المصدر: Getty
مقال

اتفاقٌ ثوري؟

يصبّ التقارب السعودي الإيراني في صالح الجانبَين، ويمثّل تحولًا جيوسياسيًا مهمًا في الشرق الأوسط.

نشرت في ١٤ مارس ٢٠٢٣

توصّلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية إلى اتفاق قضى باستئناف علاقاتهما الدبلوماسية بعد قطيعة دامت سبع سنوات. وانطوى هذا الاتفاق على مفاجأتَين هما أولًا الوساطة الصينية في إبرامه، وثانيًا توقيته في هذه المرحلة بالذات. فهذه هي المرة الأولى التي تتدخّل فيها بيجينغ بهذه القوة في دبلوماسية الشرق الأوسط، وتزامن ذلك مع مساعٍ أميركية لزيادة الضغوط على إيران من خلال توسّطها بين السعودية وإسرائيل تمهيدًا لإقامة علاقات دبلوماسية بينهما.

صحيحٌ أن المصالحة السعودية الإيرانية فاجأت معظم الحكومات، لكنها في الواقع أتت نتيجة مفاوضات طويلة امتدّت عامَين على الأقل، ورعاها في البداية رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، واستضافتها أيضًا سلطنة عُمان. يُشار إلى أن الجانبَين قطعا علاقاتهما الدبلوماسية في العام 2016 بعد أن أقدم متظاهرون غاضبون على إحراق السفارة السعودية في طهران احتجاجًا على تنفيذ الرياض حكم إعدامٍ بحقّ رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر. ومنذ ذلك الحين، تدهورت الأوضاع بينهما، ولا سيما بعد الاشتباه بضلوع إيران في الهجوم الذي نفّذته طائرات مسيّرة على منشأة نفطية تابعة لشركة أرامكو في بقيق في أيلول/سبتمبر 2019.

وقد أكدّ الطرفان السعودي والإيراني، في البيان الثلاثي المشترك الذي أعلن استئناف العلاقات بينهما، على "احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية". وأشار البعض إلى بنود أمنية سريّة مُلحقة بالاتفاق، شملت، كما يُزعم، التزام الجانبَين بالقرارات التي توصّل إليها السعوديون مع حركة "أنصار الله" (المعروفة بالحوثيين) حول الملف اليمني خلال المفاوضات المباشرة، إضافةً إلى تعهّد السعوديين بعدم تمويل الوسائل الإعلامية التي تسعى إلى زعزعة استقرار إيران، واتفاق الطرفَين على الإحجام عن دعم أي أنشطة من شأنها تقويض الطرف الآخر. كذلك، قرّرت الدولتان إعادة فتح سفارتَيهما وممثلياتهما خلال مدّة أقصاها شهران، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، فضلًا عن اتفاقية أخرى بشأن التعاون في سائر المجالات.

يبدو جليًّا أن السعودية ستحقّق مكاسب عدة من هذه الخطوة. فمن شأن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران أن يفتح باب التفاوض من أجل التوصّل إلى تسويات عدة في أماكن تحتّل أهمية جوهرية للأمن القومي السعودي، وأبرزها اليمن. كذلك، عزّزت السعودية علاقتها مع الصين، شريكتها التجارية الأكبر، من خلال منحها انتصارًا دبلوماسيًا. فخلال العقد الماضي، فاقت التجارة السعودية مع الصين حجم تجارتها المشتركة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما ساهم في توطيد علاقات بيجينغ مع دول المنطقة بشكل عام، ولا سيما بعد الزيارة الناجحة التي أجراها الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى المملكة في كانون الأول/ديسمبر 2022.

إضافةً إلى ذلك، يُفسح هذا الاتفاق المجال أمام تنويع الشراكات الأمنية والاقتصادية السعودية، فيما ينتقل العالم ببطء نحو حقبة ما بعد المواد الهيدروكربونية. في غضون ذلك، تفيد تقارير بأن الصين تساعد المملكة على بناء مصنع للصواريخ وتوسيع قدراتها العسكرية. ومن شأن تخفيض حدّة التوترات في المنطقة أن يسمح للسعودية بالتركيز على سياساتها المحلية وتنفيذ رؤيتها للعام 2030، بهدف التحوّل إلى مركز مالي واقتصادي وسياحي إقليمي ودولي، وتنفيذ تغييرات اجتماعية واقتصادية أساسية على المستوى المحلي.

على صعيد آخر، صدرت تقارير في صحيفتَي وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز عن سعي الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة إلى تسهيل إبرام اتفاق بين السعودية وإسرائيل لإقامة علاقات دبلوماسية بينهما. ومن ضمن الشروط التي تطلبها المملكة حصولها على ضمانات أمنية أميركية، ومساعدتها في تطوير برنامج نووي مدني، وتخفيف القيود المفروضة على مبيعات الأسلحة الأميركية إلى السعودية. وفي مؤتمر ميونخ الأمني الأخير، ربط وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان فشل الاتفاق النووي مع إيران برغبة المملكة في بناء برنامجها النووي الخاص. يُشار أيضًا إلى أن التقارب السعودي الإيراني يُحصّن الرياض من التداعيات الإقليمية الناجمة عن أي هجوم قد تشنّه إسرائيل على المنشآت النووية الإيرانية.

أما توقيت الاتفاق فقد كان مثاليًا لإيران، إذ إنها ترحّب حتمًا بتهدئة وتائر التوتر في خضم الأزمات التي تعصف بها، بدءًا من تدهور أوضاعها الاقتصادية، ومرورًا بالضغوط الدولية المتنامية التي تثقل كاهلها، خصوصًا بعد فشل محادثات إعادة إحياء الاتفاق النووي والتقدّم الذي تحرزه في تخصيب اليورانيوم، ووصولًا إلى الاحتجاجات التي عمّت البلاد طوال أشهر. إذًا، لم يكن مستغربًا أن يسجّل الريال الإيراني ارتفاعًا قاربت نسبته 21 في المئة عَقِب الإعلان عن المصالحة مع السعودية. كذلك، نقترب من مرحلة ستُستأنف خلالها رحلات أداء مناسك الحج، بمشاركة إيرانية أكبر هذا العام. يُشار إلى أن الإيرانيين نسبوا الفضل إلى الصين في تحقيق هذا الانتصار الدبلوماسي في إطار مساعيهم الأوسع الرامية إلى إضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة، ولا سيما أن بيجينغ تساعد طهران أيضًا في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأميركية.

لا شكّ أن هذا التقارب أثار توجّسًا كبيرًا في الأوساط الأميركية والإسرائيلية، على الرغم من تصريحات واشنطن المُرحِّبة به. في الواقع، وجّه الدور الصيني في هذا الاتفاق صفعةً لإدارة بايدن، وقوّض مساعي إسرائيل الهادفة إلى إقامة تحالف إقليمي ضد إيران. ويتّسم ذلك بأهمية خاصة على ضوء هدف إسرائيل المعلَن بتوقيع اتفاقية سلام مع المملكة، على الرغم من التصريحات الواضحة الصادرة عن وزير الخارجية السعودي ومفادها أن هذا الأمر لن يحدث من دون التوصّل إلى حلٍّ في فلسطين، استنادًا إلى مبادرة السلام العربية التي أطلقتها المملكة عام 2002. يُشار إلى أن إسرائيل تنسّق عن كثب مع الولايات المتحدة بهدف التصدّي إلى إيران التي توشك على تطوير أسلحة نووية، حتى إن الجانبَين أجريا مؤخرًا تدريبات عسكرية مشتركة لهذه الغاية.

إذًا، تمكّنت الصين من تحقيق إنجاز دبلوماسي كبير في الشرق الأوسط وسط حالة الجمود التي تهيمن على المنطقة، ونجحت في فرض نفسها كقوةً مؤثّرة على الساحة الدولية، وأظهرت أنها لن تتوانى عن التدخل سياسيًا حين تُملي مصالحها الاستراتيجية ذلك، وخفّفَت من وطأة الضغوط الممارَسة على حليفتها إيران. مع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت بيجينغ ستقدّم أي ضمانات في حال أقدم أحد الجانبَين على خرق بنود الاتفاق، ولا سيما البند الذي تعهّدت إيران بموجبه باحترام سيادة الدول العربية ووقف التدخل في شؤونها الداخلية. لكن، ونظرًا إلى انتشار وكلاء طهران في كلٍّ من العراق وسورية واليمن ولبنان، يُعدّ التدخل الإيراني في هذه الدول أمرًا واقعًا. لذا، يبدو أن الضمانة الوحيدة هي ربما عدم رغبة أيٍّ من الجانبَين في إثارة حفيظة الصين عند هذا المنعطف الدقيق.

أما السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو ما إذا سيؤدّي التقارب السعودي الإيراني إلى إبرام اتفاقات أخرى هدفها خفض التصعيد في المنطقة. فعلى وقع المفاوضات الدائرة بين السعوديين والحوثيين، هل يفضي الاتفاق الحالي إلى محادثات مباشرة بين المملكة والقوى غير الحكومية الموالية لإيران، مثل "حزب الله" في لبنان، كما ألمحت بعض التقارير الصحفية؟ وكيف سيؤثّر التقارب السعودي الإيراني على المفاوضات بشأن البرنامج النووي؟ وكيف سينعكس كل ذلك على الملف اللبناني؟ هل سيساعد الاتفاق في انتخاب رئيس للجمهورية ينال رضى إيران، أم سيتوصّل الجانبان السعودي والإيراني إلى تسوية ما في هذه المسألة؟ وماذا عن الشأن السوري؟ هل ستُدعى دمشق إلى حضور القمة العربية التي تستضيفها الرياض هذا العام؟ وهل من المتوقّع أن يجري فيصل بن فرحان زيارة إلى دمشق قريبًا، ما ينهي فعليًا عزلة سورية الإقليمية؟ وضمن أي شروط قد يحدث ذلك؟

لا يشير الاتفاق السعودي الإيراني فحسب إلى تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، بل ينبئ أيضًا بحدوث تحوّل كبير في الأوضاع الجيوسياسية الإقليمية، ويجسّد حالة الإعياء السائدة في المنطقة من النزاعات التي تمزّقها، ورغبة القوى الإقليمية في تولّي دفة القيادة من أجل رسم معالم مستقبل الشرق الأوسط. إلامَ ستؤول كل هذه المساعي؟ لا بدّ من الانتظار لمعرفة ذلك، ولكن للمرة الأولى منذ سنوات طويلة يبدو أن المستجدات الإقليمية تحمل بشائر تغيير ما..

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.