بعد التعديلات الدستورية التي جرت في الأردن في العقد الماضي، بادرت الطوائف المسيحية في البلاد لدراسة جميع تشريعات الأحوال الشخصية الخاصة بالمسيحيين، وبرزت فكرة إعداد مسودة قانون موحد للإرث للمسيحيين والمسيحيات، بما يتوافق مع النص الدستوري الجديد (الفقرة 2 من المادة 109)، الذي يعطي مجالس الطوائف الدينية صلاحية تطبيق الأصول والمحاكم المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين.
من الجدير بالذكر أن مجالس الطوائف المسيحية في الأردن هي من تنظيم شؤون الأحوال الشخصية للمسيحيين في الأمور الدينية كافة المتعلقة بهم عدا موضوع الميراث، حيث تطبق في الأردن قوانين الشريعة الإسلامية على المسيحيين أيضًا.
ومن المهم أن ندرك أن هذا وضع طارئ، فالإسلام منذ قدومه لم يتدخل في الشؤون الداخلية للمسيحيين، بل ترك لهم حرية إدارتها بنفسهم، وبقيت مواضيع الإرث والوصايا تخضع للقانون البيزنطي المسيحي، الذي ساوى بين الذكر والأنثى في موضوع الميراث. ولم تحاول الدولة الإسلامية تطبيق الشريعة الإسلامية على المسيحيين إطلاقًا، بل إنه بعد الفتح العثماني للقسطنطينية، سلم السلطان محمد الثاني إلى البطريرك المسكوني في القسطنطينية وإلى غيره من بطاركة الشرق براءات خولتهم مواصلة الحكم بين أبناء طائفتهم بمقتضى شريعتهم النافذة قبل الفتح الإسلامي.
في العصر الحديث، تضمنت دساتير أغلب الدول العربية مواد تطبق الشريعة الإسلامية في الميراث والوصايا على المسيحيين، لأسباب سياسية واجتماعية لا علاقة لها بالشرع، الذي لم يشترط ذلك، وقد أعلنت الدولة الأردنية مرارًا أن ليست هناك أية موانع شرعية أو قانونية لقانون ميراث للمسيحيين يعطي الأنثى حصة الذكر نفسها، إضافة لمواد أخرى تتعلق بحق كتابة الوصايا.
بناء على ما تقدم، شكل مجلس الكنائس لجنة من كهنة ومختصين لإعداد مسودة قانون جديد، حيث انتهت من إعداد المسودة مؤخرًا وفقًا للأسس المحددة في الدستور الأردني والمبادئ المستقاة من الكتاب المقدس. وتكمن أهمية هذا الجهد في كونه خطوة إيجابية حول إعطاء المرأة المسيحية حقوقا متساوية، بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، وبالتوافق مع الدولة الأردنية، لكن المشكلة تكمن في إقرار هذا القانون من قبل مجلس الأمة الأردني، الذي يضمّ عددًا من الذين يعارضون القانون تحت ذرائع لا تصمد أمام الحقائق، وهي ذرائع اجتماعية وسياسية بامتياز، لا علاقة لها بالدين من قريب أو من بعيد.
علينا الاعتراف بأن ثمة فئات اجتماعية من الأديان كافة عملت تاريخيًا على إخراج الإناث ورفض توريثهم بالكامل حتى بمقدار حصتهم الشرعية من الإرث، وعلى الرغم من تقلص هذه الممارسة، إلا أنها لا تزال حاضرة في المجتمع الأردني وتحتاج لمشروع توعوي لأن هذه الممارسات لا يقرها الشرع إطلاقًا. علاوةً على ذلك، ثمة فئة ثانية ترى وجوب تعظيم حصة الذكر عن الأنثى، ليس من باب الدين، ولكن من باب التعصب الذكوري الذي يتذرع بأن الذكر يتحمل العبء المالي الأكبر في الأسرة ولذا يجب تعظيم حصته، أو محاولة إبقاء الملكية بين الذكور من أسرة المتوفى ورفض دخول الأنسباء من عائلات "أخرى".
أما في ما يتعلق برفض بعض الأشخاص المسيحيين تساوي الإناث مع الذكور في الميراث، فإن الحجة الرئيسية المعلنة لهم هي "عدم المساس بالنسيج الاجتماعي الأردني" والتفريق بين المسيحيين والمسلمين، هذا التبرير غريب لأن القوانين التي تحكم الأحوال الشخصية للمسيحيين مختلفة حاليًا عن تلك التي تحكم المواطنين المسلمين. فلماذا هذا الادعاء حين يتعلق الموضوع بالميراث فقط؟ ولو صح هذا الادعاء، فلماذا لا يطالب هؤلاء بتطبيق الشريعة الإسلامية على المسيحيين في أمور الأحوال الشخصية كافة بحجة عدم المساس بالنسيج الاجتماعي؟ واقع الحال أن النسيج الاجتماعي الأردني أثبت صلابته منذ قدوم الإسلام، وعاش المسلمون والمسيحيون في هذا البلد بأمان عبر العصور، حتى في الأزمان التي كانت فيها قوانين ميراث خاصة بالمسيحيين، وهو نسيج لن يتأثر بقانون الميراث المسيحي الذي لا يعترض عليه الشرع الإسلامي في أي شكل من الأشكال.
أخشى بل أزعم أن المعارضة لهذا القانون ليس لها علاقة بالدين، ولا بالخوف من النسيج الاجتماعي، ولكن بعقلية ذكورية سادت مجتمعاتنا لفترة، وهي عقلية بحاجة لتشريعات تواجهها وتحد منها، فتمكين المرأة ليس ترفًا، ولم يكن يومًا، بل ضرورة لتقدم المجتمع من النواحي كافة، الاقتصادية منها كما الإنسانية، وفي حين أدرك أن هذا المقال سيجلب لكاتبه متاعب عدّة، فإنني أعتقد جازمًا بضرورة وقفة مجتمعية لإقرار القانون، لأن الموضوع لا يتعلق بالدين قدر تعلقه بتقدم المجتمع والنظر إلى المرأة نظرة مساواة لا فوقية فيها.