شكّل الهجوم الضخم والمباغت الذي شنّته حركة حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر دفعة سريعة إلى الأمام لملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن نحو أي نتيجة؟ قد يكون تأثيره على أطراف النزاع في المدى القصير التراجع إلى الوراء والتقوقع، كلٌّ في فقاعته الخاصة، وتبنّي إجراءات قاسية، والتخلّي عن محاولة ربط التكتيكات القصيرة المدى بحسابات رصينة حول التداعيات البعيدة المدى. في مثل هذه الظروف، قد تؤدّي التكهنات المطّلعة ودبلوماسية النوايا الحسنة إلى حجب حالة اللايقين، لكن من المفيد أكثر ربما إبداء ملاحظة مفادها أن الفلسطينيين والإسرائيليين ماضون نحو المجهول.
ينبغي أن تكون رؤية العمى الأخلاقي أمرًا سهلًا، إلا أن العمى يعني عدم القدرة على الرؤية. لقد استُخدم الذكاء التكتيكي لحركة حماس من أجل تنفيذ ارتكابات أسفرت عن نتيجة أكثر دمويةً من مجزرة دير ياسين. ورحّب كثرٌ بذلك. وثمة آخرون كفّوا منذ فترة طويلة عن رؤية الوحشية الشديدة المتمثّلة في الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة، والذي تعود جذوره إلى ما قبل إحكام حماس سيطرتها على القطاع. وقد نجح الحصار على نحو واضح في إفقار مليونَي شخص في القطاع، أكثر مما نجح في تقويض قدرات حماس العسكرية.
لا أُبدي هذه الملاحظات لتحقيق توازن أكبر في الحسابات الأخلاقية أو لإلقاء اللوم على طرف أو آخر، بل ببساطة لأشير إلى أن حفنة قليلة جدًّا من المراقبين فقط قادرة على رؤية انتهاكات الطرفَين. فما من حسٍّ إنساني مشترك سيساعد على الأرجح في فهم الأمور، ناهيك عن توجيه الأحداث، على الأقل في المستقبل القريب. وفي الواقع، لا يبدو أن أحدًا يتولى قيادة دفة الأحداث في الوقت الراهن، أو بالأحرى، فإن من يقودون الأحداث ليست لديهم أدنى فكرة إلى أين يتوجّهون.
خلّفت السياسة التي انتهجتها إسرائيل تجاه غزة تداعيات كبيرة، لكن هدفها الأساسي المتمثّل في الحفاظ على الوضع القائم قد انهار. لذا، غالب الظن أن إسرائيل ستعمد إلى اجتياح غزة، وقتل الكثير من قادة حماس، وتُمعن على نحو أكبر في تدمير حياة المدنيين في غزة، ما سيفضي إلى تداعيات هائلة في المدى القصير لكن تأثيراته البعيدة المدى ستكون مجهولة. فهل ستحاول إسرائيل أن تحكم غزة؟ أم ستحاول أن تسمح للسلطة الفلسطينية في رام الله بإعادة فرض سيطرتها؟ إذا حدث ذلك، فهل ستتحوّل حماس إلى العمل السري؟ وكيف ستكون ردة فعل فلسطينيي الضفة الغربية المكتومة أصواتهم والذين يشعرون بحالة من الغربة والإقصاء؟
في غضون ذلك، تنمّ حملة حماس الشرسة عن درجة أقل من التفكير الجدّي حول التأثيرات البعيدة المدى من الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. وتبدو مدفوعةً بعزم مفاده أن قلب الترتيبات القائمة رأسًا على عقب سيحقّق نتيجة إيجابية. إذا كانت لدى قادة حماس خطة للاستمرار في النجاح الذي تحقّق، فهي سرية أيضًا، تمامًا مثل هجومها المباغت. سيتعيّن على الكثير من الأطراف إيضاح نواياهم (أو حسم مواقفهم) قريبًا، لكن غالب الظن أن الكثير من القرارات الدقيقة ستُتّخذ على عجل من جهات تجد أنفسها في وضع لا تفهمه تمامًا.
ستكون تحليلات كثيرة مدفوعة بمحاولة شرح الأمور على أساس نوع من الحسابات الواضحة، وستستند كلها تقريبًا إلى الافتراضات المسبقة التي يتبنّاها كل محلّل عن الأطراف الأساسية في هذا الصراع. فأنا من جهتي أميل إلى اعتبار أن عملية اتخاذ القرارات لدى حماس ناجمة في الغالب عن ردة فعل تجاه الضغوط التي تشهدها الساحة الفلسطينية لإطلاق شرارة المقاومة، وتجاه إفلاس القيادة الوطنية هناك. كذلك، ثمة فهم راسخ داخل حماس بأن قطاع غزة المبتور والمحاصر ليس نتيجة مقبولة. وعلى ضوء هذا الواقع، عمد بعض قادة حماس إلى جرّ الحركة نحو مسار من غير المعروف إلى أين سيقود.
مع ذلك، لستُ مستعدًا لوصف هذه الأحداث التي لم أتوقعها الأسبوع الماضي بأنها حتمية، بل سأكتفي بملاحظة بعض التوجهات الواضحة للعيان على المدى القصير. غالب الظن أن الفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون أن يتّخذ أحدٌ خطوة ما، سيلتفّون حول حماس وجرأتها، لكنهم لن يتمكنوا من تشكيل أي إطار للعمل الموحّد. أما الإسرائيليون المنقسمون بشدة، فسيعطون قادتهم شيكًا على بياض ويطلقون يدهم لاتّخاذ تدابير قاسية، إنما من دون التخلّي عن تراشق الاتهامات (والكثير منها مبرّرة) بحسب المعسكر الذين ينتمون إليه. وسيعكس المسار الدبلوماسي الإقليمي حالةً من الانقسام الحادّ، بدلًا من تجاوزها.
وحينما ينقشع غبار هذه الجولة من الصراع، سيكنّ الفلسطينيون والإسرائيليون مرارة أكبر لبعضهم البعض، لكن لن تكون لديهم بعد الآن الوسائل اللازمة لبناء مستقبل أقل عنفًا.