المصدر: Getty
مقال

خطى حثيثة نحو التهميش

يناقش عمرو عادلي وحمزة المؤدّب، في مقابلة معهما، كيف أعادت أزمتا الديون في مصر وتونس تشكيل المشهد الجيوسياسي في البلدَين.

نشرت في ٦ يونيو ٢٠٢٣

حمزة المؤدّب زميل في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يشارك في إدارة برنامج الاقتصاد السياسي الجديد في المركز. وعمرو عادلي أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة، ومؤلّف كتاب بعنوان Cleft Capitalism: The Social Origins of Failed Market Making in Egypt (الرأسمالية المتصدّعة: الأصول الاجتماعية لفشل السوق في مصر) (منشورات جامعة ستانفورد، 2020). نشر الباحثان مؤخرًا مقالًا لكارنيغي بعنوان "هل ينذر ارتفاع الديون بالمزيد من التهميش الجيوسياسي لمصر وتونس؟"، شرحا فيه كيف أثّرت حاجات التمويل في البلدَين بشكل سلبي على مكانتهما الجيوسياسية وعلى استقلالية قراراتهما المتعلقة بالسياسة الخارجية. أجرت "ديوان" مقابلة معهما في أواخر أيار/مايو لمناقشة هذه المسألة والتطرّق إلى تفاصيل أخرى في المقال.

مايكل يونغ: كتبتما مؤخرًا مقالًا لكارنيغي، هو الأول في إطار برنامج الاقتصاد السياسي الجديد في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، يتمحور حول كيفية تسبُّب ارتفاع الديون بالمزيد من التهميش الجيوسياسي لمصر وتونس. ما هي فكرتكما الأساسية في هذا المقال، وما هي العملية التي تصفانها؟

حمزة المؤدّب وعمرو عادلي: فكرتنا واضحة إلى حدٍّ بعيد. فقد أدّى اعتماد مصر وتونس على التمويل الخارجي إلى تهميشهما على مستوى الاقتصاد العالمي وفي المشهد الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولّد هذا الاعتماد على التمويل الخارجي عمليًا تهميشًا على مستويَين. فعلى مدى عقد من الزمن، دفعهما ذلك إلى اعتماد سياسات اقتصادية قصيرة النظر ومطبوعة بشكل أساسي بالحاجة إلى الحصول على التمويل الخارجي والقبول بتفضيلات الدائنين لملء فجواتهما التمويلية الآخذة في الاتّساع. أدّى هذا الاعتماد المالي أيضًا إلى تهميشهما على المستوى الجيوسياسي، إذ زاد من اعتمادهما على دول مُنتجة للمواد الهيدروكربونية (وهي دول مجلس التعاون الخليجي في حالة مصر، والجزائر في حالة تونس) قدّمت لهما التمويل حين أبدى الدائنون الدوليون تردّدًا حيال ذلك. أسهم هذا التهميش بجانبَيه الاقتصادي والجيوسياسي على نحو متزايد في تقويض الاستقلالية النسبية التي تمتّعت بها مصر وتونس لفترة طويلة في مجال السياسة الخارجية.

مايكل يونغ: لماذا قرّرتما رسم مقارنةٍ بين مصر وتونس؟

المؤدّب وعادلي: هذا المقال هو جزءٌ من نقاش متواصل وتعاون قائم بيننا منذ عقدٍ من الزمن. في العام 2017، نشرنا مقالًا قارنّا فيه كيف أثّرت البيئتان السياسيتان المختلفتان على الإصلاحات الاقتصادية في البلدَين. وعلى الرغم من المسارات المتباينة التي سلكها كلٌّ من مصر وتونس بعد ثورات 2010-2011، فإن الدولتَين تواجهان تحديات اقتصادية متشابهة. وقد لجأتا إلى برامج صندوق النقد الدولي في العام 2016، والتي شملت زيادة الضرائب، واقتطاعات في الإنفاق، وخفض قيمة عملتَيهما الوطنيّتَين. كان تطبيق التدابير التقشُّفية صعبًا في الدولتَين وأتت استجابة كلٍّ من النظامَين السياسيَين مختلفة عن الآخر. فبعد العام 2013، طبّقت القيادة المصرية إصلاحات مالية بطريقة سلطوية، لكن النظام الديمقراطي والتعدّدي التونسي لم يتمكّن من تنفيذ برنامج إصلاحي توافقي نظرًا إلى النفوذ الواسع التي تتمتّع به جماعات المصالح الراسخة في البلاد. ونتيجةً لذلك، لم تستطع مصر وتونس إعادة هيكلة اقتصادَيهما، وزاد اعتمادهما على التمويل الخارجي بشكل كبير.

بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، واجهت مصر وتونس تحدّيات متشابهة أيضًا. فكلتاهما تسعيان إلى الحصول على الدعم المالي الخارجي، بعد معاناتهما من صدمات متتالية نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة وزيادة معدّلات الفائدة. يُشار إلى أن العملية الديمقراطية في تونس تم تقويضها بعد استحواذ الرئيس قيس سعيّد على السلطة في تموز/يوليو 2021؛ وفي مصر، تسبّبت الأزمة المالية بتقييد حركة النظام الحاكم إلى حدٍّ كبير. في هذا السياق أيضًا، سلكت الدولتان مساراً مشابهاً قوامه الاعتماد الجيوسياسي على دول أخرى. وتُعدّ المقارنة بين مصر وتونس مثيرة للاهتمام كذلك لأنها تُظهر كيف أن المساعدات المالية واستراتيجيات الإنقاذ المالي أصبحت أدوات تُستخدَم في بلورة السياسات الخارجية، وباتت تسهم بشكل أساسي في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم.

مايكل يونغ: ما وضع الدَّين التونسي وكيف تعمل الحكومة على معالجته؟

المؤدّب: سجّل الدين العام في تونس زيادة حادّة من 47.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2012 إلى 88 في المئة في 2022. وازدادت النسبة المئوية للدين القصير الأجل في إجمالي الدين الخارجي التونسي من 21.7 في المئة في 2011 إلى 32.4 في المئة في 2021. وقد سلّطت هذه الاتجاهات الضوء على مدى اعتماد البلاد على الجهات الخارجية، وانكشافها على الأسواق المالية الخارجية، والتراجع الحاد في المصادر الأساسية للعملات الصعبة، أي الاستثمار والسياحة والإيرادات من صادرات الفوسفات التونسية. ولا يُستهان أيضًا بالديون المضمونة من الدولة، والذي يتجاوز 14 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وقد شكّل الدين الخارجي 61 في المئة منه في حزيران/يونيو 2022. ويمثّل ذلك في الأساس ديون الشركات المملوكة للدولة والهيئات الحكومية التي تضمنها الدولة. وقد أدّى الارتفاع السريع في أسعار موارد الطاقة الدولية، والاعتماد الشديد على الواردات الغذائية، وزيادة معدلات الفائدة العالمية إلى اشتداد حاجة تونس إلى العملات الصعبة. لكن بعد العام 2019، فقدت تونس إمكانية الوصول إلى الأسواق المالية الدولية بعد أن عمدت وكالات التصنيف الأساسية إلى خفض تصنيفها الائتماني بصورة دورية. في ظل هذه الظروف، اتّخذت الحكومة ثلاثة تدابير أساسية للتعامل مع هذا الوضع، وهي: زيادة الاقتراض من السوق المحلي، ما أدّى إلى مزاحمة تمويل القطاع الخاص إلى حدّ كبير؛ وخفض فاتورة الاستيراد لتجنّب حدوث تراجع حاد في احتياطيات العملات الأجنبية، ما أسفر عن نقص في السلع الغذائية بصورة متكرّرة؛ وزيادة الضرائب من أجل تغطية عجز الميزانية جزئيًا.

مايكل يونغ: ما وضع الدَّين المصري وما الخطوات التي تتّخذها الدولة لمعالجته؟

عادلي: يسجّل إجمالي الدين العام، بشقَّيه المحلي والخارجي، في مصر اليوم أكثر من 100 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. فقد تضاعف الدين الخارجي، من حيث القيمة المطلقة، منذ العام 2017، ليبلغ 160 مليار دولار. ويتمثّل التحدّي الأساسي في تجديد التزامات مصر الخارجية نظرًا إلى أنها باتت معزولة فعليًا عن الأسواق المالية الدولية، وسط إقدام الاحتياطي الفدرالي الأميركي على رفع معدلات الفائدة، وتراجُع تصنيف البلاد الائتماني.

مايكل يونغ: كيف لمَستُما تحديدًا تأثير الدين على المكانة الجيوسياسية لكلٍّ من مصر وتونس؟ وكيف أصبحتا أكثر هامشية؟

عادلي: أصبحت الدولتان تعتمدان بصورة متزايدة على الحصول على موارد من خارج اقتصادَيهما للوفاء بالتزاماتهما الخارجية الأساسية، سواء لخدمة ديونهما المتزايدة أو لتمويل وارداتهما، ما أدّى إلى حالة من التهميش المتزايد على مستويَين، كما ذكرنا سابقاً. وعلى مدى العقد الماضي، احتاجت مصر بصورة متكرّرة إلى الدعم المالي من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وفي العام 2017، نقلت مصر السيادة على جزيرتَين غير مأهولتَين ولكنهما تتمتّعان بأهمية استراتيجية في البحر الأحمر، وهما تيران وصنافير، إلى السعودية. ومع تنامي حاجات مصر المالية، بات دعم دول مجلس التعاون الخليجي مشروطًا أكثر فأكثر بزيادة حصصها في أصول مصرية مملوكة للدولة، يتمتّع بعضها بأهمية استراتيجية، على غرار المرافئ والمرافق العامة، ما يقتضي ضمنًا إعادة النظر بدور الدولة في الاقتصاد. وعلى الصعيد الإقليمي، غابت مصر عن المصالحة بين السعودية وإيران، وهو حدث مهم قد يسهم في إعادة رسم المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط.    

المؤدّب: في تونس، أدّى رفض سعيّد لاتفاق صندوق النقد الدولي في نيسان/أبريل 2023 إلى زيادة عزلة البلاد عن شركائها في مجموعة الدول السبع. لذا، تعيّن عليها الاعتماد بصورة حصرية على الدعم المالي من الجزائر، وذلك على شكل قروض وودائع وإمدادات غاز بأسعار تفضيلية. في المقابل، عمدت تونس إلى الاصطفاف بشكل أكبر إلى جانب الجزائر في صراعها مع المغرب. وتجلّى هذا الاصطفاف بشكل خاص حين استقبل سعيّد رسميًا قادة من جبهة البوليساريو في تونس العاصمة في أيلول/سبتمبر 2022، ما أظهر أن تونس تنحاز إلى جانب الموقف الجزائري في صراع الصحراء الغربية. وأدّت هذه الخطوة إلى أزمة دبلوماسية مفتوحة بين تونس والرباط، إذ أقدمت الدولتان على استدعاء سفيرَيهما. والأهم أنها شكّلت نهاية حقبةٍ حافظت خلالها تونس على موقف حيادي بين الدولتَين المتنازعتَين، الأمر الذي لم يعد ممكنًا بعد أن أصبحت تعتمد ماليًا على الجزائر.

مايكل يونغ: ما الذي تحتاج إليه تونس ومصر للخروج من هذا الوضع على المستوى الجيوسياسي؟ وما الخطوات التي عليهما اتّخاذها لاستعادة مكانتهما؟

المؤدّب وعادلي: يتعيّن على كلٍّ من تونس ومصر على المدى القريب إعادة هيكلة ديونهما الخارجية، ما يستلزم تعاونًا مع دائنيهما وشُركائهما. تحتاج تونس إلى إبرام اتفاق مع صندوق النقد، وإلا ستتخلّف عن سداد ديونها خلال الأشهر المقبلة. أما مصر، التي أبرمت اتفاقًا مع صندوق النقد في مطلع العام 2023، فتعتمد قدرتها على الوفاء بالتزاماتها إلى حدٍّ كبير على تأمين دعم المستثمرين والمقرضين الخلجيين. وعلى المدى المتوسط، ينبغي على الدولتَين إدخال إصلاحات سياسية ومؤسساتية في قطاعاتهما الخارجية، مع التركيز على التجارة للتخفيف من عجز الحساب الجاري لديهما، وبالتالي من حدة حاجاتهما المالية الخارجية الضخمة. علاوةً على ذلك، تحتاج تونس ومصر إلى جذب الاستثمارات وإفساح المجال أمام القطاع الخاص، ما يقتضي إعادة النظر بدور الدولة في الاقتصاد. وعلى الصعيد الاستراتيجي، ينبغي على الدولتَين الانخراط في استراتيجيات أمن الطاقة والغذاء، ما يعني مراجعة سياساتهما في قطاعَي الزراعة والطاقة وخفض كلفة وارداتهما من المواد الغذائية وموارد الطاقة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.