإطاري على القوات المسلحة المشاركة في أنشطة أو استثمارات تجارية. بالمقارنة، لم يأتِ الإعلان الدستوري المؤقت بتاتًا على ذكر سيطرة وزارة الدفاع على مئات الشركات المملوكة من الدولة، ومن شبه المؤكد أن سعي الحكومة لاستعادة السيطرة المدنية على هذه الشركات قد ساهم في دفع القوات المسلحة إلى القيام بانقلاب العام 2021. كذلك، تنبغي الإشارة إلى أن الإصلاح العسكري مطروحٌ من جديد على جدول الأعمال، إنما هذه المرة وفقًا لخطة ستضعها الحكومة (المدنية) الانتقالية، بدلًا من أن يُترَك الأمر في عهدة الجيش.

لعلّ خرق البنود السابقة سيكون هو السائد خلال ما تبقّى من المرحلة الانتقالية، لا التقيّد بها. ولكن سيكون من الأصعب التهرّب من الالتزام الرسمي بدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. فقوات الدعم السريع التي أنشأها الدكتاتور المخلوع عمر البشير في العام 2009 لتكون بمثابة جيشٍ ثانٍ، والتي تدير مصالح تجارية واسعة خاصة بها أيضًا، هي جهة منافسة في نظر القوات المسلحة، وتثير امتعاضها. فضلًا عن ذلك، سعى قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد دقلو المعروف بـ"حميدتي"، منذ العام 2019، إلى وضع نفسه على قدم مساواة مع القائد الأعلى للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان من حيث مكانته المحلية والدولية. لذا، من المذهل قبول حميدتي بالدمج المقترح لقوات الدعم السريع في القوات المسلحة.

يصعب التصديق أن أيًّا من هؤلاء الأفرقاء العسكريين ملتزمٌ حقيقةً بجدول أعمال الاتفاق السياسي الإطاري الواسع النطاق، لكن اللافت بالدرجة نفسها شعورهم بأنهم مرغمون على القبول به، ولو شكليًا. ربما وقّعوا على هذه البنود لكسب الوقت فحسب، لكنهم بخطوتهم هذه أضفوا عليها الشرعية. لذلك، حتى لو نكثوا بها، وهو أمر مرجّح، ينبغي على النشطاء المناصرين للديمقراطية – بما في ذلك لجان المقاومة التي تواصل احتجاجاتها رفضًا للاتفاق السياسي الإطاري – أن يتبنّوا جدول الأعمال هذا بمثابة أساس لجميع السياسات أو المفاوضات المستقبلية مع الأفرقاء المحليين أو الخارجيين.