تسلّلت أشعّة الشمس من المحيط الأطلسي منسابةً على تلال مقاطعة مايو التي تكسوها نباتات السرخس بأوراقها البنية، متسلّقةً جبل "كروج باتريك"، المعروف بـ"الجبل المقدّس"، الذي تتّخذ قمته شكلًا يكاد يكون مخروطيًا بالكامل، وتهيمن على المشهد الطبيعي لمسافة شاسعة. أما داخل غرفة المعيشة الضيقة في بيت صغير في قرية "إملاغ" يبعد عشرات الأمتار من الشاطئ، فتستقبلك الفوضى المنظمة لحياة أمضاها صاحبها متنقّلًا بين أماكن مختلفة بعيدة كل البعد عن ساحل إيرلندا الغربي الجامح والجميل.
تلفتك الكتب. رفوفٌ ورفوفٌ تغصّ بكتبٍ حول إيرلندا وتشمل التاريخ والشعر والسير الذاتية. لكن غالبيتها تتمحور حول الشرق الأوسط، وتقدّم عناوينها البادية على جوانبها نبذة سريعة عن المنطقة: المملكة العربية السعودية وإيران؛ لبنان وسورية والعراق وإسرائيل؛ حزب الله والشيعة والأكراد، إضافةً إلى عناوين تتراوح من الفينيقيين إلى تنظيم الدولة الإسلامية، مرورًا بالحروب الصليبية والإمبراطورية العثمانية.
عُلِّقت على أحد الجدران خريطة حول قبائل منطقة شبه الجزيرة العربية، وعُلّق على آخر ملصق باهت من حفلة لفيروز في مهرجانات بعلبك للعام 1998. ووُضع إطار في داخله مقال من صحيفة "ذا فاينانشل تايمز" عن النبيذ اللبناني، إلى جانب صور لرجال أقوياء يرتدون عمامات ويطلقون شواربهم ويمتشقون بنادق من طراز كلاشنكوف، يرافقهم أحيانًا رجل أوروبي مرتبك وشاحب الوجه.
أما المجموعة الموسيقية في هذا البيت فلا تقلّ تنوّعًا، وتنمّ عن ذوق رفيع، إذ تضم بغالبيتها الساحقة موسيقى الجاز، وتُلمح إلى أن صاحبها كان لديه نوع من الهوس الموسيقي: فحزمة الأقراص الستة التي تضم أعمالًا غير منشورة من تسجيلات Bitches Brew لمايلز ديفيس هي لهواة الجمع المخضرمين. وتشمل المجموعة أيضًا ألبومات لأنور ابراهم وربيع أبو خليل ونسيم معلوف وفيروز والرحابنة.
توفّي غارث سميث، صاحب هذه الأغراض، فجأةً في 15 كانون الثاني/يناير عن عمر الـ64 بعد أن خرج في نزهة مشيٍ يوم الأحد، وكان من بين الصحافيين الذين تميّزوا بحسّهم المرهف ونزعتهم التعبيرية من أبناء جيله. لم يكن اسمه معروفًا جدًّا على نطاق واسع، لكنه كتب عن لبنان والعراق وإيران وكردستان بطريقة قدّمت لقرّاء "ذا فاينانشل تايمز" و"ذا غارديان" وغيرهما من المطبوعات، إضافةً إلى مستمعي إذاعة بي بي سي، صوتًا من خارج السردية الغربية المعلّبة، يتّسم بقدرٍ كبير من النزاهة واللباقة والإنصاف.
تجنّب سميث عيش نمط حياة يحاكي صورة المراسل الأجنبي القاسي الذي يفرط في تناول الكحول. فهو من قماشة أرفع مقامًا، أقرب إلى ديفيد هيرست منه إلى روبرت فيسك. سميث الإيرلندي ولد وترعرع في الجوار الرتيب لضاحية "سلاو" الواقعة غرب لندن، وهو الأصغر بين أربعة أشقاء توفيت والدتهم عندما كان لا يزال طفلًا في الحادية عشرة من عمره. وارتاد سميث جامعة أكسفورد حيث درس الفلسفة والسياسة والاقتصاد، ثم عمل لدى مجلس "كامدن" العمّالي، قبل أن يحطّ الرحال في مجال الصحافة.
في العام 1996، لفتت تغطيته للنزاع بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي في المنطقة الجبلية الواقعة بين تركيا والعراق – وهي منطقة رسمت معالم حياته المهنية خلال السنوات العشرين اللاحقة - انتباه مالك صحيفة "ذا دايلي ستار" اللبنانية جميل مروة، فعيّن سميث كمحرّر في صحيفته الناطقة باللغة الإنكليزية التي كان يعاود إصدارها في بيروت.
كانت تلك مرحلة ملفتة ومثيرة للاهتمام في العاصمة اللبنانية، حيث ساد نوعٌ من التفاؤل الحذر بعد حرب أهلية دامت عقدًا ونصف، على الرغم من أن نسبة 10 في المئة من البلاد تقريبًا كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي، في حين أن سائر البلاد كان يُدار من دمشق. كان لبنان يزخر بالقصص القيّمة التي تحتاج إلى التنقيب عنها وسردها، وأثبت سميث أنه كاتبٌ متعدّد المهارات، حتى بعد مغادرته صحيفة "ذا دايلي ستار" للانضمام إلى فريق "ذا فاينانشل تايمز". فإضافةً إلى كونه صحافيًا سياسيًا حذقًا، كان أيضًا مراسلًا ماهرًا وحريصًا في قسم الأعمال، وكاتبًا موهوبًا في مواضيع متنوعة وناقدًا موسيقيًا.
في العام 2003، عُيّن مراسل الشؤون الإيرانية في "ذا فاينانشل تايمز"، وتولّى في تلك الفترة أيضًا تغطية غزو العراق واحتلاله، قبل أن يعود أدراجه إلى إيرلندا ليعيش في عزلةٍ درامية وهانئة.
أصبح سميث صوتًا جديرًا بالتذكّر بفضل مثابرته ورفضه الانصياع لطرف واحد في عالم قائم على الثنائيات بشكل متزايد. لقد أتقن سميث خوض غمار المنطقة الرمادية، لكن غالبًا ما رأى منتقدوه أنه سمح لروحه الإنسانية وتعاطفه مع المضطهدين والمظلومين بتبرير ما لا يمكن تبريره. لكن القبول بهذا الرأي يعني غضّ الطرف عن مفارقة مقنعة: ففي منطقة لا شيء فيها كما يبدو للوهلة الأولى في الكثير من الأحيان، كانت الثغرات المفترضة في قراءة سميث لمواقف معينة في الواقع عبارة عن فهمٍ نابع من تقدير فطري للطبيعة البشرية المعقّدة، وإن كان مضلّلًا أحيانًا.
على سبيل المثال، أُعجب سميث بوطنية السياسي العراقي أحمد الجلبي، الذي التقى به للمرة الأولى في العام 1992 في شمال العراق الخاضع لسيطرة الأكراد، على الرغم من علمه بأنه لم يتعاون مع إدارة بوش وحسب، بل قام باستغلالها أيضًا قُبيل غزو العراق. وفي مقال صدر في صحيفة الغارديان في العام 2015، تحدّث سميث عن الجلبي، الذي كان قد توفي إثر إصابته بنوبة قلبية، قائلًا إنه "لم يرَ أي تناقض بين كونه عراقيًا يعتزّ بوطنيته... وشيعيًا تربطه علاقات وثيقة بإيران ولبنان. جعله ذلك من الصعب فهمه، إن لم يكن مستحيلًا، بالنسبة إلى أولئك الذين أرادوا رؤية العالم بشكل تبسيطي على أنه أبيض وأسود". وقد يمكننا القول حتى إن سميث ربما كان يكتب عن نفسه من خلال هذه السطور.
وبالمثل، كان سميث متعاطفًا مع شيعة لبنان، وهو موقف أغشى أحيانًا موقفه من حزب الله، الذي قبِله على أنه تعبير طبيعي عن موقف طبقة فقيرة، وميليشيا قوية لا ترحم على السواء.
أشار المحامي اللبناني والمرشح الرئاسي السابق شبلي ملّاط، الذي كان صديقًا قديمًا لسميث، إلى أن امتناع سميث عن إدانة أي طرف ووضعه في خانة "أولاد الحرام بلا منازع" (باستثناء إسرائيل) تسبّب له في الكثير من الأحيان بخلافات مع زملائه. فقد أفضت آراؤه، التي عبّر عنها قبل وفاته، حول التدخل الإيراني في سورية ودول عربية أخرى إلى نشوب خلاف حادّ مع صديقه المقرّب الصحافي الأردني خالد يعقوب عويس. لكن سميث يحظى باحترام كبير لدرجة أن عويس كتب مقالًا تقديرًا له في صحيفة "ذا ناشونال"، معبّرًا فيها عن ندمه على أنهما لم يتصالحا قبل وفاته.
لقد عزا كثيرون، على نحو غير منصف، تعاطفه مع الشيعة إلى تأثّره بالعلاقة الطويلة الأمد التي جمعته مع الصحافية والكاتبة الشيعية زينب شرف الدين. لكن هذا الاتهام غير دقيق، إذ إن شرف الدين لم تكن يومًا من أنصار حزب الله، ناهيك عن أن هذا الادّعاء يقلّل من شأن ميل سميث الكبير والطبيعي تجاه شعب شعر معه بارتباط فطري.
علاوةً على ذلك، أطلق البعض على سميث زعمًا استعماريًا بشعًا لا أساس له من الصحة ومفاده أنه تحوّل إلى "أحد السكان الأصليين"، لكن هذا الزعم تجاهل قوة فضوله المتهوّر. واقع الحال أن الناس العاديين، سواء أكانوا لبنانيين أو إيرانيين أو أكرادًا أو عراقيين، أثّروا على الكثير من كتاباته وشكّلوا أساسًا لها. وفيما كان الكثير من الصحافيين الأجانب يحبّون استرضاء السياسيين ورجال الأعمال والمسؤولين النافذين لهم، فإن سميث شقّ مساره إلى هوية البلد من خلال احتكاكه مع أصحاب المقاهي وبائعي الكحول وسائقي سيارات الأجرة والموسيقيين والكتّاب والفنانين والأكاديميين.
لكن هذا لا يعني أنه اعتبر السياسيين مملّين، بل استمتع بإجراء مقابلات مع مارتن ماكغينيس من الجيش الجمهوري الإيرلندي (قال إنهما ذهبا لصيد السمك) ورئيس الوزراء البريطاني السابق تيد هيث (وصفه بالذكي جدًّا). واشتهر بعلاقته الجيدة مع رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، على الرغم من كونه منتقدًا شرسًا لشركة سوليدير المثيرة للجدل التي كان الحريري يهيمن عليها، والتي كُلفت بعملية إعادة إعمار وسط بيروت التجاري بعد الحرب. أخبرني سميث أنه كان "على وشك التقيؤ" عندما سمع خبر اغتيال الحريري في العام 2005.
والأهم أنه تجنّب الابتذال، وكنّ كراهية شديدة للتقارير المتخاذلة، ورأى أن من الضروري حظر استخدام مصطلح "إرهابي"، "لأنه في نهاية المطاف لا يعني شيئًا". أما على الصعيد الشخصي، فسميث كان ملهِمًا ومُغيظًا بالقدر نفسه: فهو كان حنونًا وكريمًا ومحبًّا، لكنه كان أيضًا لاذعًا وغير اجتماعي أحيانًا، ولم يراعِ دومًا مشاعر الآخرين. مع ذلك، لطالما تميّز بحماسة طفولية وطيبة قلب فطرية جعلت كل شيء على ما يرام في نهاية المطاف.
أوصى سميث بنثر رماده في مدينة صور الساحلية القديمة في جنوب لبنان، مسقط رأس شريكته زينب. لا شكّ في أن العرب والإيرانيين والأكراد قد خسروا صديقًا بوفاته. وأنا أيضًا سأشتاق إليه.
حقوق ملكية الصورة: زينب شرف الدين