بعد ثلاثين عامًا من النزاع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان على المناطق المتنازع عليها من جمهورية آرتساخ غير المعترف بها دوليًا والتي يقطنها الأرمن حتى اليوم، يوشك نزاع ناغورنو-كاراباخ على طيّ صفحاته الأخيرة. فقد بسطت القوات الأذرية بين 19 و20 أيلول/سبتمبر سيطرتها على مناطق أرمينية مُلحِقةً الهزيمة بالمقاتلين في هذا الإقليم الانفصالي. قد يعتقد كثرٌ في الشرق الأوسط أن هذه المنطقة الجبلية النائية في جنوب القوقاز لا تتّسم بأهمية كبرى. لكن إقليم ناغورنو-كاراباخ ليس فقط على مقربة منهم جغرافيًا، بل تؤدّي الجهات الأساسية المنخرطة في النزاع، وهي تركيا وروسيا وإيران، دورًا محوريًا في أحداث الشرق الأوسط. ليس هذا فحسب، بل يحمل نزاع ناغورنو-كاراباخ أبعادًا أخرى أيضًا.
على نحو مُلفت، تحاكي المرحلة الأخيرة من هذا النزاع جوانب أساسية من الصراع السوري. ويبدو أن ثمة قواسم مشتركة تجمع بين الرئيسَين بشار الأسد وإلهام علييف. فهما زعيمان سلطويّان "حديثان" متقاربان في العمر، ورثا الحكم من أبويهما، ويقبعان بانتظام ضمن أدنى مستويات تصنيف مؤشّر الديمقراطية. وقد استخدما أساليب متشابهة للتعامل مع المناطق الخارجة عن سيطرتهما والتي يقطنها سكان متمرّدون ومعادون لحكمهما. لا بدّ إذًا من طرح السؤال التالي: ماذا يكشف لنا الصراع السوري عن الفصل الأخير من نزاع ناغورنو-كاراباخ؟
في العام 1988، سعى هذا الإقليم المتمتّع بالحكم الذاتي إلى الانفصال عن أذربيجان السوفياتية والانضمام إلى أرمينيا السوفياتية، ليتحوّل الخلاف على الإثر إلى صراع مسلّح. وفي مطلع التسعينيات، استولى الأرمن المحلّيون، بمؤازرة من جمهورية أرمينيا، على الإقليم ومعه مساحات واسعة من الأراضي الأذرية، ما أسفر عن نزوح الكثير من السكان الأذريين. وفي العام 2020، تمكّنت باكو بفضل الدعم التركي والإسرائيلي من استعادة السيطرة على الأراضي التي خسرتها، ومن ضمنها أراضٍ واقعة في جمهورية آرتساخ. وعلى الرغم من انتشار الخطاب القومي القائم في الغالب على شيطنة كل طرف للآخر، واقع الحال أن الطرفَين ارتكبا جرائم. فقد نفّذ الأرمن مجزرة خوجالي بحق المدنيين الأذريين في العام 1992، وارتكب الجنود الأذريون أعمال عنف أيضًا، شملت عمليات قطع رؤوس بحق الأرمن في ناغورنو-كاراباخ بعد حرب العام 2020.
وقد انتهت حرب العام 2020 بعد أن توسّطت روسيا لإبرام اتفاق وقف إطلاق النار في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، ووُضع إقليم ناغورنو-كاراباخ بموجبه تحت رحمة قوة حفظ السلام الروسية وقوامها 2,000 جندي. فقد أرادت موسكو حماية السكان الأرمن المحليين وضمان وصولهم إلى أرمينيا عبر ما يُسمّى بممر لاتشين، وهو الرابط البرّي الوحيد بين ناغورنو-كاراباخ والعالم الخارجي. لكن في الواقع، تعدّت أذربيجان على أراضي إقليم ناغورنو-كاراباخ، قبل أن تفرض عليه حصارًا كاملًا بدءًا من تموز/يوليو 2023، في ظل تقاعس موسكو، كي لا نقول تواطؤها الضمني مع أذربيجان.
على المستوى السياسي، عمل كلٌّ من الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة بشكل نشط على خط الوساطة بين يريفان وباكو، ونتج عن ذلك وضع مسودتَين لاتفاق سلام خلال العام الفائت، الأولى برعاية روسيا والثانية برعاية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقد اعترفت أرمينيا بوحدة الأراضي الأذرية، وبأن إقليم ناغورنو-كاراباخ جزءٌ من دولة أذربيجان. في غضون ذلك، تدهورت تدريجيًا العلاقات بين أرمينيا وروسيا المتحالفتَين منذ وقت طويل، فيما تحسّنت العلاقات بين موسكو وباكو. لكن هذا الواقع جعل وضع الإقليم أخطر من أي وقت مضى، ما دفع بأذربيجان إلى شنّ هجوم بين 19 و20 أيلول/سبتمبر وتحديد مصير الإقليم باستخدام القوة العسكرية.
تشابه النهج الذي اعتمدته أذربيجان لحلّ مشكلة إقليم ناغورنو-كاراباخ بشكل مُلفت مع النهج الذي اتّبعه الأسد في تعامله مع معاقل المعارضة في جميع أنحاء سورية بين العامَين 2014 و2018. ففي الحالتَين، تمثّلت الخطوة الأولى الحاسمة في عزل مناطق المعارضة عن العالم الخارجي. ففي حمص مثلًا، قطع النظام في العام 2014 بشكل فعّال مسالك الإمداد بينها وبين لبنان وضيّق تدريجيًا الحصار المفروض على الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة. واستخدمت قوات النظام لاحقًا تكتيكات مشابهة ضد معاقل المعارضة في محافظة ريف دمشق.
وفي إقليم ناغورنو-كاراباخ، بدأت أذربيجان في كانون الأول/ديسمبر 2022 بالسيطرة تدريجيًا على ممر لاتشين، وفي تموز/يوليو 2023، أغلقت القوات العسكرية الأذرية الممر بالكامل، في انتهاكٍ لاتفاق وقف إطلاق النار المُبرم في تشرين الثاني/نوفمبر 2020. لم تحرّك روسيا ساكنًا لمواجهة هذه الخطوات وأصبح الإقليم تحت رحمة أذربيجان، وحاكى ذلك إلى حدٍّ كبير كيفية تحوُّل معاقل المعارضة في سورية إلى سجون كبيرة تحت رحمة قوات النظام.
صحيحٌ أن الوضع الإنساني في إقليم ناغورنو-كاراباخ لم يصل إلى الدرك الذي شهدناه في مضايا مثلًا، حيث عانى السكان من سوء تغذية حاد، إلا أن تقارير كشفت عن نقص في الأدوية والمواد الغذائية بما فيها حليب الأطفال، بعد مرور ثمانية أشهر على حصار الإقليم. علاوةً على ذلك، عمدت أذربيجان إلى قطع إمدادات الغاز والكهرباء التي تصل من أرمينيا إلى إقليم ناغورنو-كاراباخ عبر الأراضي الأذرية. وفي 21 آب/أغسطس، طالب جميع المشاركين في اجتماع مجلس الأمن تقريبًا أذربيجان بإعادة فتح ممر لاتشين. وبدا واضحًا في الحالتَين السورية والأذرية انتهاج سياسة عُرفت في سورية بـ"التجويع حتى الاستسلام". فلم تعد الوسائل المُستخدمة تقتصر على فرض حصار لأغراض عسكرية، بل باتت تنطوي أيضًا على استخدام المساعدات والموادّ الغذائية وغيرها من الإمدادات كسلاحٍ لإرغام السكان على الاستسلام.
وفي إطار استخدام المساعدات كورقة ضغط، أقامت أذربيجان في نيسان/أبريل الماضي نقطة تفتيش عند ممر لاتشين لمراقبة حركة المرور، ما تعارض مع اتفاق وقف إطلاق النار للعام 2020. وفي تموز/يوليو، أقفلت الممر بالكامل بحجة أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تهرّب سلعًا غير مصرّح بها إلى داخل إقليم ناغورنو-كاراباخ. وبعد إحكام باكو قبضتها على ممر لاتشين، اقترحت فتح طريق بديل، لا يمرّ عبر أرمينيا بل عبر أذربيجان، وكان ذلك شبيهًا بعملية إيصال المساعدات الإنسانية عبر خطوط النزاع في سورية، والتي انطوت على تسليم المساعدات من دمشق عبر الخطوط الأمامية وخضوعها بالكامل تقريبًا لسيطرة النظام السوري.
ساعدت الضغوط الدولية على دخول المساعدات إلى إقليم ناغورنو-كاراباخ في 18 أيلول/سبتمبر عبر طريقَين، وهما ممر لاتشين والطريق البديل عبر مدينة آغدام الأذرية. وفي أعقاب هجوم 19 و20 أيلول/سبتمبر، أُرسلت مساعدات إضافية إلى المنطقة المدمرة. وشكّل ذلك انفراجًا بالنسبة إلى البعض، لكن التجارب السورية كشفت أن الطرق البديلة ليست سوى أداة أخرى في أيدي الأنظمة السلطوية لتعذيب السكان المحاصرين من خلال إغلاق هذه الممرات وفتحها بحسب أهوائها، واستخدام حجة السيادة الوطنية للتصدّي للضغوط الدولية.
إن خطاب النظامَين السوري والأذري متشابه. فأذربيجان صوّرت نفسها كطرف بنّاء يفضّل الحوار، إذ عرضت على أرمن إقليم ناغورنو-كاراباخ إعادة دمجهم اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا في المجتمع الأذري، وضمان حقوقهم التعليمية والثقافية والدينية والانتخابية، "لأن أذربيجان مجتمع حر"، على حدّ تعبير علييف. وعرض الجانب الأذربيجاني أيضًا منح العفو للذين يقومون بتسليم أسلحتهم. يشبه هذا الخطاب حديث النظام السوري عن "العودة إلى حضن الوطن" من خلال إعادة دمج السوريين المقيمين في مناطق المعارضة. وتحمل هذه العملية في طياتها مخاطر جسيمة، ولا سيما نظرًا إلى لجوء نظام الأسد إلى ممارسة التعذيب والاحتجاز التعسفي، أو غياب دولة القانون أو القضاء العادل.
من غير الواضح بعد إلى أي مدى ستُترجم باكو أقوالها إلى أفعال، لكن تضعف قيمة عرضها حين يفكر المرء بأنها رفضت تقديم ضمانات أمنية للأرمن إذا بقوا في الإقليم. إضافةً إلى ذلك، تشير عوامل عدة إلى أن خطة إعادة الدمج التي أعلن عنها علييف قد تكون مجرد حيلة مريبة، وهذه العوامل هي: افتقار أذربيجان إلى نظام قضائي مستقل لجميع المواطنين؛ وسجلّها المُقلق بسبب ارتكابها "إبادة ثقافية" بحق مواقع التراث الأرمني في أذربيجان، أذيعُها صيتًا تدمير عشرات الآلاف من المنحوتات الحجرية القديمة التي تحميها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)؛ وارتكابها انتهاكات مروّعة لحقوق الإنسان، مثل عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، والتعذيب، وقطع رؤوس المدنيين الأرمن؛ وقمعها الشديد للمعارضة المحلية.
في حالة سورية، كانت تدابير إغلاق مناطق المعارضة وفرض الحصار عليها وشيطنتها، قبل عرض إعادة السكان إلى "حضن الوطن"، تهدف إلى استعادة النظام سيطرته على الأراضي إنما من دون السكان "المثيرين للمشاكل". وبين العامَين 2016 و2018، تم تهجير حوالى 200,000 شخص من مناطقهم ونقلهم بواسطة حافلات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بسبب عدم تعويلهم على حسن نية النظام.
لقد وصلت المجموعات الأولى من الأرمن الذين تم إجلاؤهم من إقليم ناغورنو-كاراباخ إلى الأراضي الأرمينية. وينبغي الانتظار لمعرفة ما إذا سيتم في نهاية المطاف إخلاء المنطقة جزئيًا أم كليًا من السكان الأرمن. في مطلق الأحوال، لا يزال احتمال تكرار السيناريو السوري قائمًا، أي إجلاء السكان وإحكام أذربيجان قبضتها على أراضٍ لا شعب فيها، أو أراضٍ يقطنها شعبٌ مغلوب على أمره. وما زالت الشوارع الخالية في الكثير من قرى سورية وبلداتها ومدنها تردّد أصداء هذه القصة المحزنة حتى اليوم.