نحن في شهر محرّم من التقويم الهجري، والذي يُعدّ فترة رثاء وعزاء عند الشيعة، إذ يحيون خلاله ذكرى استشهاد الإمام الحسين. على مرّ القرون، أدّت الطقوس التي تُمارَس خلال شهر محرّم دورًا أساسيًا في الحفاظ على زخم أبناء الطائفة الشيعية وتعزيزه، وساعدت في الإبقاء على السرديات والأساطير المرتبطة بالطائفة الشيعية ونشر رؤيتها للعالم.
خلال شهر محرّم، تتزاحم فرق دينية وإيديولوجية وسياسية عدة داخل الطائفة الشيعية للتأثير في شكل المراسم ومنح شعائرها معانيَ وقصصًا تجسّد معتقداتها. تقدّم هذه التيارات تفسيرات مختلفة للاستشهاد، وتُدرجه في سياق الشؤون الراهنة والواقع المعيوش. هذا العام، حلّت هذه الذكرى في وقتٍ بات التشيّع أشبه بعقيدة الدولة، إن لم يصبح "الإيديولوجيا الحاكمة" بعد.
فقد صوّت مجلس الوزراء العراقي مؤخّرًا على اعتبار عيد الغدير من كل عام عطلة رسمية. وهو اليوم الذي خطب فيه النبي محمد خطبة عيَّن فيها الإمام علي بن أبي طالب، والد الإمام الحسين، مولّى للمسلمين من بعده. وفقًا للمروية الشيعية، علي هو الإمام الأول، وقد طالبت المجموعات الشيعية منذ سقوط نظام صدام حسين في العام 2003 بأن يصبح يوم الغدير عطلة رسمية. وفي أوائل شهر تموز/يوليو، ألقى رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني كلمة لإحياء ذكرى يوم الغدير أمام حشد كبير ضمّ سياسيين ونوابًا ومسؤولين في الدولة. وقد أقام هذه الاحتفالية الإطار التنسيقي، وهو الائتلاف الشيعي الحاكم في العراق، ووُضعت لافتة ضخمة خلف السوداني، كُتب عليها الشعار التالي: "إطارنا قوة وغديرنا منهج".
يعبّر هذا التطور الأخير عن حالة تسارعت وتائرها خلال السنوات الأخيرة، إذ أصبحت الرموز والصور الشيعية تهيمن بشكل متزايد على الحيّز العام. ربما يعكس هذا المنحى الواقع الديمغرافي في العراق حيث يمثّل الشيعة غالبية السكان، لكنه يتّخذ أيضًا طابعًا سياسيًا في جوهره. يرتبط هذا التأكيد على الهوية الشيعية على نحو وثيق بالصراع على السلطة وبالتسلسل الهرمي السلطوي الناشئ، الذي يتجلّى من خلال الجهود الرامية إلى الهيمنة، رمزيًا، على الفضاء العام وإعادة ترسيم حدود ما هو مقبول فيه.
تسلِّط عملية تشيّع الفضاء العام الضوء على ثلاثة وقائع متعلّقة بالسلطة في العراق اليوم. أولًا، على الرغم من انخراط المجموعات الشيعية السياسية والدينية والمسلّحة رسميًا في ترتيبات تقاسم السلطة مع القوى السنّية والكردية، فإنها ضمنت سيطرتها على مقاليد السلطة الفعلية في الدولة. لهذا السبب، باتت المجموعات الشيعية عمومًا أكثر ميلًا إلى إظهار غلبتها وتفوّقها، وأقلّ مراعاةً لحساسيات الطوائف الأخرى.
وخير دليل على ذلك انتشار الصور المرتبطة بشخصيات شيعية في بغداد، ومن ضمنها الجداريات والتماثيل لأبي مهدي المهندس، الذي كان رئيس أركان هيئة الحشد الشعبي، وهي عبارة عن ائتلاف من الفصائل المسلحة تضطلع فيه المجموعات الدينية الشيعية بدور مهيمن؛ وأيضًا لقاسم سليماني، الذي قاد فيلق القدس التابع لقوات حرس الثورة الإسلامية الإيرانية. وقد قُتل الرجلان في هجوم نفّذته طائرة أميركية مسيّرة في كانون الثاني/يناير 2020. وتبدّى ذلك أيضًا من خلال قيام ديوان الوقف الشيعي بتوسيع سيطرته على المساجد والمباني المتنازَع عليها مع ديوان الوقف السنّي.
ثانيًا، صحيحٌ أن مثل هذا السلوك يُظهر ثقة متنامية في صفوف الشيعة مقارنةً مع الطوائف والإثنيات الأخرى، إلّا أنه يكشف أيضًا عن بعض القلق في أوساط المجموعات الإسلامية الشيعية الحاكمة التي شهدت تحدّيًا غير مسبوق لهيمنتها من داخل الطائفة الشيعية خلال احتجاجات تشرين في فترة 2019-2020. لذا، ترغب الأحزاب الشيعية الحاكمة، من خلال السعي إلى فرض وجودها ونشر رموزها، في توليد انطباع عن قوّتها الراسخة وإثارة شعور بالألفة في المجتمع، ما من شأنه أن يسهم في تهدئة قلقها. في غضون ذلك، عملت وسائل الإعلام والشخصيات الإعلامية المرتبطة بالمجموعات الشيعية على إنتاج خطاب سلطوي يبثّ الخوف في نفوس المواطنين الشيعة من خسارة النفوذ الشيعي ومن خطر انتشار الفوضى. وقد عبّر رجل دين شيعي بارز عن هذه المخاوف حين خاطب الحضور قائلًا ما مفاده، لو تعيّن الاختيار اليوم بين العيش في الفساد أو العيش في الفوضى، فالفساد هو أهون الشرّين.
ثالثًا، ينبع هذا التأكيد على الهوية الشيعية أيضًا من الشرخ القائم داخل المعسكر الشيعي بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر، والذي اتّسع بعد انتخابات العام 2021. وقد تجلّت معالم هذا الشرخ في التنافس الخطابي الدائر بين الطرفَين لإظهار من هو الأكثر تفانيًا في انتمائه الشيعي وتمسّكًا بالمبادئ الشيعية الأساسية.
إن مظاهرات أنصار التيار الصدري واقتحام السفارة السويدية في بغداد بعد إقدام لاجئ عراقي في السويد على حرق نسخة من المصحف، انطلقت بدعوة من الصدر كتعبير عن انتمائه الراسخ إلى الإسلام. في مثل هذه المناسبات وغيرها، انتقدت وسائل الإعلام التابعة للتيار الصدري استعداد الإطار التنسيقي للمساومة من أجل الاحتفاظ بالسلطة، وهي رسالة كرّرها الصدر الذي يلجأ بصورة متزايدة إلى الشعبوية الدينية بعد "اعتزاله العمل السياسي" العام الماضي. فحديثه عن أن خصومه "الفاسدين" منعوه من تطبيق الإصلاحات يقترن في الكثير من الأحيان بعبارات دينية، وأخروية في بعض الأحيان.
لمواجهة خطابات الصدر الشديدة اللهجة، طالب حزب الدعوة، وهو فصيل بارز في الإطار التنسيقي، بإصدار تشريع جديد يجرّم انتقاد رجال الدين الشيعة البارزين أو المساس بهم. أتت هذه الخطوة بعد اعتداء أتباع التيار الصدري على مقرات حزب الدعوة على خلفية مزاعم بأن أعضاء من الحزب أدلوا بتصريحات مسيئة بحقّ محمد صادق الصدر، والد مقتدى ومؤسّس التيار الصدري. يخوض أنصار التيار الصدري وخصومهم منافسة يحاول فيها كلٌّ من الجانبَين أن يبدو محافظًا أكثر وإسلاميًا أكثر ومتجذّرًا أكثر في المبادئ الشيعية من نظيره. لكن هذا الواقع يخفي في الكثير من الأحيان الدوافع الفعلية وراء العداء، والمرتبطة بأحقاد شخصية ومنافسات فئوية على السلطة والموارد.
في هذا السياق، تعبّر الطقوس الممارسة خلال شهر محرّم عن تحوّل التشيّع إلى إيديولوجيا للحفاظ على الوضع القائم على الرغم من أنه كان منصة لمواجهة الوضع القائم. ويتجلّى ذلك من خلال الأدوار التي يؤدّيها "قرّاء المنبر الحسيني" الذين يتلون القصائد الحسينية وحكايات استشهاد الحسين وأصحابه، والذين ازدهر نشاطهم بشكل ملحوظ منذ العام 2003. وفي حين أن بعض القرّاء المعروفين قاموا بالتلاوة في مجالس نظّمها سياسيون شيعة مثل القائد البارز في الإطار التنسيقي عمار الحكيم، استخدم آخرون هذه المنابر لانتقاد النخبة الحاكمة وفسادها.
يشهد التشيّع في العراق، الذي ازداد زخمه بعد سنوات من النزاع العنيف والصراع على السلطة، خلافات داخلية، على غرار معظم الهويات الجمعية في فترات انعدام الاستقرار واللايقين والاضطرابات. إن الطائفة الشيعية في البلاد يتجاذبها إذًا توجّهان متناقضان، الأول هو تصنيفها لنفسها كقوة ثورية مستلهمةً نموذج الحسين، والثاني هو دورها الحديث كعقيدة تلجأ إليها الأوليغارشية الشيعية الحاكمة في العراق لمقاومة التغيير والحفاظ على الوضع القائم.