انتهت الانتخابات العامة في تركيا، ما سيتيح على الأرجح تكوين صورة أوضح عن الطريقة التي ستتعامل بها أنقرة مع الوضع في سورية خلال الأشهر المقبلة. وفي حين لمّح البعض إلى أن إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد تعني أنه سيحاول الإبقاء على الوضع القائم في سياسته الخارجية، أحد الأمور التي ستتغيّر على الأرجح هو علاقة تركيا بالأفرقاء غير الحكوميين في شمال سورية.
من الأسباب التي تقف خلف تلك التبدلات المحيّرة إلى حد ما التي انتهجتها تركيا في سياستها الخارجية خلال العقدَين المنصرمَين. لقد شهد النهج التركي تغييرات متكررة، من سياسة "صفر مشاكل مع الجيران" إلى الانخراط النشط، ابتداءً من العام 2011، في دعم الانتفاضات العربية، ولا سيما في سورية التي كانت أنقرة تقيم علاقات ممتازة معها في السابق. علاوةً على ذلك، فإن ما نسبه كثرٌ إلى النزعة العثمانية الجديدة - توسُّع تركيا الاقتصادي والثقافي والسياسي نحو الأراضي التي كانت خاضعة سابقًا للسلطنة العثمانية - استُبدِل اليوم بسياسة خارجية أكثر انتهازية وبراغماتية. في الأشهر الأخيرة، سعت إدارة أردوغان إلى تطبيع العلاقات مع مصر وسورية والسعودية والإمارات العربية المتحدة بعد سنوات من الخصومة. غالب الظن أن هذه النزعة ستستمر، ولا سيما في سورية، حيث ستزداد على الأرجح الصعوبات التي يواجهها الرئيس التركي.
والسبب هو أن أردوغان قد يجد نفسه عالقًا بين مزاج الناخبين الأتراك ومزاج الشعب السوري المعادي لنظام الأسد في المناطق غير الخاضعة لسيطرة دمشق في شمال سورية. يُستشَف من اضطرار أردوغان إلى خوض جولتَي اقتراع كي يفوز بولاية جديدة أنّ عددًا كبيرًا من الناخبين الأتراك ينشد تغييرًا في السياسة المتّبعة في الملف السوري، ولا سيما في ضوء وجود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في تركيا. لذلك، من المستبعد أن يعدل أردوغان عن بذل الجهود لتطبيع العلاقات مع سورية، وسيساهم تدهور الاقتصاد التركي في ترسيخ موقفه هذا. فضلًا عن ذلك، تتعزَّز هذه البراغماتية فقط عن طريق إبداء أنقرة نيّتها مواصلة الاضطلاع بدورها في إرساء التوازن في المنطقة من خلال علاقاتها مع روسيا والولايات المتحدة من جهة، وإيران والسعودية من جهة أخرى.
في ما يتعلق بسورية، فإن أي تقارب مع دمشق سيرغم أردوغان على المناورة بحذر بين نظام الأسد والمعارضة السورية. خلال الشهر المنصرم، أبدت كل من هيئة تحرير الشام، المعروفة سابقًا بجبهة النصرة، والجيش الوطني السوري، وهو ائتلاف من مجموعات معارضة مسلّحة مُتحالف مع تركيا، رفضهما لتطبيع العلاقات بين جامعة الدول العربية ونظام الأسد، وكذلك لحوار تركي سوري. وقد أشار زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، إلى أن المقاربة العسكرية هي الخيار الحيوي الوحيد لحسم النزاع السوري. وذهبت قيادة الجيش الوطني السوري، بدورها، إلى حد وصف عملية التطبيع بأنها "جريمة" بحق المعارضة السورية والشعب السوري. تبدي المعارضة في محافظة إدلب والمناطق السورية الأخرى حيث ثمة وجود تركي قلقها من التقارب التركي مع الأسد، نظرًا إلى أن أنقرة واظبت لوقت طويل على تقديم الدعم لها في القتال.
لكن تداعيات هذا القلق تتعدّى ذلك، وقد تؤثّر على من سيسيطر على إدلب في نهاية المطاف. إن الوضع في المحافظات السورية الشمالية دقيق، في ظل تصاعد حدّة التوترات بين الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام لقيادة المعارضة المناهضة للأسد في إدلب. وباتت الجهات غير الحكومية طرفًا أساسيًا في النزاع السوري. فقد عمدت دول، على غرار تركيا وإيران، إلى تسليح ودعم قوات على الأرض، شكّلت بدورها هوياتها الخاصة ومعتقداتها الإيديولوجية.
في حالة هيئة تحرير الشام، على سبيل المثال، لاحظ كثيرون أن الجولاني يسعى إلى تصوير نفسه على أنه قائد مرن، بدلًا من جهادي متطرّف، على الرغم من ماضيها كفرع من فروع تنظيم القاعدة. ويبدو أن هدفه يتمثّل في التأكيد على أن هيئة تحرير الشام قادرة على حكم إدلب، وأن يصوّر نفسه كقائد يضطلع بدور لاعب فعلي في النزاع السوري وشخصية يسهل على دول الغرب التعامل معها.
وفي الوقت نفسه، تأجّجت جذوة التوترات داخل الجيش الوطني السوري، الذي بات ضعيفًا ولا يمكن التعويل عليه في وجه هيئة تحرير الشام أو حتى قوات سورية الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد، بسبب تشرذمه المستمر. واستغلّت الهيئة هذه الفوضى في صفوف الجيش الوطني السوري من خلال فرض قراراتها وهيكيلتها الإدارية على سكان إدلب. وبالتالي، على أي عملية تطبيع للعلاقات بين أنقرة ودمشق التعامل مع هذه القوى غير الحكومية، التي يُعدّ وجودها عقبة في وجه وحدة الأراضي السورية.
أتاح هذا الوضع فرصة أمام الجولاني لحشد الدعم لجماعته الخاصة ومهاجمة كل من يعارضه، في محاولة للسيطرة على المنطقة وتولي مهمة محاور أساسي في أي حوار حول النزاع السوري في المستقبل. ترى أنقرة أن ثمة نقطة إيجابية في واقع أن كل هؤلاء في إدلب – أي الوجهاء المحليين وشيوخ القبائل والسكان ككل – يعارضون الجولاني وهيئة تحرير الشام، معتبرينهما في أفضل الأحوال أهون الشرور مقارنةً مع نظام الأسد. ستساهم ردّة الفعل هذه في إرساء توازن في الشمال، حيث دعا خصوم هيئة تحرير الشام المعارضة إلى التوحّد حول أجندة مشتركة لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي يستثني منظمات مثل هيئة تحرير الشام وتنظيم الدولة الإسلامية من أي عملية سياسية ويدعو إلى عملية انتقالية في سورية بإشراف الأمم المتحدة.
قد يخلّف هذا الوضع تعقيدات لأردوغان في حال واصل السير على طريق تطبيع العلاقات مع دمشق. ولن يتعيّن على تركيا التعامل مع نظام الأسد فحسب، بل أيضًا مع هيئة تحرير الشام وحلفائها المُفترضين داخل سورية.