شبلي ملّاط هو محامٍ لبناني وأستاذ في القانون، ومرشّح سابق للرئاسة في لبنان في فترة 2005-2006، إضافةً إلى أنه مؤلّف كتب عدة من ضمنها: The Renewal of Islamic Law: Muhammad Baqer as-Sadr, Najaf and the Shi’i International (2004، منشورات جامعة كامبردج)، وقد صدر أيضًا باللغة العربية بعنوان "تجديد الفقه الإسلامي: محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم" (1998، دار النهار للنشر)؛ و Introduction to Middle Eastern Law (مقدّمة لقانون الشرق الأوسط) (2009، منشورات جامعة أكسفورد)؛ و Philosophy of Nonviolence: Revolution, Constitutionalism, and Justice Beyond the Middle East (فلسفة اللاعنف: الثورة والدستور والعدالة خارج الشرق الأوسط) (2015، منشورات جامعة أكسفورد). أجرت "ديوان" مقابلة مع ملّاط حول لقاءاته عبر السنوات مع الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر الذي أعلن مؤخرًا أنه سيتلقّى رعاية نهاية الحياة في منزله.
مايكل يونغ: لماذا يُعدّ جيمي كارتر مهمًّا في منطقة الشرق الأوسط التي كرّس لها قسطًا كبيرًا من وقته؟
شبلي ملاّط: يُعزى ذلك بشكل بوضوح إلى اتفاقيات كامب ديفيد التي جرى توقيعها بوساطة كارتر. فهو زار المنطقة بانتظام وألّف كتابَين عنها هما: The Blood of Abraham (دم إبراهيم) في العام 1985 الذي يتمحور في الغالب حول مفاوضات كامب ديفيد، و Palestine: Peace not Apartheid (فلسطين: سلام لا أبرتهايد) في العام 2006 الذي أثار ردود فعل حادّة في الأوساط الإسرائيلية. وتجدر الإشارة إلى أن كارتر ألّف ما يربو على عشرين كتابًا، لكن كتابَيه الوحيدَين اللذين يتناولان "مسائل إقليمية" كانا عن الشرق الأوسط. وينبع هذا التفاني جزئيًا من إيمانه القوي واهتمامه بالكتاب المقدس.
يونغ: كيف التقيت به للمرة الأولى؟
ملاّط: كنت طالب دراسات عليا في لندن حين شاركت في "استشارة" حول الشرق الأوسط عقدها مركز كارتر في العام 1987. أملتُ في تغطية هذا الحدث لصحيفة فاينانشل تايمز بفضل إدوارد مورتيمر، الذي كان كاتبًا بارزًا في الصحيفة آنذاك وصديقًا مقرّبًا لي. لم يُكتب لهذه الخطة النجاح، لكنني ذهبت في مطلق الأحوال، وساعدني صديقي ريتشارد برو الذي كان توظّف لتوّه في مركز كارتر، في الحصول على نظرة "من الداخل". وشكّلت هذه الزيارة تجربة مهمة لي، إذ سمحت لي للمرة الأولى بإلقاء نظرة عن كثب على منظومة القوة الأميركية. التقيت بكارتر لمدة وجيزة خلال هذه الزيارة، بيد أنني بدأت بتبادل مراسلات قيّمة مع هيرمان آيلتس الذي تولّى لفترة من الزمن منصب سفير إدارة كارتر لدى مصر، مع أنه عُيّن في عهد إدارة نيكسون.
يونغ: هل لديك ذكرى شخصية تشاركها معنا من شأنها أن تضفي، إلى جانب ما نشره كارتر، فهمًا أعمق لموقفه تجاه السلام في المنطقة؟
لا شيء مباشر تحديدًا، لكن مراسلاتي مع آيلتس فتحت آفاقًا مهمة لي. فقد كان لبنان كبش فداء جرت التضحية به على مذبح اتفاقيات كامب ديفيد للسلام التي شملت ثلاثة أطراف فقط، هي إسرائيل ومصر والولايات المتحدة. وأُطلقت يد مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، لاجتياح لبنان في العام 1982. لكن إبرام اتفاقية سلام بشكل منفصل مع مصر لم يكن ضروريًا. فقد قبل بيغن بالاتفاق الذي أُبرم بين كارتر وبريجنيف في 1 تشرين الأول/أكتوبر بعقد مؤتمر جنيف الذي ضمّ مختلف الأطراف الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط. لكن الرئيس المصري آنذاك أنور السادات هو من سارع إلى دفن هذه الفكرة، وليس الحكومة الأميركية أو الإسرائيلية. هذه هي النقطة التي أردت إيصالها إلى آيلتس، وكنت قد نشرت للتو دراسة في جامعة لندن أدعو فيها إلى إعادة إحياء مؤتمر دولي. أراد آيلتس أن يستمع كارتر إلى حجتي، لكن المُلفت من منظور تاريخي شرحه أن واشنطن كانت قد استنتجت أن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد (وتحديدًا "حزب البعث" على حدّ تعبير آيلتس في رسالته) لم يرغب في الذهاب إلى جنيف. وما زلت أعتقد أن هذه القراءة الأميركية للنوايا السورية كانت مغلوطة.
يونغ: لم يُعرف عن كارتر أنه أولى اهتمامًا خاصًا إلى الشؤون اللبنانية، بيد أنه انخرط لفترة وجيزة في لبنان في أواخر الثمانينيات. ما طبيعة هذا الانخراط وما الذي أفضى إليهربما؟
ملاّط: بعد زيارتي الأولى، جمعتني علاقات مع شخصيات نافذة في مركز كارتر، ثم مع السفير السابق ريتشارد ميرفي، الذي أمضى عامًا في لندن بعد تقاعده من وزارة الخارجية. تذكُر ربما أن ميرفي حاول حلحلة المأزق الذي شهده لبنان أثناء عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفًا لأمين الجميّل، وذلك من خلال اقتراح اسم مخايل الضاهر، لكن هذا الطرح لم ينجح. وبدلًا من ذلك، عيّن الجميّل ميشال عون على رأس حكومة عسكرية، وغرق لبنان بعدئذٍ في دوامة من العنف. ونظرًا إلى أن عائلتي كانت تعيش تحت وابل القصف المتواصل في بيروت، شعرتُ بأن عليّ أن أفعل شيئًا. لم أكن متحمسًا "للحل العربي" الذي أصبح لاحقًا اتفاق الطائف. لكن بعد وقت قصير من إبرام هذا الاتفاق، عُقد اجتماع في مركز كارتر في أتلانتا، وشارك في رئاسته كلٌّ من كارتر وميرفي ومبعوث جامعة الدول العربية إلى لبنان، الأخضر الإبراهيمي. وبما أنني كُلِّفتُ بكتابة دراسة حول السياسة العامة تحضيرًا لهذا الاجتماع، اقترحتُ أن تُشكّل الانتخابات الخطوة التالية الأنسب، وأن يسهم مركز كارتر في ضمان نزاهتها من خلال مراقبة سير العملية الانتخابية. وقد رحّب كارتر وميرفي بالفكرة، لكن السوريين لم يسمحوا بتدخّل أي جهة خارجية بعد الإطاحة بعون في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1989.
يونغ: التقيتَ بكارتر من جديد في صيف العام 2005، وتمكّنتَ حينئذٍ من بلورة فكرة أوضح عن الرجل. ما الذي أثّر بك في تلك المناسبة وفي كارتر نفسه؟
ملاّط: بعد انطلاق "ثورة الأرز" في العام 2005، دعاني كارتر إلى اجتماع من نوع آخر في مركز كارتر، اتّسم بطابع دولي أكثر بكثير، وضمّ مدافعين بارزين عن حقوق الإنسان. واكتشفتُ يومها بُعدًا جديدًا في شخصية كارتر بعد أن أمضيت وقتًا قيّمًا معه. فقد تمتع بحسّ فكاهة كبير، وقال في إحدى المرات ممازحًا إن الجمهوريين سرقوا الرئاسة مرتَين من الديمقراطيين. وكان يقصد جزئيًا العام 1980 حين هزمه رونالد ريغان بعد ما سُمّي بـ"مفاجأة تشرين الأول/أكتوبر"، أي الصفقة المزعومة التي أُبرمت بين مسؤولين جمهوريين والنظام الإيراني لتأجيل إطلاق سراح الرهائن الأميركيين الذين احتجزتهم إيران إلى بعد الانتخابات الأميركية لإفشال حظوظ كارتر في السباق الرئاسي. وقد صدر كتاب حول هذا الموضوع من تأليف غاري سيك، الذي عمل في مجلس الأمن القومي إبّان إدارة كارتر وتولّى منصب مساعد مستشار البيت الأبيض للشؤون الإيرانية والخليجية.
وعلى نحو أكثر جديّة، سلّط الاجتماع الذي عُقد في أتلانتا الضوء على موقف كارتر من قضايا حقوق الإنسان، التي شكّلت علامة فارقة خلال ولايته الرئاسية. فبعض الأشخاص مثل نوام تشومسكي يميلون إلى اعتبار أن الحكومة الأميركية تسعى بالكامل وراء مصالحها الخاصة، بحيث لا تأتي على ذكر الحريات وحقوق الإنسان إلا عندما يكون الأمر ملائمًا لها. ومن الصعب مخالفة هذا الرأي في حالة الشرق الأوسط، إذ إن الولايات المتحدة لا تخضع أبدًا إسرائيل إلى المساءلة أو المحاسبة عن ارتكاباتها. لكن حين التقيتُ بكارتر رأيتُ شخصًا صادقًا وصريحًا. ويُعدّ كتابه حول الأبرتهايد الإسرائيلي خير دليلٍ على هذا التمسّك بالمبادئ. وقد استغرقت منظمات حقوق الإنسان عقودًا كي تشاركه وجهة نظره هذه. كان كارتر إذًا سبّاقًا في هذا المجال.
دفعني هذا الواقع إلى التساؤل: ما هو النجاح الأعظم الذي حققته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ الإجابة الواضحة هي انتصارها على المعسكر السوفياتي في فترة 1989 إلى 1991. ومن هو الرئيس الأميركي المسؤول بشكل أساسي عن هذا الانتصار؟ ثمة رأيان في هذا الصدد: الرأي المهيمن ينسب الانتصار بشكل مباشر إلى رونالد ريغان، بعد تطويره ما عُرف بمبادرة الدفاع الاستراتيجي، وهو نظام دفاع صاروخي أمكنه حماية الولايات المتحدة من الصواريخ النووية السوفياتية. ونتيجةً لذلك، اضطرّ الاتحاد السوفياتي إلى الاستثمار في تطوير أنظمة من شأنها التصدي لهذه المبادرة، ما تسبّب فعليًا بانهيار الاقتصاد السوفياتي.
لكنني شخصيًا أؤيّد وجهة النظر التي تتبنّاها أقلية قليلة ومفادها أن انهيار الاتحاد السوفياتي يُعزى إلى تبنّي كارتر قضايا حقوق الإنسان وإدراجها في صلب أولويات إدارته. فحالما أصبحت هذه الأجندة إحدى دعائم السياسة الأميركية وجرت مأسستها بموجب عملية هلسنكي، بدأت شرعية الاتحاد السوفياتي بالضمور من الداخل. وإذا كان هذا الرأي صائبًا، فسيكون جيمي كارتر على الأرجح أعظم رئيس أميركي مرّ عليّ في حياتي.