بعض أكثر الكتب الثاقبة وأغناها بالمعلومات عن النكبة التي تعرّض لها السكان العرب في فلسطين على أيدي القوات الصهيونية في العام 1948 كتبها مؤرخون إسرائيليون تصحيحيون. ويُعدّ من بين أبرزهم آفي شلايم الذي صدر له في الآونة الأخيرة كتاب يكشف الكثير ويحمل عنوان Three Worlds: Memoirs of an Arab-Jew (ثلاثة عوالم: مذكرات عربي يهودي).
شلايم معروفٌ لوضعه كتابَين مهمَّين يعيدان تقييم العلاقات العربية الإسرائيلية. الأول بعنوان Collusion Across the Jordan: King Abdullah, the Zionist Movement, and the Partition of Palestine (تواطؤ عبر نهر الأردن: الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين) (1988)، وتناول فيه كيف توصّلت الحركة الصهيونية والملك عبد الله إلى اتفاق ضمني بتقسيم فلسطين بينهما. وقد أُعيد إصدار الكتاب بنسخة منقّحة ومُقتضبة بعنوان The Politics of Partition: King Abdullah, the Zionists, and Palestine, 1921–1951 (سياسات التقسيم: الملك عبد الله والصهاينة وفلسطين 1921-1951).
لعلّ شلايم اشتهر أكثر بكتابه الثاني The Iron Wall: Israel and the Arab World (الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي) الذي جادل فيه بأن المبدأ التأسيسي لإسرائيل والمنطق الطاغي على علاقاتها مع العرب هو إقامة الدولة خلف "جدار حديدي" من التفوق العسكري، "يعجز ]العرب[ عن هدمه"، على حدّ قول القيادي الصهيوني التصحيحي زئيف جابوتنسكي، الذي عبّر عن هذه الفكرة للمرة الأولى في مقالة شهيرة كتبها في العام 1923.
يصف شلايم في مذكّراته المراحل الأولى من حياته في بغداد حيث نشأ في كنف والدَين يهوديَّين عراقيَّين (مع أن اسم شلايم لجهة أبيه "كان على الأرجح اسمًا ألمانيًا توارثته أجيال عدة")، في بيتٍ تكلّم العربية وتشرَّب الثقافة العربية ونَعِم بالازدهار في العراق. يعتبر شلايم أن يهود العراق كانوا عربًا وأن الفلسطينيين هم الضحايا الأساسيون للحركة الصهيونية، لكنهم ليسوا الوحيدين، إذ كان يهود العالم العربي من بين ضحاياها أيضًا. فهو كتب قائلًا: "من خلال إضفاء عنصر الأرض على المسألة اليهودية، والذي لم تكن تملكه في السابق، عمّقت ]الصهيونية[ فجوة الاختلافات القائمة بين المسلمين واليهود في الفضاءات العربية. وبات اليهود منذ ذلك الحين يتماثلون مع الدولة اليهودية، سواء شاؤوا ذلك أم أبوا".
من المثير للاهتمام في هذه المذكرات مدى شعور شلايم، بعد انتقال عائلته إلى إسرائيل في العام 1950، بالتفاوت بين اليهود الأشكناز، واليهود المزراحيين الذين هاجروا من العالم العربي، إذ أبدت النخب الأشكنازية في إسرائيل سلوكًا متعاليًا تجاه اليهود الوافدين من الشرق. ويتحسّر شلايم على أن الهوية العربية في أوساط اليهود العرب "تمّت تنحيتُها باعتبارها من الماضي"، لصالح "ذهنية استكبارية واستشراقية وفق منظور مركزي أوروبي" تعاملت مع الوافدين الجدد من المزراحيين على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. يستذكر شلايم قائلًا: "كنت أشعر بحرج شديد من التحدث بالعربية في الحيز العام، لأنها كانت تُعتبر لغة قبيحة وبدائية في إسرائيل، والأسوأ لغة العدو".
كذلك، لا يبدي شلايم تساهلًا مع الأساطير المؤسِّسة لإسرائيل، بل ينظر إلى الصهيونية على أنها "حركة استيطانية استعمارية سعت بلا رحمة نحو تحقيق هدفها المتمثّل في إقامة دولة يهودية في فلسطين، حتى لو تخلّل هذه العملية حكمًا طرد أعداد كبيرة من السكان الأصليين". ولا يتردّد شلايم في وصف هذا "الظلم الجائر" بأنه يرقى إلى "التطهير العرقي". في أيامنا هذه، يسعى أكثر مؤيّدي إسرائيل حماسةً إلى فرض تعريفٍ لمعاداة السامية يشمل مثل هذه التصريحات الشديدة اللهجة، وينزع بالتالي الشرعية عنها، بصرف النظر عن أن كتّابًا يهودًا بارزين قد عبّروا في كتاباتهم عن أفكار مماثلة حول إسرائيل.
على سبيل المثال، كتب المفكر الماركسي الكبير حول الإسلام مكسيم رودنسون، الذي قُتل والداه في معسكر أوشفيتز-بيركيناو، مقالًا فذًّا في مجلّة Les Temps Modernes في العام 1967 أبدى فيه هذه الملاحظة: "لم يكن بوسع الرغبة في إقامة دولة يهودية، أو ذات غالبية يهودية في فلسطين العربية في القرن العشرين، إلا أن تؤدّي إلى شكل من أشكال الاستعمار، وإلى نشوء ذهنية عنصرية (وهذا طبيعي تمامًا من الناحية السوسيولوجية)، وفي نهاية التحليل إلى حدوث مواجهة عسكرية بين المجموعتَين العرقيّتَين".
وبالمثل، دافع بيني موريس، وهو أيضًا مؤرّخٌ تصحيحي مثل شلايم، علنًا عن قرار القوات الصهيونية بطرد الفلسطينيين. وفي مقابلة أجراها معه آري شافيت في العام 2004، وافق موريس، الذي كتب عن نشأة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، على الوصف الذي قدّمه شافيت عن ديفيد بن غوريون الذي كان رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في العام 1948 بأنه من "أنصار التهجير" – أو ما قد يسمّيه شلايم مُرتكبًا للتطهير العرقي. فقد أقرّ موريس بأن "بن غوريون كان بالطبع من أنصار التهجير". وأضاف: "لقد أدرك تعذُّر إمكانية قيام دولة يهودية في ظل وجود أقلية عربية كبيرة ومعادية ]لليهود[... لولا طرد الفلسطينيين، لما أمكن قيام دولة يهودية هنا". كذلك، اختار مؤرّخ إسرائيلي تصحيحي ثالث، إيلان بابيه، هذا العنوان: The Ethnic Cleansing of Palestine (التطهير العرقي في فلسطين) لكتابه الصادر في العام 2007. إذًا، قد تثير مواقف شلايم غضب المدافعين عن إسرائيل، لكن المطّلعين على تاريخها يستخدمون على نحو متزايد مصطلح "التطهير العرقي" المثير للجدل لوصف ما حدث.
لكن المُلفت في مذكرات شلايم ليس آراءه حول إسرائيل بقدر ما هو كيفية تطرّقه إلى مفهوم الهوية. لكن هذا المسار ليس خطًّا مستقيمًا. فعلى الرغم من أن شلايم يحمل على النخب الأشكنازية ازدراءها لليهود المزراحيين، يقرّ أنه حين التحق بالجيش الإسرائيلي قبل اندلاع حرب حزيران/يونيو 1967، كان ينظر إليه على أنه "بوتقة الانصهار الوطني التي لطالما طمحت إليها الإيديولوجيا الصهيونية، لكنها نادرًا ما حقّقتها". صحيحٌ أن شلايم أصبح لاحقًا من أبرز منتقدي إسرائيل، إلا أنه جَنَح في مرحلةٍ ما نحو يمين الطيف السياسي، قبل أن تدفعه أوضاع ما بعد الـ1967 إلى تغيير رأيه، وقبل أن يتحوَّل الجيش الإسرائيلي "إلى قوّة شرطة همجية تابعة لسلطة استعمارية همجية".
يتحدّث شلايم بصدق كبير في مذكراته، لكن المفارقة هي أن ذلك يحجب دوافعه. فهو صريحٌ في وصف تأثير الهجرة إلى إسرائيل على عائلته، ولا سيما على أبيه يوسف، الذي يُعدّ المحور الخفي في قصته. يصف شلايم حادثة وقعت في منتصف الخمسينيات حين كان جالسًا مع أصدقائه، فاقترب منه أبوه وراح يحدّثه بالعربية، لكن شلايم شعر بإحراج شديد لأن يوسف لم يكلّمه بالعبرية التي كان يواجه صعوبة في تعلّمها، وبالكاد أجابه. كتب شلايم بندم بالغ، قائلًا: "حين كنت طفلًا، لم أفكّر أبدًا كم كانت هذه الحادثة مهينة له".
في القسم الثالث من الكتاب، الذي يصف الوقت الذي أمضاه المؤلّف في ثالث "عوالمه الثلاثة"، يروي شلايم كيف أرسلته أمه ذات العزيمة القوية إلى بريطانيا لمتابعة دراساته، بسبب أدائه السيئ في المدرسة. غادر إسرائيل في أيلول/سبتمبر 1961 ولم يعد إليها لردحٍ طويل من الزمن. وصف رحيله قائلًا: "غادرت أرض الميعاد من دون أن أتلفَّتَ إلى الوراء". لماذا هذه الحديّة؟ يشرح شلايم: "اختبرتُ، للمرة الأولى في حياتي، شعورًا عارمًا بالتحرّر. فقد أصبحت بمفردي، منعتقًا من قيود المدرسة وضغوط مجتمع يهيمن عليه الأشكناز".
مع ذلك، يبقى القارئ في حيرة من أمره حول شيء واحد. إلى أي مدى يمكن اعتبار أن استياء شلايم من إسرائيل هو نتيجة وعيه المتزايد وعدم رضاه عن مجتمع قائمٍ على الظلم المُمارَس بحق الفلسطينيين؟ أو إلى أي درجة يُعتبر هذا الأمر متجذّرًا في ما اختبرته عائلته المفكّكة في إسرائيل؟
الإجابة على هذَين السؤالَين ليست سهلة. فواقع أن عائلة شلايم أُرغمت على مغادرة العراق والذهاب إلى إسرائيل للانضمام إلى ما كان آنذاك مجتمعًا محليًا من اليهود المزراحيين المغبونين، أكسبه حسًّا مرهفًا أكثر لمحنة الفلسطينيين. لكن هذه النتيجة لم تكن فورية، ما يدفع إلى التساؤل إن كانت الطريقة التي حطّمت فيها إسرائيل نفسية والده هي السبب وراء تبدّل موقف شلايم.
واقع الحال أن يوسف شلايم هو شخصية مأساوية في هذه المذكرات. لقد كان أكبر سنًّا بكثير من والدة شلايم مسعودة أو سعيدة، الشديدة العزم، ونَعِم بالازدهار في العراق ولم يكن يومًا مقتنعًا بالانتقال إلى إسرائيل. كان زواجهما مدبّرًا، وعبثًا قاومت سعيدة زواجها بهذه السرعة. وحين انتقلت العائلة إلى إسرائيل، عجز يوسف عن التأقلم مع محيطه وفشلت مشاريعه التجارية القليلة. كذلك، انهارت مكانته الاجتماعية "بشكل هائل"، على حدّ تعبير ابنه. وسُرعان ما أصبح عاطلًا عن العمل يلازم البيت، واضطرّت سعيدة إلى البحث عن عمل لإعالة العائلة، فتعرّضت علاقتهما لضغوط كبيرة أدّت في نهاية المطاف إلى طلاقهما. ومن أجل إنقاذ شلايم من هذا الجو الكئيب، ما كان من سعيدة إلا أن أرسلت صبي العائلة المدلّل إلى بريطانيا.
في الكتاب مقطع حصيف يصف فيه شلايم كيف شرحت له زميلة يهودية عراقية اسمها ميراف روزنفلد حداد التقى بها في جامعة أوكسفورد، فترات الصمت الطويلة التي وقع فيها والد شلايم. رأت أن يوسف "وصل إلى بلد يعيش فيها يهود أوروبيون لا يملكون أدنى فكرة عن مدى ثراء حضارته أو عن موقعه ومكانته فيها. بل كانوا يميلون إلى اعتباره هو وأمثاله متخلّفين وغير متحضّرين. ما الهدف من التكلم مع هؤلاء الناس؟ فحتى لو أراد الحديث، لم يُتقن لغةً يتواصل بها معهم".
تلقى هذه الملاحظة الحذقة أصداء قوية لدى أي شخص من الشرق الأوسط يتفاعل بصورة منتظمة مع الغربيين. في الواقع، وبعيدًا عن التعميم، يميل الكثير من الغربيين إلى رؤية الثقافة العربية من منظور العنف والأسى السائدَين في الدول العربية. ولا يعبّر موقفهم عن التعاطف بقدر ما هو شكل غامض من أشكال الازدراء. لكن القدرة المتأصّلة في ثقافات المنطقة على مراعاة الفوارق الدقيقة، وغنى ما لا ينطق به اللسان، والطقوس المعقدة التي تعبّر عن الكرم والتفاعل الاجتماعي، والتفسيرات المتوارية خلف أنصاف الأقوال والالتباسات، تكشف كلها عن حنكة متبصّرة لا يتمتع بها الغربيون في الكثير من الأحيان، ولا يرونها عادةً. يبدو منطقيًا جدًّا أن يكون انطواء يوسف على نفسه مردُّه إلى هذا التصوّر الخاطئ العميق. لكن لا يمكن للمرء سوى أن يتساءل إن كان ذلك يساعد أيضًا على شرح مواقف ابن يوسف.