غالبًا ما يعيش المرء حياة ممزقة ومرعبة في ظل الإبادة الجماعية. ففي أعقاب مذابح العام 1915، أُرغم الكثير من الأرمن على العيش في المنفى، كضيوف في أرضٍ ليست أرضهم، ليقاسوا الفقر ويتجرّعون الذل اليومي الناجم عن فقدان الاستقلالية والاتّكال على الغير. لقد اقتُلعَت جذوري من جهة أمي حين هربَت مع عائلتها من مجزرة أضنة لتستقر في لبنان. واليوم، بُترَت جذوري مجدّدًا، من جهة أبي هذه المرة، بعد الهزيمة التي مُني بها الأرمن في إقليم ناغورنو-كاراباخ، المعروف في أوساط الأرمن باسم آرتساخ.
تحضرني ذكرى لأبي وهو يقول بفخر واعتزاز إن عائلتنا تتحدّر من مدينة آغدام الواقعة في أذربيجان اليوم. ويُروى أن الكثير من المثقّفين عاشوا هناك. يرقى تاريخ بناء مدينة ديكراناكيرد المسوَّرة في آغدام إلى عهد ديكرانوس الكبير في العصر الأول قبل الميلاد. خلال فترة 1905-1907، وقعت مذابح بين تتر القوقاز والأرمن، وتخلّلها اشتباكات عنيفة شهدتها آغدام، وأرغمت جدّي وجدّتي على الرحيل مجدّدًا والتوجّه إلى بلدة آجين التركية. لقد استقرّا هناك آملين أن تسنح لهما الفرصة ببداية جديدة، وفتح جدّي مصلحة لتصنيع حدوات الخيل. لكنه خسر والديه خلال المذابح التي ارتُكبت بحق الأرمن وهرب مجدّدًا، إلى جبل موسى في جنوب تركيا هذه المرة، قبل أن يكمل طريقه الطويل إلى لبنان. وحين وصل مع إخوته الستة، قرّر إخوته جميعًا متابعة طريقهم إلى أوروبا، أما هو فحطّ رحاله في عين المريسة وبقي وحيدًا في البلاد.
وهكذا، قُطع الاتصال نهائيًا بين جدّي وإخوته الستة، وما زلت أفكّر أحيانًا بأبناء أعمامي الذين لم ألتقِ بهم قط. ولا يسعني سوى أن أتخيّل جمال آغدام ومناظرها الطبيعية الخضراء وقلعتها الشامخة على قمة الجبل والحجارة القديمة التي تحيط بها. وتذهب بي المخيّلة حتى أكاد أتنفّس هواءها النقي وأتذوّق طعم مياهها المنعشة وأسرح بنظري نحو أُناسٍ يمتطون خيولهم بسلام.
وُلد أبي في بيروت في العام 1921. وبما أنني أتحدّر من عائلة نجت من المذابح الأرمنية، لم أفكّر يومًا أنني سأكون شاهدةً على صدمة كبيرة أخرى يتعرّض لها الأرمن. ولكن هذا تحديدًا ما حدث حين أُرغم عشرات آلاف الأرمن، من أصل 120,000 أرمني تقريبًا في آرتساخ، على الفرار بعد تسعة أشهر من الحصار الذي فرضته أذربيجان وفي أعقاب الهجوم العسكري الخاطف الذي نفذّته بين 19 و20 أيلول/سبتمبر. وقد وقع المدنيون الأرمن في الإقليم ضحايا القصف العشوائي وعمليات التطهير العرقي التي ارتكبتها باكو، فبدا الأمر وكأننا عدنا بالزمن إلى العام 1915، لنرى بيوت الأرمن تُهدم من جديد، وثقافتنا تُمحى وتُدمَّر بطريقة همجية جدًّا.
لا شكّ من أن لآرتساخ مكانة خاصة في قلوب أرمن الشتات، ولا سيما لدى الأرمن اللبنانيين الذين نجوا من مذابح العام 1915. أذكر خلال طفولتي الرسائل التي حرصنا على إرسالها إلى أطفال آرتساخ تعبيرًا عن تضامننا، والأموال التي جمعناها لمساعدة آرتساخ في الحفاظ على هويتها الأرمنية وعلى تاريخها الغني وآثارها وكنائسها ومتاحفها. لكن الآن، ضاع كل هذا من بين أيدينا. فقد ضربت أذربيجان عرض الحائط بإدانة المجتمع الدولي لممارساتها، وكذلك بالتحذيرات من احتمال ارتكاب إبادة، التي وجّهها معهد ليمكين لمنع الإبادة الجماعية. لقد خيّب العالم مجدّدًا آمال الأرمن. وواقع الحال هو أن المرء يُدرك أكثر المعنى الحقيقي للقسوة والوحشية حين يشاهد أمًّا تفقد اثنَين من أبنائها، في سنّ الثامنة والعاشرة، ثم تواجه الأمرَّين لنقل جثتَيهما إلى أرمينيا لدفنهما هناك؛ وأيضًا حين يرى أطفالًا يكتبون أسماءهم على جدران بيوتهم كي تبقى ذكرى منهم محفورة بعد رحيلهم. أعتقد أن هذا هو الجحيم بحدّ ذاته.
لم يحالفني الحظ كي أولد في أرض أجدادي الغابرين، لكنني ما زلت أحتفظ بإناء كان ملكًا لجدتي. وكنت أراها مرارًا في سنوات طفولتي وهي تبكي وتصلي أمام هذا الإناء، وكان يبدو لي هذا المشهد غريبًا. وخلال سنوات مراهقتي، كنت أرى أمي تضيء شمعة أمام هذا الإناء كل صباح وتتحدّث معه، وكأنه قادرٌ على سماع معاناتها. واليوم، بتّ أنظر إلى هذا الإناء فأفهم تصرفات أمي وجدتي. ففي داخله ذرّات ترابٍ من آرتساخ، وأصبح جزءًا من بيتي وتراثي وهويتي، وهو الشيء الوحيد العزيز على قلبي الذي أستطيع أن أهبه إلى طفلتَيّ.
على تلّة بالقرب من مدينة ستيباناكيرت يقع النصب التذكاري "نحن جبالنا"، الذي يصوّر رجلًا عجوزًا وامرأة يرمزان إلى الجدّ والجدّة في آرتساخ. لا، هذه القصة لم تنتهِ فصولها بعد. سنلتقي من جديد يا جدّي وجدّتي بين تلك الصخور والجبال.