المصدر: Getty
مقال

سياسة التكيّف لا تكفي

أثبتت الاتفاقيات الإبراهيمية عجزها عن لجم إسرائيل، أو تليين مواقفها، أو إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة.

نشرت في ٥ أبريل ٢٠٢٣

تمر إسرائيل بوضع داخلي منقسم لم تشهد مثيلًا له منذ قيامها. ما زلنا في العالم العربي قاصرين عن تحليل طبيعة هذا الانشقاق وأبعاده على القضية الفلسطينية، كما على الأردن. وسأحاول تسليط الضوء على بعض أبعاد ما يجري، واقتراح بعض التوصيات لكيفية التعامل مع هذا الانشقاق.

أولًا، علينا أن نعي أن بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ينتمون إلى ما يدعى بمعسكر الصهيونية الدينية، التي تجمع بين التطرف القومي والتطرف الديني، وبينما كانت الصهيونية حركة مدنية متطرفة، فإن هذا المعسكر يزيد على التطرف القومي تطرفًا دينيًا، ويؤمن بأن الله وهب اليهود وطنًا في "إسرائيل الكبرى" التي تشمل الأردن وفلسطين، وأن الشعب اليهودي ليس له أفضلية على أي شعب آخر فحسب، بل له السيادة وحده على "أرض إسرائيل"، وأن الشعب الفلسطيني ليس له حقوق مماثلة لليهود، بل ليس له حق الوجود على أرض فلسطين التاريخية.

ويتبنّى هذا المعسكر أيضًا موقفًا متطرفًا في تعريفه لمن هو اليهودي، وفي تفسيره للتوراة، ويعتبر الصهيونية التي تأسست على قواعد مدنية حركة كافرة لعدم اتّباعها للشريعة التوراتية كما يرونها. من المهم جدًّا أن نفهم هذه الأبعاد التي تجعل من الحكومة الإسرائيلية الحالية أكثر الحكومات تطرفًا من الناحيتَين القومية والدينية، بل يمكن وصفها بالحكومة الداعشية اليهودية. إن فهمنا ذلك، ندرك طبيعة هذا الموقف الإيديولوجي المتطرف غير المستعد لأي نوع من النقاش أو المرونة.

يرغب الكثير من أعضاء هذه الحكومة تغيير النظام القضائي الإسرائيلي لجهة إضعافه والهيمنة عليه من جانب الكنيست والحكومة، لاعتبارات عدة أهمها أن هؤلاء المتطرفين يعتبرون المحكمة العليا في إسرائيل وأغلب القضاة مدنيين يساريين كفرة، وبالتالي يودّون استغلال جنوح المجتمع الإسرائيلي لليمين كي يفرضوا إرادتهم المتطرفة على باقي المجتمع من خلال الكنيست والحكومة، ضاربين عرض الحائط بنظام الفصل والتوازن، الذي يضمن عدم تغوّل أيٍّ من السلطات الثلاث على الأخرى، والذي يشكل أحد أهم الركائز لأي دولة تدّعي الديمقراطية نظامًا لها.

وفي حين أن نتنياهو ظل مدافعًا طيلة حياته السياسية عن استقلال النظام القضائي الإسرائيلي، فإن حاجته لهؤلاء المتطرفين لتشكيل الحكومة، وسنّ قوانين جديدة تضمن بقاءه خارج السجن، أدّت إلى تبنّيه لهذا الانقلاب القضائي الذي يدعوه زورًا بـ"الإصلاح القضائي"، مثلما دعا ترامب خطته لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي زورًا أيضًا بـ"صفقة القرن"، وإلى تخلّيه عن حذره المعروف في اتخاذ سياسات خلافية داخل إسرائيل في السابق.

ولكن هذه التعديلات المقترحة تواجه اليوم معارضة غير مسبوقة داخل المجتمع الإسرائيلي اليهودي، ومن المهم أيضًا قبل الاسترسال في موضوع الانقلاب القضائي أن نذكر أمرَين: الأول هو أن الانقسام الداخلي الإسرائيلي يتعلق بالمجتمع الإسرائيلي اليهودي فقط، الذي تشعر بعض مكوّناته أن حقوقها المدنية تُنتهك اليوم من زمرة متطرفة حاكمة، ولم تشمل الاحتجاجات الإسرائيلية القائمة اليوم اعتراضات للانتهاكات التي تجري ضد الفلسطينيين، منذ إنشاء دولة إسرائيل.

تتوقع المجموعات اليهودية المناوئة لهذه التعديلات من فلسطينيي الداخل مشاركة الإسرائيليين اليهود في هذه الاحتجاجات، بينما ينأى المجتمع الفلسطيني الذي يحمل أفراده الجنسية الإسرائيلية عن ذلك، باعتبار أن الدعوة من أجل "الديمقراطية للجميع"، وهو شعار يرفعه المحتجون باستمرار، لا يشمل المكوّن الفلسطيني، فـ"الجميع" في نظر المحتجّين الإسرائيليين هو الجميع اليهودي فقط.

الأمر الثاني هو أن هذا الانقسام اليهودي الداخلي ليس انقسامًا حول العملية السلمية، بل هو انقسام يتعلق بطبيعة النظام السياسي فقط، ولا علاقة له بالسلام. لذا، تنضم للاحتجاجات اليوم عناصر من الجيش، واتحاد العمال وحتى بعض المتديّنين، وهو من هذه الناحية أكبر بكثير من أي احتجاجات أخرى شهدتها الدولة الإسرائيلية في الماضي، لأن ثمة غالبية إسرائيلية تشمل من صوتوا لنتنياهو، ممن ترفض هذه التعديلات وتخاف على مستقبل الدولة اليهودية.

في العودة إلى ماهية الانقسام، ما فتئ الإسرائيليون يدّعون أنهم يعيشون في ظل النظام الديمقراطي الوحيد في المنطقة، متغاضين تمامًا عن واقع أن الديمقراطية لا تتماهى مع التمييز ضد جزء من المواطنين هم السكان الفلسطينيون الأصليون. ولكن إسرائيل، لأسباب عدة، نجحت في جعل الكثير من دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تردّد هذه المقولة، بل تؤمن بها.

أما اليوم، فإذا نجحت محاولات تقويض نظام الفصل والتوازن الإسرائيلي، فلن تستطيع إسرائيل بعدها لا إقناع مواطنيها ولا إقناع العالم بانها دولة ديمقراطية، حتى إن استثنت المواطنين العرب. وعلينا عدم التقليل من تداعيات هذا التقويض. إن من أهم الأسس التي بُنيت عليها العلاقة الإسرائيلية الأميركية، ليست فقط بين الإدارات الأميركية المتعاقبة وإسرائيل، بل أيضًا بين الجالية اليهودية الأميركية ويهود إسرائيل، وهو الشعور الغالب في الماضي أن إسرائيل وأميركا تتقاسمان قيمًا مشتركة هي الديمقراطية والليبرالية.

ثمة شعور يتزايد اليوم داخل الجيل الجديد للجالية اليهودية الأميركية لا يرى هذه القيم المشتركة كما يراها الجيل القديم، بل يشهد بصورة متزايدة دولة تحتل الغير وتمارس التمييز العنصري ضد جزء من مواطنيها، وهم الفلسطينيون تحت الاحتلال، وهي اليوم تقوّض أهم ركائز الديمقراطية. وفيما قد لا يعني ذلك تحوّلًا آنيًا في السياسة الأميركية نحو إسرائيل، فالخطأ البالغ ألّا يتم استغلال هذه النقطة سياسيًا وإعلاميًا لفضح الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي في العالم بأسره. إضافةً لذلك، ترغب هذه الحكومة الإسرائيلية في سنّ قوانين جديدة لا تعترف بيهودية الكثير من اليهود في العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة، فضلًا عن قوانين ضد اليهود غير المتديّنين في إسرائيل، وضد المسيحيين أيضًا. يجري كل ذلك بينما يقف العالم العربي متفرّجًا على ما يجري، وكأن الأمر لا يعنيه.

وبينما يواصل العالم الغربي التركيز على ترداد دعمه لحل الدولتين، من دون إقران ذلك بأي خطة واقعية لترجمته، ثمة فرصة واقعية إن أُحسن استغلالها لفضح الممارسات العنصرية الإسرائيلية والتركيز على مقولة ديمقراطية إسرائيل وممارستها للأبرتهايد، ما يمكن أن يجلب للجانب العربي شركاء جددًا لم يكونوا من مناصري القضية الفلسطينية في السابق. ما يجري في إسرائيل هو بداية تحول خطير قد يكون في صالح الجانب الفلسطيني والعربي، إن تم تبنّي مقاربة واستراتيجية جديدتَين للتعامل مع دولة الاحتلال والتمييز العنصري.

لقد أثبتت الاتفاقيات الإبراهيمية عجزها عن لجم إسرائيل، أو تليين مواقفها، أو إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة. ولن تنجح سياسة التكيف العربي مع إسرائيل في لجم نظام إيديولوجي صهيوني متديّن متطرّف يؤمن بأن لا حق للفلسطينيين في الوجود على أرضهم. كذلك، لن يفعل تعظيم التعاون الأمني والاقتصادي مع إسرائيل شيئًا لتليين الموقف الإسرائيلي، بل ستستخدمه إسرائيل لممارسة المزيد من الضغط على كل من يضع جزءًا من قطاعاته الحيوية بيدها. مطلوبٌ اليوم مقاربة علمية ممنهجة للتعامل مع إسرائيل التي تحفر حفرة عميقة لنفسها، وليس سياسات تساعدها على الخروج من هذه الحفرة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.